العلاّمة فضل الله للّواء الإسلامي: نطالب بحالة طوارئ إيمانية لتصحيح علاقتنا بهذا الدين العظيم
«في إيماننا أنَّ أبواب الرَّحمة يفتحها الله لعباده في شهر رمضان المبارك، ومن بركات هذه الرَّحمة، استجابة الدّعاء، ولا شرط لهبوط الرَّحمة واستجابة الدّعاء إلا التَّقوى الّتي جعلها الله غاية الصّيام وفلسفته، وهو ما قاله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}، فالتّقوى في مفهومها التّربويّ العميق، تعني مناعة الشخصيَّة المؤمنة من الانحراف والفساد، وهي قلعة الصَّائم الّتي تحميه من السّقوط في الاختبارات الدّنيوية، ومن هنا تمحورت عبادة الصّيام في إرادة الامتناع الطّوعيّ عن الطّعام والشّراب وسواهما من المفطّرات، ليتربّى الصّائم على الجهاد الأكبر، أي مجاهدة النّفس وتزكيتها، بحسب الحديث النّبويّ الشّريف. والحكمة من هذا الامتناع، أن يواجه الصّائم رغباته وشهواته الدّنيويّة بهدف ترويضها لهدف أعلى وأسمى، هو هدف الاتّصال بدنياه الأخرى ونعيمها الأبديّ».
بهذه الكلمات بدأ العلامة السيد علي فضل الله حواره مع جريدة اللواء بمناسبة شهر رمضان المبارك.
إنه حوار.. يأتي في وقت الأمة بمختلف أقطارها تعاني من ويلات وأزمات تعصف بالبلاد والعباد وتنعكس سلبا على الناس جميعا فكريا واجتماعيا وأمنيا وسياسيا وطبعا دينيا..!!
أما لبنان.. ذلك البلد الصغير بمساحته الكبير بشعبه وعطاءاته وأدواره، فهو بطبيعة الحال يستقبل شهر رمضان متأثرا بما يحيط به من كل الجوانب ومن كل النواحي..
ولكن .. ونحن في بدايات هذا الشّهر المبارك أمنياتنا أن نعود إلى تعاليمنا الإسلاميّة فنجعل من الصيام فرصةً للتّسامح والغفران وصلة الأرحام ونبذ العداوات والفتن..
تمنياتنا أن نكون صائمين حقا.. مصلين حقا.. مزكين حقا.. متقين وورعين حقاو فعلا.. فإنَّ أفضل الأعمال في الشَّهر الكريم الورع عن محارم الله.
محطة الوحدة والعطاء
* كيف ينبغي للمسلمين أن يتعاملوا مع شهر رمضان؟
ـ شهر رمضان هو محطَّة هيأها الله في كلّ سنة لبلوغ الإنسان التقوى الَّتي من ثمارها عفوه وغفرانه والحصول على عطائه وفضله.. هذا العطاء الَّذي لا يفوقه عطاء، ويكفي أن تتحوّل فيه الأنفاس إلى تسابيح، والنوم إلى عبادة، ويصبح الدعاء فيه مستجاباً، والعمل فيه مقبولاً، والثواب فيه مضاعفاً.. وحتى يبلغ الإنسان ذلك، لا يكفي أن يستعدّ للامتناع عن الطَّعام والشَّراب فحسب، بقدر ما يريد الله أن يدخل الإنسان إليه بقلب طاهر نقيّ من كلّ حسد وعداوة وبغض، وبرغبة في التّغيير وإعادة النّظر في سلوكه وتعامله مع نفسه ومع الناس، حتى يكون في كلّ ذلك منسجماً مع ما يريده الله.
لذلك، لا بدَّ من إعداد برنامج روحيّ وإيمانيّ وعمليّ يساهم في تحقيق هذا الهدف الكبير الَّذي على أساسه يحظى الإنسان بكلّ هذا الفيض الإلهيّ، حيث لا يبلغ ما عند الله إلا بالتقوى، {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ}.
والتَّقوى تعني أن لا تحرك رجلاً ولا تؤخر أخرى، وأن لا تطلق كلمة ولا تتَّخذ موقعاً، وأن لا تعادي ولا تبغض، ولا تؤيَّد ولا تعارض، حتى تعلم أنَّ في ذلك كلّه رضا لله.. وتعني أن يجدك الله حيث يحبّ، ولا يفقدك حيث أمرك، ولا يجدك حيث نهاك…
* أيّ دور توحيدي لهذا الشَّهر الكريم في حياة الأمة؟ ولمَ إلى الآن لم نصل إلى هذا الرقي الوحدوي من خلال رمضان؟
– إنَّ من أبرز قيم هذا الشهر أنه يذكّر المسلمين بوحدتهم، عندما يصومون معاً في شهر واحد، ويمسكون معاً عند الفجر، ويفطرون في المغرب.. وإذا كان من اختلافات، فهي بسيطة، وقد تكون معدومة..
وفي شهر القرآن، عندما يستحضر المؤمنون قوله سبحانه: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ}، {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلَا تَفَرَّقُوا}، {وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا}، {أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ}، لا بدَّ لهم من أن يحاسبوا أنفسهم على ما فرَّطوا فيه من هذا الجانب، ويعاهدوا الله أن يصحّحوا نياتهم وتوجّهاتهم، استجابة لهذه التَّعاليم القرآنيَّة…
فمن أولى الأعمال في هذا الشهر، الصّيام عن كلّ ما يسبّب الفرقة ويثير الخلافات.. ولذلك، لا يمكن لمن يستحضر كلّ هذه الصورة الجميلة من مظاهر الوحدة في القرآن الكريم، أن يصغي بعد ذلك إلى كل شياطين الجن والإنس الَّذين يوسوسون له بالفتنة وبالأحقاد والضغائن، وبما يفرّق ولا يجمع..
ومشكلتنا دائماً أننا نتجنَّب النظر فيما يجمع وهو كثير.. ونؤكد مواقع الخلاف، وغالباً ما لا نتثبّت من كونها خلافات اجتهادية تظلّلها ثوابت قرآنية واحدة تؤسّس لأمة واحدة.. ولا نلتفت إلى قوله تعالى: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ}.
خطة طوارئ
* ما هي الأنشطة التي تتمنّون رؤيتها في شهر رمضان على الصعيد العلمائيّ، وبشكل عامّ؟
– لا بدَّ في هذا الشهر من أن يعيش علماء الأمة حالة طوارئ إيمانية، فنحرّك خلالها مساجدنا وجمعياتنا وكل اجتماعاتنا وسهراتنا بالدعوة إلى تصحيح العلاقة بالله في كل جوانب حياتنا، والعمل في الخصوص على تطهير قلوبنا ونزع ما فيها من غل تجاه إخواننا المسلمين، لنعيش الأخوة والمحبة على القاعدة التي أرادها الله لنا، وعلى خلفية المصالح الكبرى التي تجمعنا، للوقوف بوجه هذه الفتنة التي تهدّد بتدمير حاضر الأمة ومستقبلها…
إننا نريد لهذا الشهر أن يكون فرصة لتلاقي المسلمين فيما بينهم، ليعرف كل منهم الآخر الذي يختلف معه مذهبياً أو سياسياً، وليزيلوا كل الأوهام والهواجس إزاء بعضهم البعض، والتي يسعى زارعو الفتنة لتكريسها في نفوسهم وعقولهم.. وأن يؤكدوا وقوفهم معاً في القضايا المشتركة، وأن يتعاونوا في مواقع اللقاء.. إننا ندعو، وانطلاقاً من هذا الشهر، إلى تعزيز الإفطارات المشتركة والبرامج الدينية، والتعاون من أجل خدمة الفقراء والأيتام والمساكين.
* في كلّ عام، نشهد اختلاف المسلمين في بداية الصوم، فما هي كلمتكم حول هذا الموضوع؟
– نحن نريد للمسلمين أن يتوافقوا على بداية هذا الشهر ونهايته.. ونريد أن يتحوَّل هذا التَّوافق إلى قاعدة.. وهذا لا يتم إلا بالعودة إلى العلم، بعد أن بات واضحاً أن لا خطأ فيه، فيما الخطأ يبرز في الرؤية، والاختلاف يحصل فيه.. ولكن هذا يحتاج إلى توافق اجتهادي ما بين اعتبار الرؤية موضوعية في الصيام، واعتبارها وسيلة..
إنَّ تدارس الأمر من الناحية العلميَّة والشَّرعيَّة من شأنه أن يضعنا أمام حلٍّ جذريٍّ لهذه المشكلة التاريخية، حيث تتوحَّد النظرة إلى موضوع الأهلّة، ونصل إلى توافق حول الكيفية التي نثبت من خلالها بداية الشهور العربية.
إنَّها فرصة للقيام بهذه الخطوة، لكن مع عدم وجود هكذا نشاط إسلاميّ عام، لا بدَّ من أن يعذر بعضنا بعضاً في هذا الموضوع، وأن يحترم كلّ مذهب أو مرجع المبنى الذي يستند إليه الآخر في تحديد الرؤية وتحقيق اليقين حول بداية الشهور، وإن كنا نرى أنه من الضروري الأخذ بعلم الفلك في هذه المسألة سبيلاً لحل هذه المشكلة المستعصية.
الحوار العقلانيّ
* ما هي تمنّياتكم في شهر رمضان لبنانياً وعربياً وإسلامياً؟
– إنَّنا نأمل أن لا ينتهي هذا الشّهر إلا وقد تحقّق لهذا البلد الاستقرار، من خلال العودة إلى لغة الحوار العقلانيّ الهادئ الذي ينظر إلى مصلحة الوطن لا مصلحة هذه الطّائفة أو تلك، أو هذا المذهب أو ذاك.. وأن يعي الجميع أن لا بديل عن التفاهم والحوار، وأن يخرج الجميع من رهاناتهم على ما يجري في الخارج، ويكون رهانهم الوحيد على وحدتهم وتماسكهم وقوتهم.. وهذا لا يتمّ إلا بتسيير عجلة المؤسَّسات في الوطن وتقوية جيشه، وجعله الملاذ الوحيد للمواطن ولمواجهة كلّ التحديات، إلى جانب حفظ كلّ مواقع القوّة لدينا وعدم التفريط فيها.
أمّا عربياً، فإنَّنا نأمل الانتهاء من صراعات المحاور الَّتي ألحقت بالأمة خسائر كبيرة، والعودة إلى التّفاهمات العربيَّة والإسلاميَّة، كمقدمة لاستعادة وحدة المسلمين وبناء قوّتهم، لمواجهة العدوّ الأساسيّ إسرائيل، الّذي يترصّدهم جميعاً، ولا يريد خيراً لعالمهم، ولمواجهة كلّ من يريد العبث بمقدراتهم..
ونريد للعالم الإسلاميّ تقديم الصّورة المشرقة عن الإسلام.. إسلام المحبّة والرحمة والتسامح، في مواجهة الخطر الَّذي يتهدّد صورة هذا الدين وإشراقته.. والتأكيد أنه ليس في حرب مع الديانات الأخرى، ولا مع الآخرين، بل ينطلق من القاعدة القرآنية: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً}.
وندعو كلّ الشّعوب إلى أن تتواصل مع بعضها البعض، انسجاماً مع قوله تعالى: {وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا}.
نسأل الله العليّ القدير أن يكون هذا الشهر المبارك شهر العودة إلى الله، وترك كل العصبيات التي تكاد تأكل الأخضر واليابس في بلادنا، من لبنان وصولاً إلى العالم الإسلاميّ، مروراً بالعالم العربي برمّته.