أسلوب النبي إبراهيم(ع) في الدعوة إلى الله
ألقى سماحة العلامة السيد علي فضل الله ، خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عددٍ من الشخصيّات العلمائيّة والسياسيّة والاجتماعيّة، وحشدٍ من المؤمنين، ومما جاء في خطبتيه:
قال الله سبحانه وتعالى: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}.. صدق الله العظيم.
لم يكن الهدف من قصص الأنبياء التي وردت في القران هو سرد وقائع وأحداث جرت مع الأنبياء لذاتها..
فالقرآن لم يرده الله سبحانه وتعالى أن يكون كتاب تاريخ أو كتاب سيرة، بل وردت هذه القصص لإبراز قيم وسلوكيات عبر عنها هؤلاء الأنبياء من خلال سيرتهم ومواقفهم وأحاديثهم كي نكون على صورتهم ومثالهم.. فالله سبحانه أدبهم وصنعهم على عينه وطهرهم من كل رجس ليكونوا للناس نماذج وقدوة..
ونحن اليوم سنتوقف عند نبي من أنبياء الله، هو أبو الأنبياء وممن حباه الله واختصه وأحاطه برعايته وعنايته.. النبي إبراهيم(ع) الذي عندما تحدث الله عنه قال: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * شَاكِراً لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}.. وهو بلغ من الشأن والموقع عند الله أن قال عنه: {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً} وأي موقع هو أعلى من أن يتخذ الله أحداً خليلاً له..
عاش هذا النبي في بيت لم يكتف صاحبه فيه بأنه كان يعبد الأصنام ويخضع لها، بل كان يعمل على ترويجها وتسويقها بين الناس..
ونحن اليوم لن نفصل في اختلاف الأراء حول من هو صاحب البيت والده أو عمه أو جده لامه فلهذا مقامه لكننا عند الحديث عنه سنعبر عنه بما كان يخاطبه به النبي إبراهيم(ع).. فقد كان يقول له يا أبت..
كان ابراهيم(ع) شديد البر بمن يصفه بأبيه، ولكن هذه العلاقة العاطفية والنسبية لم تمل عليه أن ينصاع له وأن يقبل بما كان عليه، وأن يسكت على ضلاله وانحرافه.. و هو على صغر سنه، كان يحاوره ويناقشه وقد بذل جهوداً مضنية لينقذه مما هو فيه…
وقد سجل القرآن بعضاً من الحوار الذي كان يجريه معه: {يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً * يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِيّاً * يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيّاً * يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيّاً}..
إذن هو أسلوب الرقة والمحبة والعطف والحنان والحرص، وهذا هو حال الأنبياء في تعاملهم مع الذين يدعونهم إلى الله سبحانه…
ورغم أن الجواب من أزر كان سلبيا و حمل التهديد والوعيد، وهو دائماً جواب من لا يملك حجة ومنطقاً عندما قال له: {أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آَلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيّاً} كان جواب إبراهيم(ع) : {قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيّاً}.. لكن إبراهيم(ع) رفض أن يساوم على دينه عندما قال له أزر: بقاؤك في البيت رهن عبادتك للأصنام وترك بيته ومكان استقراره، رغم شظف العيش الي واجهه لكنه لم يتوقف بل تابع رسالته
فحط به المقام عند قوم يعبدون أحد الكواكب (والأصنام آنذاك كانت تماثيل للكواكب التي كانت يعبدها الناس آنذاك)..
اعتقاداً منهم أن هذا الكوكب الذي كان يتلألأ في السماء ويذكر أنه الزهرة هو مصدر الخصب وواهب الحياة، وكان أسلوب إبراهيم(ع) ذكيا – و هو ما يجب أن نقتدي به في حواراتنا – عندما اعتمد أسلوب أن يجاريهم ليثير الشكوك في نفوسهم لما يعبدون، فقال {هَذَا رَبِّي}.. فرح الجميع بمقولته وظنوا أنه منهم ولكن عندما غاب هذا الكوكب أظهر استياءه من عبادته {فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآَفِلِينَ}، وقال: كيف أعبد رباً يغيب.. وتكرر الموقف نفسه في إعلان رفضه عبادة القمر ومن ثم عبادة الشمس مؤكداً أن الإله الذي يستحق العبادة لا يمكن أن يغيب عن عباده وكيف يغيب عنهم وهم محتاجون في كل وقت وزمن إليه..
وهو لذلك قال: {وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ}.. فأنا يا قوم لن أعبد إلا الله الذي خلقني وخالق كل الكواكب.. ولن أسلم أمري لغيره ولن أعبد غيره..
صعق الداعون إلى عبادة الكواكب من منطق إبراهيم، فهم لم يسمعوا من قبل من يرفض آلهتهم.. وخشوا من أن يسري هذا المنطق الجديد بين الناس.. جربوا في البداية أن يواجهوه بأدلتهم ولما رد عليهم بمنطقه السليم راحوا يخوفونه من غضب آلهتهم وأنه سيصيبه أذى منها فرد عليهم بأن عليهم هم أن يخافوا من الله سبحانه وتعالى .. و لم تنفع مع إبراهيم(ع) سعي القوم لاسترضائه للسكوت عن آلهتهم مقابل أن يمنحوه ما يشاء، لكنه رفض وأعلن عداءه لها وقال لهم ما ذكره الله في كتابه الكريم:
{أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ * أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ * فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ * الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ * وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ * وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ * وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ}..
فكان مصيره أن أُخذ إلى طاغية عصره نمرود الذي كان يحكم بابل في العراق، وهناك وأمام الطاغية نمرود رفض السجود له ولما سأله نمرود عن سبب ذلك قال له: أن لا رب لي إلا الله ولا أسجد لسواه.. فقال له: ومن الله هذا الذي تفضله علي؟.. قال: ربي الذي يحيي ويميت..
عندها قال نمرود بما حسبه جوابا مفحما: أنا أحيي وأميت.. ألا ترى أني قادر على أن أقتلك وأن أعفو عنك..
فأجابه إبراهيم(ع) بسلامة فطرته و منطقه فقال له: {فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ..}..
فبهت نمرود وأسقط ما في يده، ولكن حتى لا يظهر بمظهر الضعف أمام منطق إبراهيم استعرض قوته وهذا أسلوب الطغاة فهدده بالقتل وبالحرق إن استمر بتحديه وتحدي الأصنام.. خرج إبراهيم وهو يعلن أن لا مهادنة مع الأصنام ومن يدعو إليها وسمعه كل من حوله يقول {وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ}..
وهو انتظر لذلك يوم العيد، اليوم الذي يلتقي فيه الناس على عبادة الأصنام.. وقبل أن يأتي الناس إلى المعبد أهوى بفأسه على الأصنام وراح يحطمها واحداً بعد الآخر حتى إذا انتهى إلى الصنم الكبير لم يمسه بسوء واكتفى بأن علق الفأس على رقبته.
وحضر الناس وفوجئوا بما جرى وقالوا من فعل هذا بآلهتنا.. فجاء من سمعه يقول تالله لأكيدن أصنامكم، {سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ}، فجاءوا به على عجل {أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآَلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ * قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ..} وهو أراد أن يهز ضمائرهم وأفكارهم ويعيدهم إلى رشدهم.. فقالوا له: {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ}..
عندها قال لهم: {أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَلَا يَضُرُّكُمْ * أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ}.. و كان عند ذلك حكم نمرود الصارم: {حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آَلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ}.. لم يخف إبراهيم ولم يرتعب، واكتفى بأن يقول: {رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ * وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآَخِرِينَ * وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ * وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ * وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ * يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ}..
وعند تنفيذ الحكم وعلى مرأى كل الناس الذين اجتمعوا ليروا ماذا سيفعل نمرود بإبراهيم، جاء النداء من رب العالمين عندما رمي إبراهيم بالنار {يَا نَارُ كُونِي بَرْداً وَسَلَاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ}.. وخرج إبراهيم من النار وأسنانه تصطك من البرد، فوجئ الناس جميعاً وتأكدت لهم حقيقة كلام إبراهيم ولذلك سارع نمرود إلى تهديد كل من يؤمن بإبراهيم أو يلتقي به بالقتل..
عندما شعر إبراهيم(ع) أخيراً أن لا فائدة من بقائه في مدينة يحكمها نمرود، قرر مغادرتها إلى حيث يتابع دعوته إلى توحيد الله، وقال آنذاك {إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي}.. فذهب إلى مصر وبعدها إلى فلسطين.. وقد شاء الله سبحانه تكريماً لهذا النبي أن يرفع على يديه قواعد البيت الحرام مع ولده إسماعيل بيت التوحيد ليكون محجة للناس يفدون إليه من كل فج.. وهدفهم أن يؤكدوا توحيدهم لله وأن التلبية لله والطواف لله والسعي إليه.. ليعلنوا شعار التوحيد لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك لبيك أن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك لبيك..
أيها الأحبة: لقد أدى هذا النبي دوره في ترسيخ قواعد التوحيد الذي هو ركيزة كل الديانات وركيزة ما جاء به رسول الله(ص).. وقد بلغ بذلك أغلى التضحيات وكان على استعداد لدفع أغلى الأثمان في سبيل الله..
لذلك، فلنتعلم منه إصراره وثباته وتضحيته.. فلا يمكن أن نواجه التحديات إلا بمثل هذه الروح، رائدنا في ذلك قوله سبحانه: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ}.
لتكون النتيجة {فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ}.
الخطبة الثانية
عباد الله، أوصيكم وأوصي نفسي بأن نستعيد معاني هذا الشّهر الذي حلّ علينا في هذه الأيام؛ شهر ذي القعدة، فهو بداية الأشهر الحرم، كما نعرف جميعاً، التي تتوالى ثلاثة منها، وهي ذو القعدة وذو الحجة ومحرم، ويأتي شهر فرد بعد ذلك، هو شهر رجب.
وللتذكير، حملت هذه الأشهر عنوان الأشهر الحرم، منذ أن وجدت السماوات والأرض ووجد الكون، كما قال الله: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ..}..
أراد الله لهذه الأشهر أن تساهم في تعزيز فرص السلام وتخفيف التوترات داخل المجتمعات وفيما بينها. وهناك العديد من المناسبات التي يحفل بها هذا الشهر على وجه الخصوص، ولا بد من تذكرها، ففيه رفع النبي إبراهيم مع ولده إسماعيل (ع) قواعد البيت الحرام.. وفيه خرج رسول الله (ص) للعمرة في السنة السادسة للهجرة، لكن قريش آنذاك منعته من الدخول إلى مكة، فعقد على إثرها صلح الحديبية، الذي كان فتح مكة من نتائجه. وفي هذا الشهر، كانت ولادة الإمام الرضا (ع). لذا، علينا أن نستفيد من معاني هذا الشهر ومناسباته، لنكون أكثر أمناً وسلاماً وأكثر وعياً ومسؤولية في مواجهة التحديات الجسام.
لبنان
والبداية من الانتصار الكبير الّذي تحقّق في جرود عرسال، والّذي فاق كلّ التوقعات في سرعة إنجازه، رغم صعوبة المعركة وحجم النتائج التي حصدها على المستوى الميداني والالتفاف الشعبي.. حين تجاوز الجميع كل اختلافهم، وكان صوتهم واحداً في هذه المعركة، وإذا كان من أصوات صدرت، فهي لم تؤثر في هذا المشهد الجامع، فقد وعى اللبنانيون جميعاً خطورة بقاء الأمور على حالها، وتداعياتها على أمنهم، فهذه الفئات الإرهابية التي كانت تتواجد على حدود لبنان، هي قنابل موقوتة قد تنفجر في أية لحظة وفي أي مكان من لبنان.. والوقائع السابقة القريبة والبعيدة أكدت ذلك، فلم يكتوِ بنارها مذهب معين أو طائفة أو موقع سياسي، بل اكتوى الجميع بها.
ونحن عندما نذكر هذا الإنجاز بكلّ مفاعيله، لا نستطيع إلا أن نحيي صناع هذا الانتصار؛ نحيي الجيش اللبناني على الدور الذي قام به بمنع الإرهابيين من التسلل إلى الداخل اللبناني وحمايته، ونحيي الشّبان المجاهدين والمضحّين الذين لم يبالوا بالأخطار، ولم ترهبهم وعورة الأرض، وعملوا على حفظها، لتبقى لأهلها وأصحابها، أياً كان أهلها. لقد رفض هؤلاء دنيا أقبلت عليهم، وكانت تدعوهم إليها، فتركوها وراءهم، لا عن يأس وقنوط، بل عن إرادة واختبار..
ونحيي أيضاً الشهداء؛ هؤلاء الذين بذلوا أغلى ما عندهم من أجل وطنهم وأمتهم.. كما نحيي أمهاتهم وآباءهم وعوائلهم.
هذه المعركة كشفت مرة جديدة طينة شباب لبناني أحبوا وطنهم، وأخلصوا لإنسانه، بعيداً عن كل الاعتبارات التي اعتدناها في هذا البلد، حيث يعمل كلّ فريق لحساب طائفته أو مذهبه أو موقعه السياسي.. هؤلاء لم يكونوا ليهدأوا وهناك أرض يهددها أولئك الذين لا يتورعون عن القتل وإثارة الرعب والخوف في نفس من يختلف معهم.
إنَّ الالتفاف الَّذي حصل من مختلف كلّ القوى السياسية، يؤكد وعي اللبنانيين وتجاوزهم كلّ الحساسيات لحساب القضايا المصيرية، وهو ما يبني الوطن، ويفوّت الفرصة على كل الذين يسعون إلى النفخ مجدداً بالنار المذهبية أو الطائفية، ويطرحون علامات استفهام لا يمكن أن تكون في وجدان كل هؤلاء الشبان المضحين وعقولهم؛ هؤلاء الذين كانوا لا يتطلعون إلى تحقيق مشروع مذهبي أو إقليمي، بل يريدون حماية الوطن والمقاومة والجيش وكل الناس.
إننا في الوقت الذي نعرف أنَّ ما حصل بعيد عن كلّ الاعتبارات الطائفيَّة والمذهبيَّة، ندرك أن البعض قد تكون لديه هواجس ومخاوف، ومن حق كل اللبنانيين أن يبدوا هواجسهم، في ظل الاضطراب الذي تعيشه المنطقة، ولكن هذا الأمر ينبغي أن يتم من خلال الحوار، وخصوصاً أنّ مجالاته مفتوحة ولم تغلق، فالمخاوف لن تتبدد بإثارة التوترات المذهبية أو بكيل التهم ومحاكمة النيات.
إنَّنا نأمل أن يكون هذا التلاقي بداية مرحلة جديدة لوقاية لبنان من كلّ الأخطار المحدقة به، فنحن لم ننته من الإرهاب، ولا زال هناك الكثير من العمل، سواء في جرود عرسال أو القاع أو رأس بعلبك، أو في الداخل اللبناني.. وكما كان هذا الموقف موحداً إزاء الإرهاب، سيبقى كذلك، ونريده أيضاً أن يتّحد في مواجهة إرهاب الفاسدين المفسدين، وفي مواجهة سياسة الإفقار التي نخشى على البلد منها ومن نماذجها، فهي لا تقلّ خطراً عن الإرهاب الذي نعانيه عند الحدود.
فلسطين
وننتقل إلى فلسطين، حيث استطاع المقدسيون، ومعهم الشعب الفلسطيني كله، إرغام سلطات الاحتلال الصهيوني على التراجع عن قراراتها حيال المسجد الأقصى، بوضع بوابات إلكترونية أو كاميرات ذكية.
لقد قدّم هذا الشعب أنموذجاً جديداً في تحمّله مسؤولية الدفاع عن مقدساته، وفي تحدّي جبروت الاحتلال الصهيوني، من خلال احتشاد الفلسطينيين حول المسجد الأقصى، والوقوف في صفوف متراصة للصلاة أمامه، واستعدادهم لبذل كلّ التضحيات في مواجهة غطرسة هذا العدو وغطرسة المستوطنين.
لقد استطاع الفلسطينيون أن يُفشلوا خطط العدوّ الصهيونيّ في فرض أمر واقع في المسجد الأقصى قد يسمح له بالإمساك به وتنفيذ مخططاته فيه بشكل تدريجي، محاولاً الاستفادة من متغيرات قد تحصل أو من إحباط قد يشعر به الشعب الفلسطيني، نتيجة سياسات الخارج أو الداخل تجاهه.. ولكن هذا الشعب لم يبالِ في تحركه بكل الصامتين في الدول العربية والإسلامية وفي العالم، ممن اكتفوا ببيانات خجولة أو نداءات لا تسمن ولا تغني من جوع.
إنَّنا في الوقت الذي نحيي الشعب الفلسطيني على وقفته وتحديه وصموده ونجاحه في هذه الجولة من جولات المواجهة مع العدو، وخصوصاً الشباب الَّذين أثبتوا أنهم جديرون بحمل أمانة المسجد الأقصى، ندعو الجميع إلى تحمل مسؤولياتهم حيال القدس والأقصى والقضية الفلسطينية، التي تشكّل التحدي الأخطر لأمتنا، فكلما حاولنا التهرب منها زاد طمع العدو فينا، وكلّما تحملنا مسؤوليتنا تجاهها، ابتعدنا عن أتون الفتن المذهبية وعن حروب الأحزاب والطوائف والدول، وتخلصنا من الضعف الذي يهدد قضايانا الكبرى ووجودنا ومصيرنا ومستقبلنا.
المكتب الإعلامي لسماحة العلامة السيد علي فضل الله
التاريخ : 5 ذي القعدة 1438هـ الموافق : 28 تموز2017م