حوار مع الثّبات , العلامة فضل الله: الرسائل الأمنية في لبنان ما تزال حتى الآن سياسية
الصورة في العالميْن العربي والإسلامي ملتبسة بين مشهد بعضه داخلي موضوعي، وبعضه الآخر خارجي مسموم، أما الشعوب ومن خلفها السياسيون والمفكرون فإنها منقسمة بحماسة بين تأييد فكرة "المؤامرة" ورمي التبعات على الخارج، وتأييد فكرة تحميل "الحاكم" كل المصائب..
عن وضع المنطقة العربية وشؤونها وشجونها، التقت جريدة "الثبات" العلامة السيد علي فضل الله، وكان هذا الحوار:
يضع سماحة السيد علي فضل الله الحراك الشعبي الذي تشهده منطقتنا العربية في سياق مشهد حيوي، فالشعوب لا ترضى بالكثير من الحكام، وفي هذا المجال، بحسب رأيه، هناك صحوة إيجابية لا بد من إبرازها، فيقول: "أيدنا منذ البداية تحرك مختلف الشعوب، ودعمنا تطلعاتها المحقة، وكنا نقول إنّ عجز الشعوب عن التحرك فيما مضى لا يعني فقدانها الحيوية اللازمة، فهي تختزن آلامها ومعاناتها إلى أن يحين الظرف المناسب".
يعتبر سماحته أن تأييده المطلق لنبض الناس وتطلعاتهم لا يعني عدم التعقّل والتحلي بالحكمة، "فالبشرية شهدت محاولات لسرقة ثورات عديدة، من أجل تحريف مسارها ومبادئها، تماماً كما حصل في منطقتنا في مطلع القرن الماضي مع انحلال السلطنة العثمانية، واليوم بدأ بعض الناس يتكلمون عن انحراف الثورة في ليبيا وتونس ومصر.. إذاً، علينا أن نكون حذرين من سارقي آمال الشعوب، حتى لا تضيع تضحياتها، من أجل إنتاج حالات شبيهة بما عرفته مجتمعاتنا العربية سابقاً".
ويضيف سماحته: "من المؤكد أن البعض اليوم يسعى إلى سرقة ثوراتنا لتجييرها لحساب مصالح الدول الاستكبارية، التي لا ترى هذه المنطقة إلا "بقرة حلوب" لمصالحها، وليبقى الكيان الصهيوني هو الأقوى، وفي رأينا، تحولت هذه الثورات العربية عن مسارها، فبدل أن تكون عملاً بناءً لتغيير الواقع للأفضل، بدأت تتحول إلى فتن".
الحرية مع الوعي
لا يحمّل السيد فضل الله الشعوب العربية مسؤولية جر المنطقة إلى صراع فتنوي طائفي، فيقول: "رغم دعوتنا الدائمة للشعوب العربية للتعقل الدائم والتبصّر والتحلي بالوعي، فإن المسؤولية في هذا المجال تقع على المحرّضين المباشرين، ومن يعمل لإثارة الحساسيات المذهبية والطائفية والمناطقية والعشائرية، وحتى السياسية، هدفه تمزيق المنطقة وتشتيت قواها، وحتى الآن، مع الأسف، نرى أن الكثير من هذه الشعوب اليوم لا تحسن إدارة خلافاتها ولا مطالبها السياسية المحقة والمشروعة".
انطلاقاً من الواقع المتأزم اليوم، يخشى السيد فضل الله على المنطقة العربية، كونها واقعة في دائرة الفتن، فالشرخ، في رأيه، يتزايد بين مختلف الفئات، فيقول: "لن نتراجع في موضوع تأييد مطالب الناس مهما ساءت الأحوال، فنحن مع الحريات، ومع أنواع التعبير كافة، لكننا في الوقت عينه مع احترام رأي الآخر، فهناك تنوّع يجب المحافظة عليه".
سألناه عما يستطيع فعله الشعب السوري، على سبيل المثال، بعد أن أصبح أكثر من مئة ألف شخص غريب موجودين على أراضيه، وبعدما أصبحت سورية تشهد صراعاً وتدخلاً دولياً إقليمياً؟ فرد السيد فضل الله: "رغم أن الأزمة في سورية أصبحت مركبة ومعقدة، نتيجة تداخل عدة عناصر محلية وخارجية، يبقى بإمكان الشعب الواعي الحد من التدخلات المضرة، فالأمور ليست قدراً محتوماً، كما بالإمكان الحد من الكثير من الأضرار، ونحن في هذا المجال ندعو جميع الأطراف إلى مد جسور التواصل فيما بينهم، والمسؤولية هنا تقع على عاتق الجميع في مسألة لملمة الجراح، لأنه لا حل للأزمة السورية اليوم إلا بالحوار، والسوريون اليوم أكثر من أي وقت مضى، مطلوبٌ منهم مد جسور التواصل، لبناء سورية الجديدة، وللحفاظ على إنجازات الشعب التاريخية".
وماذا عن العراق، تحديداً، إلى متى سيبقى النزيف بين الأخوة السنة والشيعة، خصوصاً أنه، مع الأسف، أصبح الحديث عن القتلى والجرحى يومياً خبراً عادياً في نشرات الأخبار؟ يقول السيد فضل الله: "العراق بلد استراتيجي بارز في المنطقة، وفيه موارد نفطية هامة، لكن من يعمل في الساحة الدولية لا يريد الاستقرار لهذا البلد العزيز، وبالتالي، نحن نظن ونشعر بأن المنطقة بأسرها، وليس العراق فحسب، يعيش هذا الاختلال الأمني والسياسي، لأن إرادة زرع الفتنة أقوى اليوم من إرادة زرع التواصل والحوار، وفي هذا المجال، وللأمانة التاريخية، لا سنة العراق ولا شيعتها لهم علاقة بدوامة العنف الحاصل في بلدهم، وما يتم تظهيره بين السنة والشيعة هدفه التعمية على ضلوع التدخلات الاستعمارية فيها، ومن السهل التأثير في الشعوب باستخدام الخطاب الطائفي بدلاً من الخطاب العقلاني".
التخويف الطائفي.. سلاح للفتنة
وماذا عن مقولة استيقاظ "المارد الشيعي"، كما يسوَّق في وسائل الإعلام اللبنانية والخليجية؟ هل يهدف الكلام عن "الهلال الشيعي" إلى التضييق على سلاح المقاومة الموجه نحو "إسرائيل"؟ وماذا عن تمويل بعض دول الخليج لبعض القوى السلفية التكفيرية؟
يقول السيد علي فضل الله: "من أطلق هذا الشعار هدفه الإثارة، وإضعاف جوانب القوة لدى دولنا المختلفة، وفي لبنان يريدون النيل من سلاح المقاومة لإراحة الكيان الصهيوني والدول الاستعمارية"، ويضيف السيد فضل الله: "هدف هذه الإثارة تخويف الناس، فعند تخويف أي مجموعة أو أي فرد بإمكانك تسييره غرائزياً، فالحديث عن "هلال شيعي" يقابله "هلال سني"، يهدف إلى زيادة الخوف لدى الفريقين، ونحن كلبنانيين شهدنا في منتصف سبعينيات القرن الماضي نوعاً من هذا التخويف، عندما خوف المسيحيون من المسلمين، والمسلمون من المسيحيين، فاختلط حابل الإصلاحات والامتيازات، بنابل الشعور الأقلوي والتخويف الطائفي، وفي النهاية، كان يراد من الحرب في لبنان، تصفية القضية الفلسطينية وفق أجندات الدول الكبرى وإسرائيل".
الأنظار بعيدة عن لبنان
يرى فضل الله، أن أوجه الصراع لا تزال على حالها، "فالمعلن من الحروب إثارة وتخويف وفتن، وبواطنها مصالح دول استعمارية استكبارية، وضرب للمقاومات في المنطقة، وسلاح حزب الله مستهدف من عدة جوانب، وفي النهاية، بدل من أن تكون قدرات هذه الأمة مصوبة إلى الخارج (جيوش عربية ـ رساميل)، يتم إشغالها بقضايا خلافية، والحس العربي الذي بدأ ينمو اليوم بعد طول غياب، يراد تطويقه وتحريف مساره".
وعما إذا كان لبنان لا يزال رئة الشرق الأوسط، كما كان يصرح المرجع السيد محمد حسين فضل الله، يقول نجله: "مع الأسف، لا يزال لبنان يتنشق مشاكل الشرق الأوسط، والسبب عائد إلى كون اللبنانيين لا يزالون يريدون تنفس سموم المنطقة، بدل تنشق خيراتها، وكل فريق سياسي في لبنان اليوم، اتخذ خياراته الإقليمية والدولية، وحتى هذه اللحظة، ما يزال القرار الدولي والإقليمي يؤيد تهدئة ساحته، فالأنظار مصوبة نحو سورية ومصر أكثر منها إلى لبنان، والعالم مشغول بقضايا أخرى، والتهدئة ليست نتيجة توازنات محلية، بل نتيجة توزنات إقليمية ودولية تتحرك في الساحة اللبنانية، ومع ذلك، نخشى من أن بذور الخلاف والفتنة متوفرة، وبعض النفوس الضعيفة مهيئة لها، ولذلك علينا العمل دائماً لتحصين الساحة الداخلية، بالدعوة الدائمة للوحدة ورفض الخطاب التحريضي من أي جهة صدر".
وماذا عن انفجار بئر العبد، وتوجيه صاروخين إلى بيئة المقاومة، ووضع الجناح العسكري لـ"حزب الله" على قائمة الإرهاب، ألا يوجد تصعيد أمني متدرج؟ يرد السيد فضل الله: "إن الرسائل الأمنية حتى الآن سياسية، وهناك ضغوط تمارس ضمن اللعبة الموجودة في لبنان والمنطقة، إن متفجرة الضاحية لن تبدل مواقف حزب الله تجاه المقاومة وسلاحه والموقف السوري، بيد أن هناك رسائل تمرر من حين إلى آخر، للحد من تحركاته وفي لبنان، قد تكون الرسائل موجهة إلى أكثر من فريق محلي أو خارجي".
ورغم استبعاد السيد فضل الله، إمكانية انزلاق الساحة الأمنية في لبنان تجاه جوانب غير مضبوطة، يبقى واجب الحذر قائماً، ولا سيما في بلد يعيش أبناؤه انقساماً حاداً، ولن يغير الخيار الأمني ـ المخابراتي توجهات الفرقاء السياسيين فيه، وخصوصاً أن كل فريق في لبنان مستعد لأن يضحي بكل شيء في سبيل قضيته، والقضية لدى بعض فئاته، بدأت تأخذ وجوداً مصيرياً.
وفي النهاية، "نعرف جيداً أن خيار الوحدة والتواصل سينتصر، ولبنان لديه تجربة في ذلك، وقد استطعنا في السابق إيقاف مؤمرات كبيرة بوحدتنا رغم صغر بلدنا، ونستطيع أن نكرر ذلك على مستوى الحاضر والمستقبل".
أجرى الحوار: بول باسيل