السيّد علي فضل الله متحدثا لـ «اللــــــواء الإسلامي»: رغم كل الحملات.. لن نتخلى عن خط الوحدة الذي كان «لذّة» للعلّامة الراحل
سنوات عديدة مرّت على غياب السيّد .. صاحب الوجه البشوش .. والعقل الراجح .. والفكر النيِّر ..واللسان الصادق .. والأعمال الصالحة… سماحة العلّامة السيّد محمد حسين فضل الله ..
سنوات مرّت .. وما زال علمه وفقهه واجتهاده وموقفه واضحا جليا مؤثرا بل… وسيداًً، كما كان صاحبه.. فلقد كان سيداً في أخلاقه .. وسيداً في مواقفه .. وسيداً في معاملاته.. وسيداً في تصرفاته… تماماً .. كما كان السيّد في تقبل معارضيه والتعامل مع مهاجميه.
وفي ذكرى رحيله نستذكر جميعاً كيف أن هذا البلد كان محور اهتماماته بكل من فيه، فأنشأ في سبيل خدمته المؤسسات وأقام المدارس وشيد المستشفيات ونشر العلم.
نستذكر … صرخات التحذير التي لطالما أطلقها في وجه من يفترض أن يكونوا حراس الفضيلة فقال: (اذا كنا نقتنع بالوحدة الإسلامية علينا ان ننـزل الى القاعدة، وربما تنطلق القاعدة التي ربيناها على الحقد لترمينا بالحجارة .. ولنعتبر هذه الحجارة وساماً لأن الذي يرجمك هو التخلف وليس الوعي …. فالتخلف هو الذي رجم الأنبياء في التاريخ)…
ونستذكر أيضا كيف أن الحضور القوي المستمر للعلّامة الراحل يؤكد أن الكبراء لا يرحلون وإن غابت أجسادهم… لأنه حضور يثبت بما لا يدع مجالاً للشك أن الفقيه والعالم والمجدد ليس بالألقاب ولا بالمناصب ولا بالمراكز ولا بالسلطة… وإنما هو بالعمل الصادق والقلب الصافي والنيّة الطاهرة..
إن رحيل العلّامة السيّد محمد حسين فضل الله منذ سنوات هو تأكيد على أنه الحاضر الأقوى الذي ما زال بيننا بعلمه وبعمله ومبراته ومؤسساته وإرثه الفكري وذريته العاملة الصادقة..
ولكن .. ماذا يقول السيّد علي فضل الله في أجواء هذه الذكرى..؟!
وكيف يقرأ مضامين الأجواء الملبّدة بغيوم التفرّق والتمزّق والتمذّهب التي تستقر فوق سماء بلادنا ومجتمعاتنا..؟!
وما هي كلمته لأحباب السيّد الراحل وأيضا …. لمن «عارضه»..!؟
أسئلة كثيرة جاءت إجاباتها في هذا اللقاء …
إنتماؤنا للدين قبل المذهب
{ في أجواء ذكرى رحيل العلّامة السيّد محمد حسين فضل الله ما هي الكلمة التي تتوجه بها للمسلمين كافة؟
– في أجواء ذكرى رحيل العلّامة المرجع المجدد السيّد محمد حسين فضل الله والذي كان شخصية وحدوية جامعة، وكان يدعونا كمسلمين سنة وشيعة إلى أن نعيش روحية الإسلام، وأن نعلن الانتماء للإسلام قبل الانتماء للمذهب.. وكان سيفاً مسلطاً على كل غلو وخرافة، وحصناً من حصون الوحدة الإسلامية والوطنية.. أتوجه إلى المسلمين بعامة وفي لبنان بخاصة إلى أن نعيش روحيته في التمسك بالإسلام الحنيف، ونبذ كل عصبية تبعدنا عن بعضنا.. وهنا لا ندعو إلى أن يتخلى هذا الفريق أو ذاك عن قناعاته والتزاماته، ولكن ألا نخلط ذلك بالعصبية القاتلة، فالالتزام هو نقيض العصبية، لأنه يدعونا لمحاورة بعضنا البعض وإدارة أي خلاف بالتي هي أحسن..
إنني أتوجه إلى كل الأحبة من أخوتي من المسلمين السنة والشيعة ألا يتحسّروا فقط على رحيل وغياب الشخصيات والرموز الكبيرة، لأن الغياب الأكبر هو غياب رسول الله ، وقد قال الله تعالى: {أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ…}.
إن رحيل الرموز وخصوصاً في هذه المراحل ينبغي أن يكون حافزاً لنا لتقصّي أثرهم والسير وفق منهجهم، ومضاعفة الجهود لتوحيد صفوف هذه الأمة التي تكاد الفتن تأكل أخضرها ويابسها، وأخشى أن أقول حاضرها ومستقبلها.
بين الفترة والأخرى نسمع بعض الأصوات التي تطلق هنا وهناك لتتهجم على مسيرة وعلم العلّامة الراحل كيف تقرأون هذا الأمر؟
– لقد عايش سماحة السيّد فضل الله هذه الأجواء، وقد تعرض في حياته لحملة قاسية ظالمة امتدت إلى 16 عاماً، ولكنه لم يرد على كل الذين حاولوا النيل منه ومن مسيرته الحافلة، وعملوا على تشويه صورته وتقطيع كلامه، إلا بالكلمة الطيبة ومن خلال المنهج القرآني: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ…} وأكثر من ذلك كان يقول بأن علينا ألا نُعطي هؤلاء الكثير من الوقت، بل أن نعالج وبالحكمة ما حاولوا زراعته من أحقاد وتشكيك في نفوس الضعفاء، وأن نستمر بعملنا، وسعينا للوحدة ومحاربتنا للغلو والخرافة، وأن نحمل همّ الإسلام في العالم.. أن نكون كباراً فلا تشغلنا حملاتهم عن القضايا الكبرى، وفي الوقت نفسه لا تدفعنا للتراجع عما نعتقد أنه يمثل المصلحة الإسلامية، وقد كان يردد على طريقة بعض الكتّاب: «إنهم يقولون، ماذا يقولون.. دعهم يقولون». ولكنه كان يرد عليهم من خلال سيرته وعمله وجهاده، وتواضعه.. ولذلك استطاع أن يتغلّب على هذه الحملات الظالمة التي قادتها أجهزة ووقف وراءها كثيرون ممن لم يحملوا همّ الأمة ولم يراعوا نقاط ضعفها..
ولذلك فإننا نقول في هذه الأيام ما قاله سماحته ونعمل ما عمله، ونحاول أن نوضّح للناس ما عملوا ويعملون على تشويهه.. ولا نقول ما لا يُرضي الله، بل نردد على طريقته المستقاة من رسول الرحمة: «اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون».
مؤسساتنا مستمرة بالعطاء والعمل
{ مؤسسات السيّد فضل الله وبتنوع تقديماتها تشكل مصدراً أساسياً من مصادر الأمن الاجتماعي في لبنان، فكيف ترون تطويرها وضمان الاستمرار لفعاليتها في ظل الأجواء الملبدة بالأزمات التي تعصف في بلادنا، خاصة أنها جزء من وصية سماحته؟
– لقد كان سماحته حريصاً على معالجة مشاكل الناس التربوية والصحية والرعائية والثقافية تماماً كما كان حريصاً على أن تعود الناس إلى دينها، وأن تفيء إلى رشدها الإسلامي وإلى هذا الدين الحنيف.. ومن هنا عمل على ملاحقة مشاكل الناس الصعبة والمعقدة فأنشأ صروح الرعاية والمبرات والمراكز الصحيّة والعبادية في معظم المناطق اللبنانية تقريباً، وأرادها أن تكون مساحات لإراحة الناس وحل مشاكلهم، كما كان يتطلع لكي تكون مواقع وعي وعلم وانفتاح على كل المشارب والمذاهب والطوائف.. وقد أدرك ببصيرته النافذة ورؤيته الثاقبة وتجربته الكبيرة في الساحة اللبنانية والإسلامية بأن الدولة في هذا البلد لن تبالي بآلام الناس كما ينبغي، وإن اهتمت فبالقدر الذي يبقيها قاصرة عن معالجة قضايا الناس المعقّدة وخصوصاً الاجتماعية منها وعلى الأخصّ مسألة الأيتام، ولذلك كان سبّاقاً في الاهتمام بالأيتام الذين أولاهم اهتماماً خاصاً، وكان لذلك أثره في أن هذه المبرات حازت على أفضل الجوائز وكانت الأهم على مستوى المنطقة في الكثير من تجاربها على مستوى رعاية الأيتام والمعوقين وفي التعليم.. وقد استفادت الكثير من المؤسسات من هذه التجربة..
ونحن نحاول في هذه الأيام أن نتابع ما أسّسّ السيّد وما عمل على استكمال شروطه واستيفاء أغراضه.. وقد لاحظ الكثيرون في هذا العام كيف أن مدارس المبرات الخيرية كانت الأولى على مستوى نتائج الامتحانات الرسمية، وأن طلابها المتفوقين أهدوا تفوقهم وإبداعهم لروح سماحته.. الذي كان يوصيهم دائماً: لا تكتفوا بالنجاح.. تطلعوا دائماً إلى التفوق..».
ونحن على الرغم من الأوضاع الاقتصادية والحياتية الصعبة التي عصفت بلبنان وبالمنطقة، وانعكست على الإيرادات التي تصل إلى هذه المؤسسات من أهل الخير، نعمل على ألا يشعر كل الذين يحتاجون إلى رعاية وحماية بأنهم محاصرون، وأن مستقبلهم بات مهدداً…لا بل نحاول أن نوفر للكثيرين ظروف متابعة دراستهم العليا في مواقع العلم الرئيسية في أوروبا وغيرها، ليعودوا إلى وطنهم ومؤسساتهم منتجين عاملين.. ونعمل لاستكمال وصية سماحته(رض) ونعتقد أن هذه المؤسسات ليس ملكاً لجهة أو لفريق أو لعائلة أو حتى لمذهب، بل هي مؤسسات الناس جميعاًً الذين يحتاجون إليها، ونقول لكل المعنيين بأننا شركاء في هذا الهمّ، كما نعتقد في الوقت عينه بأن المؤسسات الرعائية والتربوية والاجتماعية الأخرى هي مؤسساتنا ونحرص على نجاحها والتنسيق معها بعيداً عن كل العناوين المذهبية أو الطائفية وغيرها، لأننا نتطلع لحل مشاكل كل الناس كلهم، وحماية هذا الواقع الاجتماعي المعقّد الذي إن تُرك في ظل فشل الدولة وإهمالها فإنه حتماً سيُنتج لنا حروباً ودماراً أو يزرع ألغاماً قد تنفجر بأولادنا وأحفادنا إن لم تصدم واقعنا المعاصر..
نهجنا الاعتدال والوسطية
{ وماذا عن نهج الاعتدال والوسطية الذي خطه سماحته، هل ترون الوقائع من حولنا تقترب منه خاصة أننا نعيش وسط مهرجان عبثي من الفتن والتطرف؟
– لقد كان سماحته يعرف أن طريق الوحدة ليس معبّداً أو مزروعاً بالورود، بالنظر إلى عبث العابثين بهذه الأمة، وإلى هذا الكم من الموروث الذي ظل بعيداً عن التحقيق والتدقيق والغربلة، والذي تسبب سابقاً بكثير من الفتن وقد يتسبب لاحقاً بمثيلاتها..
ولذلك عمل سماحة السيّد فضل الله على خطين: الأول من خلال السعي لتنقية هذا الموروث وحثه لجميع المذاهب على غربلته لمصلحة الإسلام، ودفع الناس للتخلص من الكثير مما استحدث من العادات التي لا تمت بصلة للإسلام الصافي ولا للتشيّع الذي أراده أهل البيت الكرام أن يعبر عن الإسلام وعن وحدة المسلمين.
الثاني: ويتمثل بالعمل مع كل الشخصيات الإسلامية الوحدوية لتكوين بيئة إسلامية متقاربة وموحدة تعمل على نبذ الفتنة، وتقدّم للناس إسلاماً متسامحاً رحيماً منفتحاً كما أراده رسولنا الكريم، ولطالما كان سماحته يعتقد بأن المشكلة بين السنة والشيعة ناشئة من هذا التباعد ومن عدم المصارحة ومن أن بعض المعضلات تُعالج بالمجاملات كما هو الأمر في الكثير من المؤتمرات الوحدوية والتجمعات والهيئات التي تنطلق من فكرة صحيحة ولكنها غالباً ما تغرق وتضعف عندما تصطدم بالواقع وبالانتماءات السياسية..
وكان سماحته يسعى إلى أن يبادر كل فريق من المسلمين إلى معالجة المشاكل الناشئة من التعصب ومن عدم الالتزام الدقيق بالموروث الصحيح، بنفسه، وعلى طريقة قول الإمام علي «احصد الشر من صدر غيرك بقلعه من صدرك»… ولذلك وجد لذة في العمل للوحدة حتى مع كل الاتهامات التي انهالت عليه من هنا وهناك.. ولكننا رأينا في هذه الأيام أن كثيراً من الذين وجهوا إليه سهام الاتهام بدأوا يقتربون من منهجيته ومن أسلوبه ويسعون لاقتداء أثره، فرأينا فتاوى تحرّم الإساءة للرموز الإسلامية، وأخرى أخذت تؤكد على أن وحدة الأمة ضرورة وجودية، وأن الأحداث الأخيرة تثبت أن منهجه في الوسطية والاعتدال هو الذي يشكل حلاً لكثير من المشكلات الراهنة.. وقد لاحظنا كيف أن شباب الأمة من السنة والشيعة انفتحوا عليه مجدداً وسعوا للسير في خطه، على الرغم من كل علامات الاستفهام الظالمة التي حيكت حوله..
ولذلك فإننا نتصوّر أن الإصرار على العمل بنهج الوسطية ولكن بطريقة علمية موضوعية، وبنفس طويل كما كان يعمل سماحته سيكون دافعاً دائماً للتغلب على الفتن وعلى التطرف الذي يضرب في هذه الأيام في طول بلادنا وعرضها ولا دواء له إلا الدواء التربوي والفكري والثقافي، خصوصاً بعدما أثبتت المعالجات الأمنية قصورها وضعفها أمامه.
الإتفاق على إدارة الاختلاف
{ ما هي كلمتكم الأخيرة لكل محبي المرجع فضل الله وأيضاً لمعارضيه؟
– أقول لكل محبي السيّد المرجع بأن التزامكم بهذا الخط يعني لنا الكثير، لأنكم سرتم في الطريق الصعب المستصعب ولم تأخذكم في الله لومة لائم، ولأنكم عرفتم روح هذا السيّد وتطلعاته وسعيه لخدمة الأمة كلها ورفضه للانعزال والتقوقع.. ولكن ذلك يحملكم مسؤولية كبرى في أن تسيروا على الخط الذي سار عليه، فتتحملوا اللكمات والضربات التي تأتيكم من هنا وهناك، وتواجهوا كلام الحقد والعصبية بمحبة ومسؤولية، وتردوا على طريقة الإمام زين العابدين بأن «نعارض من غشّنا بالنصح، ونجزي من هجرنا بحسن الصلة، وأن نشكر الحسنة ونغضي عن السيئة..» وألا تدفعنا كل الحملات لكي نتخلى عن أسلوبنا الرحيم الذي علّمنا إياه رسولنا الكريم وأصحابه وأهل بيته.. وأن نرى في ذلك أجراً ودفعاً للفتنة، لأننا العاملون على نبذ الفتنة المذهبية وفي داخل كل مذهب وبين كل الأفرقاء..
أما أولئك الذين عارضوا سماحة السيّد واستمروا في نفس الخط، فأنصحهم بقراءته لا بقراءة ما كتب عنه، وأن يتحلوا بالحكمة والموضوعية والعلمية في مواقفهم، وأن ينظروا إلى ما نعيشه من فتن وأزمات وكيف أن هذا الواقع أثبت صوابية مواقف السيّد باعتراف الكثيرين ممن حاولوا التصدي له بكل الوسائل..
كما أنصحهم بقراءة وصايا السيّد والذي كان قد قال لهم بأن رحيلي عن هذه الدنيا الفانية سوف يزيل الكثير من التعقيدات، ويسمح للكثيرين بالقيام بقراءة واعية لما قمت به، وما تحدثت به، وما كتبته…
وفي نهاية المطاف فإنه إن كان من الطبيعي أن يعمل كل منا لاجتذاب الناس إلى ما يعتقد أنه الحق، ولكن المهم أن نتفق على إدارة الاختلاف كما كان السيّد يوصي، وألا نجعل الأمة تدفع الثمن إذا كنا قد اختلفنا في أولويات هنا وهناك أو في قراءة التاريخ وفهم النصوص والتعامل مع المستجدات.