الإنسان المعطاء…الأحسن عيشاً
ألقى سماحة العلامة السيّد علي فضل الله، خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عددٍ من الشخصيّات العلمائيّة والسياسيّة والاجتماعيّة، وحشدٍ من المؤمنين، ومما جاء في خطبتيه:
عن أحد أصحاب الإمام الرضا(ع) علي بن شعيب قال: دخلت على الإمام الرضا(ع) فقال لي: يا علي من أحسن الناس معاشاً قلت يا سيدي: أنت أعلم به مني، قال: يا علي أحسن الناس معاشاً من حسن معاش غيره في معاشه… ثم قال: يا علي من أسوء الناس معاشاً؟ قلت: يا سيدي أنت أعلم به مني. ثم قال:"من لم يعش غيره في معاشه".
في هذا الحديث أراد الإمام أبو الحسن علي بن موسى الرضا(ع) ثامن أئمة أهل البيت(ع) أن يصحح الصورة التي ارتسمت في اذهان البعض في تقييمهم لمن هو أحسن عيشاً، ممن يعتبرون أن أحسن الناس عيشاً وأكثر الناس سعادة هو الذي يمتلك مالاً كثيراً أو موقعاً مميزاً أو بيتاً جميلاً أوعلاقات مميزة. فيما أسوأ الناس من لا يمتلك كل هذا…هذه النظرة وعلى أساسها تقيم الناس ونقيّم السعادة عندهم.
إن الإمام الرضا(ع) ومن خلال هذا الحديث يبين لنا صورة الإنسان السعيد والأحسن عيشاً، هو الذي يفيض وجوده خيراً على الذين يعيشون معه بحيث يترك في حياة الآخرين أثراً يذكّر به، يغير واقع حياتهم، ويجعلها أفضل من خلال ما يقدم إليهم ما يحتاجون اليه، أو مما يحتاج اليه الذين يأتون من بعدهم فيما أسوء الناس عنده هو الذي يستغرق في كهف ذاته، فذاته هي كل همّه وكل سعيه لا يبالي، إن عاش، بآلام الآخرين وحاجاتهم ومتطلبات حياتهم، يمر عليها مرور الكرام.
أيها الأحبة…
لم يكتف الإسلام في رسالته بدعوة الناس للإكتفاء بقيامهم بواجباتهم العادية من صلاة وصيام وحج وترك الحرمات من غيبة ونميمة وكذب وسرقة وإساءة إلى الناس… بل دعا الإنسان إلى دور فاعل في مجتمعه أكان مجتمعاً نلتقي معه في الدين أو نختلف معه، على الإنسان المسلم أن يترك بصمته في الحياة من حوله،وكلٌّ لهُ دَوره، بحيث يدخل إلى العقول والقلوب،وان يحدد وجوده في قضايا مجتمعه، حركة عدل وحرية وعمل وعمران.
ومن هذا الموقع يقول الإمام علي(ع): "عاشروا الناس معاشرة إن متم معها بكوا عليكم وإن عشتم حنوا اليكم".
يعني عيشوا بالصورة التي تتركون معها أثراً في نفوس الناس، يفتقدونكم إذا غبتم ويترحمون عليكم عند الموت، فلا يقولون بغيابكم ارتحنا، وصارت الأمور أحسن…
كونوا كما النحلة تغدو وتروح تبحث عن رحيق الأزهار، وليس أي رحيق، لتصنع عسلاً يكون للآخرين غذاء وشفاء وسرورا وحياة…
وقد اعتبر الإسلام العطاء من ميزات المؤمن. هو جزء من إيمانه وتقواه… ولذلك عندما تحدث عن المؤمن قال: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ*الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} (الأنفال/2-3)
فالمؤمن لا يقف عند حدود العبادات بل يحول العلاقة بالله الى خدمة لعياله، فالخلق كلهم عيال الله وأحبهم الى الله أنفعهم لعياله… لهذا كان الإنفاق من ميزات المتقين: {وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} (ال عمران/133-134)
هم ينفقون في كل الحالات، في اليسر والعسر، ينفقون حباً وعفواً وتسامحاً كما ينفقون مالاً وطعاماً… كلّه عطاء.
لهذا نجد في التشريع الإسلامي التأكيد على العطاء في الواجبات المالية من الخمس والزكاة:
{وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ…} (الأنفال/41)
إن الله فرض في أموال الأغنياء أقوات الفقراء فما جاع فقير وعري إلا بمنع الأغنياء وان الله محاسبهم ومعذبهم عذاباً أليماً.
ولم يقف الإسلام عند حدود الواجبات، بل حثّ على المستحبات: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم… (التوبة/103) لكنه لم يرد للصدقة أن تبقى في حدود المال، ففي حديث لرسول الله(ص):"على كل مسلم في كل يوم صدقة، قيل ومن يطيق ذلك يا رسول الله؟ قال إماطتك الأذى عن الطريق صدقة، وإرشادك الرجل الى الطريق صدقة وعيادتك المريض صدقة، وأمرك بالمعروف صدقة ونهيك عن المنكر صدقة…"
وورد أيضاً: "صدقة يحبها الله إصلاح بين الناس إذا تفاسدوا وتقارب بينهم إذا تباعدوا"
" أفضل الصدقة صدقة اللسان"
"عونك للضعيف من أفضل الصدقة"
"أفضل الصدقة إبراد الكبد الحرى"
"تبسمك في وجه أخيك صدقة"
أيها الأحبة…
لم يرد الإسلام للعطاء أن يحد بحدود الزمان والمكان، ولا المذهب والدين: "خيركم خيركم لاهله" " وعاشرونّ بالمعروف"، "ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف"{وَاعْبُدُواْ اللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالجَنبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُورًا } (النساء/36)
{لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ}(الممتحنة/8)
إبذل لأخيك دمك ومالك ولعدوك عدلك وانصافك وللعامة بشرك وإحسانك هذا ما يعلمنا إياه إمام المتقين:
"يا كميل مر أهلك أن يروحوا في كسب المكارم ويدلجوا في حاجة من هو نائم".
أيها الأحبة…
عندما تحدث الإسلام عن العطاء لم يرد له ان يكون عطاء الفرد بل دعا الأمة المسلمة أن تكون أمة الخير في تعاملها حتى مع الذين يختلفون معها: {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} ( ال عمران/104)
وأراد أن تكون الأمة التي تمد جسوراً مع الأمم الأخرى: { قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ}(آل عمران/64)
وأراد لها ان تكون الأمة التي تتفاعل مع بقية الحضارات: {…وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا…} (الحجرات/13)
لا تتنافروا ولا تتحاقدوا…
أيها الأحبة…
إن الذين يملكون طاقات يستفيد منها الآخرون ولا يبذلونها، يجمدونها لحساباتهم الخاصة أو يفرطون بها، هم خائنون لأمتهم ولإنسانيتهم، سارقون لقدراتها لأن طاقات الأفراد هي طاقات للجميع، ولهذا سيقفون للحساب والمسؤولية بين يدي الله … هكذا يريد لنا الإسلام أن نكون.
فقد ورد في الحديث عن الإمام الصادق: "إن الله لم ينعم على عبد نعمة إلا وقد الزمه فيها الحجة من الله فمن منّ الله عليه فجعله موسعاً عليه فحجته عليه ماله ثم تعاهده الفقراء بفرائضه ونوافله ومن منّ الله عليه فجعله قوياً في بدنه فحجته عليه القيام بما كلفه واحتمال من هو دونه ممن هو اضعف، ومن منّ الله عليه فجعله شريفاً في قومه جميلاً في صورته فحجته عليه ان لا يغمط حقوق الضعفاء لحال شرفه وجماله".
جاء رجل إلى رسول الله(ص) وقال له: "دلني على عمل إن أنا عملته دخلت الجنة، قال(ص): أنل مما أنالك الله، فقال الرجل: فإن كنت احوج ممن انيله قال انصر المظلوم قال: لا أريد الدخول بين المظلومين والظالمين، قال: اصغ للأخرق، قال فإن كنت أخرق ممن اصغ له، قال: أمسك لسانك الا عن خير، المهم أن تعطي أن تبدأه ولو بكلمة طيبة…
أيها الأحبة..
إن السعادة كل السعادة، عندما نزرع سعادة في قلب مهموم أو مغموم. عندما تغني عقلاً بالمعرفة. عندما تفتح قلباً على المحبة. عندما تساعد إنساناً وتقضي حاجة. عندما تغير واقعاً فاسداً. عندما تقيم عدلاً وترفع ظلماً. عندما تحول حياة إلى صدقة جارية تنفع الناس وكتاباً يُقرأ وولداً صالحاً.
هذه هي قيمة الحياة، وهذه هي السعادة الحقيقية. إذا أردتم أن تعرفوا ذلك عيشوا هذه القيمة، تأملوا في حياة كل الذين غادروا الدنيا، من هم الذين أبقتهم الحياة، ومن هم الذين لفظتهم ولم يعد لهم أثر فيها.
هذه الصورة هي التي نتمثلها في أجلى صورها وتعابيرها في ذكرى أربعين الحسين (ع) حين تشهد عليها ملايين الناس الذين قدموا من كل حدب وصوب شوقاً ولهفة يكابدون الاخطار ويتحملون المشقة ليعبروا بزيارتهم عن حبهم وعشقهم وولائهم لمن لم يبخل عليهم بعطاء الدم من أجل أن يكونوا أكثر وعياً ومسؤولية وفاعلية…لقد بقي الحسين حاضراً في الوجدان فيما الذين باعوا ضمائرهم وأحنوا هاماتهم لأجل دنيا لم تسلم لهم…لأجل مال، لأجل منفعة. ها هم لعنة للتاريخ وخارجه.
أيها الأحبة…
لقد حدد لنا الإمام الرضا الصورة التي نحيي بها ذكره وذكرى أهل البيت جميعاً عندما قال: "أحيوا أمرنا رحم الله من أحيا أمرنا" ولذلك سنبقى نحيي سيرة الحسين وكل الائمة وسنبقى نزورهم زيارة الواعين نزورهم بقلوبنا وعقولنا كما نزورهم بأجسادنا عندما نتشرف بمقاماتهم المقدسة.
السلام على كل السلسلة الطاهرة من أهل بيت رسول الله
السلام على الحسين يوم ولد ويوم استشهد ويوم يبعث حياً.
الخطبة الثانية
عباد الله، أوصيكم وأوصي نفسي بتقوى الله؛ هذه التَّقوى الَّتي نبلغها عندما نتوجّه بصدق في زيارتنا إلى الإمام الحسين(ع) قائلين له: "إنّ كان لم يُجِبك بدني عند استغاثتك، ولساني عند استنصارك، فقد أجابك قلبي وسمعي وبصري وجوارحي وكلّ كياني".
والإجابة الَّتي توصل إلى التّقوى ليست كلمة، بل هي مشاعر نعبّر عنها عندما تخفق قلوبنا بالحبّ لله كما أحبّ الله، وهي موقف نتّخذه عندما نأمر بالمعروف وننهى عن المنكر، وعندما نصغي إلى أصوات المظلومين والمقهورين والمعذّبين وآهاتهم، ولا ندير الظّهر لها، وعندما نقف في وجه الفاسدين والمفسدين ولا نخشاهم، وعندما نكون أحراراً، فلا نعطي إعطاء الذّليل ولا نقرّ إقرار العبيد، وعندما لا تسقطنا تحدّيات الباطل وضغوطه، ونقول: هوّن ما نزل بنا أنّه بعين الله…
عندما لا نرى الحياة إلا في أحضان العزة والكرامة، وعندما نرى الموت سعادة والحياة مع الظالمين برماً، عندها تتحقَّق أهداف زيارة الحسين(ع)، ونحصد نتائجها، ويصبح المشهد المليونيّ فاعلاً ومغيِّراً ومعبراً ومؤثّراً في كلّ السّاحات، ولا يبقى الحسين(ع) في التّاريخ، بل يكون في كلّ أرض وكلّ زمان، وعندها نصبح أقدر على مواجهة التّحدّيات.
لبنان
والبداية من قضيّة العسكريين المخطوفين، حيث تحقَّق الإنجاز الّذي طال انتظاره بعودة بعضهم إلى أهاليهم ووطنهم، بعد أن عاشوا طويلاً أيام رعب مع أهلهم ومحبيهم وكل اللبنانيين، ولن يكتمل هذا الإنجاز إلا بعودة الباقين، ونأمل أن تتسارع الجهود لإطلاقهم قريباً، رغم مشقّة الوصول إلى خاطفيهم.
ونحن في الوقت الَّذي نتوجَّه بالشّكر والامتنان والتّقدير إلى كلّ الّذين ساهموا في إنجاز هذا الملفّ المعقّد، وتجاوزوا الكثير من الحسابات لأجله، لا بدَّ من أن نبيّن أنَّ ما جرى لا ينبغي أن يبيّض صفحة من قاموا بجريمة الخطف والقتل والتّهديد، أو الّذين سهَّلوا لهم ذلك.. فهؤلاء تبقى صفحتهم سوداء، ولا يبيّضها أمر حصل مقابل مال أو لأهداف سياسيّة.. أو لتنفيذ بعض شروطهم، ولم يحصل بدافع إنسانيّ أو دينيّ.
ونحن نأمل، وفي ظلّ الثّمن الباهظ الّذي دفعه العسكريون وأهاليهم وكلّ اللبنانيّين، دراسة كل السبُل الكفيلة بمنع تكرار ما حصل، وجعل الحدود الشرقية عصيّة على العابثين، بعدما بدا واضحاً، وعلى الهواء مباشرة، مدى تواجدهم داخل الأراضي اللبنانية وعلى مقربة منها.. وهنا، لا بد من أن نقدّر للجيش اللبناني الجهد الذي بذله ويبذله في هذا الاتجاه، والتّضحيات الّتي يقدّمها، ومعه كلّ اللبنانيين.
وفي هذا الوقت، لا يزال اللبنانيون يعيشون في ظل المبادرة الأخيرة على أمل إنجاز حل قريب ينهي حالة الفراغ المستمرّ في سدّة رئاسة الجمهورية، لما له من تداعيات، ولمساهمته في تحريك عجلة الدّولة وحلّ المشكلات المستعصية والمتفاقمة الّتي باتت تقضّ مضاجع اللبنانيين، وليس آخرها النفايات، وتأمين المناعة الّتي يحتاجها لبنان في ظلّ تنامي صراعات المنطقة وتفاقمها.
ونحن في الوقت الّذي نرى أهمية هذه المبادرة التي ساهمت في تحريك هذا الملف وإخراجه من دائرة المراوحة التي كان فيها، فإننا ندعو إلى التعامل مع الاستحقاق الرئاسي على قدر كبير من المسؤولية، وهذا يتم عند أخذ الهواجس والمخاوف والحساسيات بعين الاعتبار، ومعالجتها، وعدم التنكّر لأيٍ منها، بعيداً عن صيغة: "أنا أو الطوفان".
إننا حريصون على أن يُعالج هذا الاستحقاق بصورة سليمة، وأن يحظى بأكبر قدر من التوافق، إن لم يحظَ بالتوافق الكامل. وهنا نعيد التشديد على ما قلناه سابقاً من أنَّ لبنان لا يمكن أن تحلّ فيه القضايا أو أن يتحقّق فيه استقرار على أساس رابح وخاسر أو منتصر ومهزوم، بل على أساس رابح ورابح، فهذا هو قدر اللبنانيين وهذا هو خيارهم.
قضيّة المناخ والبيئة
وفي مجال آخر، التقى العالم أخيراً في المؤتمر الدولي في باريس على قضية تهمّ كل إنسان يعيش على سطح الكرة الأرضية، ولا تقل خطورة عن الأزمات الكبيرة التي تهدد العالم، من الإرهاب الدولي أو إرهاب الجماعات والحروب، بل هي أخطرها، وهي قضية تبدّل المناخ، حيث يعاني العالم ارتفاع درجات الحرارة والتصحّر وقلة الأمطار، وفي الوقت نفسه، تتنامى ظاهرة الفياضانات والعواصف، وهذا يحصل في جانب كبير منه بفعل الانبعاثات الحرارية التي تسبّبها الغازات السامة الناتجة من احتراق مصادر الطاقة، من المعامل والمصانع والسيارات ومحطات الكهرباء، والاستعمال المكثّف للمبيدات الزراعية، وقطع الأشجار، والتجارب النووية، واستعمال الأسلحة الثقيلة وغير ذلك، ما يؤدي إلى ارتفاع حرارة الأرض.. الذي سيتسبب بكارثة، وبشكل تدريجي، إذا تجاوز درجتين مئويتين، كما يقول الخبراء.
إنّ المسؤولية في كلّ ذلك تقع على جشع الإنسان وعبثه بالطبيعة وإخلاله بالتوازن البيئي.. ولا سيما الدول الصناعية.. وقد نبَّه الله تعالى إلى خطورة ذلك، حيث قال في كتابه العزيز: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا}.
إنَّ على الدّول، ولا سيّما الدّول الصّناعية المتسبّبة بذلك أكثر من غيرها، أن تتخذ قراراً سياسياً بالالتزام بالضوابط الكفيلة بالحدّ من هذه الانبعاثات، كلٌ في إطاره، حتى على الصَّعيد الفرديّ، وهنا تأتي أهمية التثقيف بسياسة بيئيّة صحيحة، مع التأكيد أن الاهتمام بالبيئة هو جزء من الالتزام بالدين، فالله سبحانه وتعالى جعل الإنسان خليفة على الأرض ليعمرها لا ليعبث بها.. ولقد قال علي(ع) يوماً للناس: "اتقوا الله في عباده وبلاده، فإنكم مسؤولون حتى عن البقاع والبهائم".
مناهضة العنف ضد المرأة
وأخيراً، مرّ علينا في هذه الأيام اليوم العالمي لمناهضة العنف ضد المرأة.. ونحن في هذه المناسبة، نضمّ صوتنا إلى كل الأصوات التي تناهض العنف ضد المرأة، لأننا نرى أنّ ظلم المرأة أفحش الظلم، باعتباره يمس إنسانيّتها، ويمسّ أكثر بدورها كزوجة وكأم صانعة للرجال وللأجيال، ولكننا دائماً ننبّه إلى أنَّ معالجة العنف لا تتم بالتشريعات فقط مع ضرورتها، بل بإزالة أسباب العنف، وهي كثيرة، وهي أسباب سياسية واجتماعية واقتصادية وتربوية ودينية، فإن لم نعمل على إزالتها، فسوف تبقى الأوضاع سلبية، وستصيب المرأة والطفل وكل إنسان ضعيف، وحتى القوي، وهذا ما يحتاج إلى جهد تربوي وتنموي على مختلف المستويات، وإلى بثّ ثقافة السلام والوئام والمحبة وروح التسامح وكظم الغيظ على حساب لغة القوة والانفعال والتوتر.
إنَّنا نأسف أن يقارب البعض هذا الأمر من باب التَّصويب على الدين، وأنه هو السبب في آلام المرأة ومعاناتها، فالدين لم يكن يوماً مشكلة للبشرية، بل هو الحلّ إن أخذ من مصادره الصحيحة، وإن طبق وتحوَّل إلى مسار عمليّ في مختلف جوانب الحياة.
المكتب الإعلامي لسماحة العلامة السيد علي فضل الله