الإمام الصّادق.. شخصيَّة منفتحة على كلّ أبعاد الإسلام

ألقى سماحة العلامة السيد علي فضل الله ، خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عددٍ من الشخصيّات العلمائيّة والسياسيّة والاجتماعيّة، وحشدٍ من المؤمنين، ومما جاء في خطبتيه:

 

قال الله سبحانه وتعالى: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ}.. صدق الله العظيم

 

استعدنا في الخامس والعشرين من شهر شوال ذكرى وفاة واحد من أئمة أهل البيت(ع) الذي تنطبق عليهم ما أشارت إليه هذه الآية مما تقوله عند زيارته: أشهد أنّك أقمت الصلاة، وآتيت الزكاة، وأمرت بالمعروف، ونهيت عن المنكر، وعبدت الله مخلصاً، وجاهدت في الله حقّ جهاده حتى أتاك اليقين.. وهو الإمام جعفر بن محمد الصادق(ع).

 

ونحن في هذه المناسبة لن نكتفي كما قد يكتفي البعض في أجواء الوفيات باستثارة أجواء الحزن والمأساة التي عانى منها هذا الإمام(ع) كبقية أهل البيت(ع) وإن كانوا يستحقون حزننا فنحن نحزن لحزنهم ونفرح لفرحهم، بل علينا إلى جانب ذلك أن نتلمس الدور الذي قام به والأسلوب الذي انتهجه في حياته الذي لأجله عانى وتألم واضطهد لنقتدي به ونأخذ منه لحياتنا لتكون علاقتنا معه علاقة السلوك والعمل كما علاقة العاطفة والمشاعر والأحاسيس.

 

فعلى مستوى الدور الذي قام به الإمام الصادق(ع) في مرحلة إمامته التي امتدت لستة وثلاثين سنة.. التي عاشها الإمام في مرحلة أفول الحكم الأموي وبداية الحكم العباسي.. فقد كان متميزاً بفعل الحرية التي مكنته من ممارسة دوره الرسالي.. فتغاضى عنه الحكم الأموي لانشغاله بالدفاع عن حكمه والحكم العباسي لترسيخ وجوده في تلك المرحلة وتثبيت أقدامه..

وقد استفاد الإمام سلام الله عليه من هذا الجو لمواجهة الانحرافات الفكرية والثقافية التي أخذت بالاتساع في أوساط المسلمين، وتثبيت دعائم الفكر الإسلامي النقي الأصيل.

 

فقد عانى هذا الدين في ذلك الوقت من التحريف والتزوير الذي قام به الأمويون عندما أدخلوا عليه أحاديث غير صحيحة نسبوها لرسول الله(ص) ومفاهيم وأحكاماً شرعية وعقائد مغلوطة كان هدفهم منها هو إعطاء الشرعية لحكمهم وتثبيت دعائمه ومواجهة مناوئيهم.

 

وعانى(ع) أيضاً من تحدي الفتوحات التي حصلت آنذاك وأدت إلى انفتاح المسلمين على الثقافات والفلسفات اليونانية والفارسية والهندية والتي أثارت معها جدلاً في الداخل الإسلامي وعلامات استفهام وشبهات راحت تشكك بالدين ونظرته إلى الكون وإلى الحياة.. حيث كانت مرحلته مرحلة بداية تشكل مذاهب فقهية وكلامية وبروز أفكار التصوف والغلو وغير ذلك.

 

لقد تصدى الإمام(ص) لكل هذه التحديات، وهذا طبيعي فهو الأمين على الإسلام والحافظ له من أي انحراف، فراح يبين حقائق ما جاء عن الله وعن رسوله(ص).. ويجلي الغموض عنها ويواجه بمنطقه العلمي الانحرافات التي طرأت على الفكر والعقيدة والتشريع ويظهر معالم الفكر الإسلامي الأصيل..  وهو لم يكتف بجهده هذا، بل سعى لبناء كوادر ثقافية وفكرية وفقهية فأرسى قواعد مدرسته الإسلامية الجامعة التي أعدت مبلغين ومحاورين وخطباء في شتى المجالات، فكانت مقصداً لطلاب العلم يفدون إليها من كل مكان من دون أن يحجزهم عنها حاجز مذهبي سواء خلال وجود الإمام(ع) في المدينة أو في الكوفة.

 

وقد تميزت هذه الجامعة بالعمق والأصالة فهي أخذت الإسلام من ينابيعه الأصيلة والذي عبر عنه الإمام(ع) عندما كان يقول: "حديثي حديث أبي، وحديث أبي حديث جدي، وحديث جدي حديث الحسين، وحديث الحسين حديث الحسن، وحديث الحسن حديث أمير المؤمنين(ع) وحديث أمير المؤمنين حديث رسول(ص) وحديث رسول الله قول الله عز وجل".

وفي ذلك يقول الشاعر:

ووال أُنــاســـاً قولهـــم وحديثهـــم *** روى جدّنــا عن جبرائيل عن الباري

 

وقد تركت هذه الجهود أثرها الكبير في الميدان العلمي ولا يزال، وفي ذلك يقول الشيخ المفيد: "نقل الناس عنه من العلوم ما سارت به الركبان وانتشر ذكره في البلدان ولم ينقل العلماء عن أحد من أهل بيته ما نقل عنه.."

 

وقد تخرج من مدرسته العدد الكبير من العلماء الذين انتشروا في البلدان فأثروا في الفكر والفقه الإسلامي، وفي ذلك يقول الحسن بن علي الوشاء الذي عاصر الإمام الرضا(ع) وكان من صحابته: أدركت في هذا المسجد (مسجد الكوفة) تسعمائة شيخ كل يقول حدثني جعفر بن محمد.

 

هذا الدور التأصيلي الذي قام به الإمام الصادق(ع) والذي بذل جهده له في مواجهة التحريف والتزوير للفكر الإسلامي الأصيل وفي مواجهة التشكيك في هذا الدين وعقائده هو مسؤوليتنا أن نتابع ما قام به ومن بعده الأئمة عليهم السلام.. أن نحفظه بأن نبقيه نقياً صافياً بعدما سعى ويسعي الساعون لتشويهه وإدخال الانحراف إليه عن حسن نية أو سوئها.. وقد بين في ذلك القاعدة التي تضمن له ذلك عندما قال: "وما جاءكم من حديث من بر أو فاجر فاعرضوه على كتاب الله، فما وافق كتاب الله فخذوه وما خالف كتاب الله فاضربوا به عرض الحائط"..

 

في  الوقت الذي لا بد أن نبذل جهودنا في مواجهة التساؤلات التي قد تثار حول الإسلام في عقيدته ومفاهيمه وشريعته كما يثار الآن وهذه لا تواجه إلا بعلماء ومثقفين واعين يعيشون عصرهم.

 

ومن هنا كان تأكيده على أن التفقه لا ينحصر بالأحكام الشرعية، بل بوعي العقيدة والمفاهيم وكل الحقائق الدينية.

فكان يقول(ع) ولشدة اهتمامه بذلك: "لوددت أن أصحابي ضربت رؤوسهم بالسياط حتّى يتفقهوا".. والتفقه في الدين هو الحصن الذي لا يسمح لدخول الكثير من الانحرافات الفكرية والفقهية والتشريعية أن تتسلل إلى المجتمع لأن الجهل هو سببها.

 

وإذا كان البعض يتحدث أن هذه الوظيفة وظيفة التفقه هي وظيفة علماء الدين فهذا ليست صحيحاً، بل هي وظيفة كل مسلم.. فالعلم فريضة على كل مسلم ومسلمة.. والأمر بالمعروف لا يقف عند حد..

 

ولذلك نجد أن الذين كان يستند إليهم الإمام(ع) لم يكونوا متفرغين للعمل الديني، بل كانت لهم أعمالهم حتى الإمام(ع) تذكر سيرته أنه كانت له مزرعة وكان يقول: "إني لأعمل في بعض ضياعي وإن لي من يكفيني ليعلم اللـه أني أطلب الرزق الحلال".

 

هذا دور نأخذه من الإمام لواقعنا، وهناك بُعد آخر نستفيده من هذا الإمام وهو البعد الإنساني في شخصيته والذي تجلى في الكثير من مواقفه:

 

الموقف الأول: وهو الذي حدث مع بعض مواليه (العاملين عنده) وهو "مصادف" عندما أعطاه ألف دينار وقال له: اشتر بها بضاعة ثم تجهز لتخرج بها مع تجار آخرين إلى مصر ليبيعها معهم.. فلمّا دنوا منها استقبلتهم قافلة خارجة من مصر فسألوهم عن مدى الحاجة للبضاعة التي جاؤوا بها فأخبروهم أنّه ليس بمصر منها شيء وأن الناس بحاجة ماسة إليها، فتحالفوا وتعاقدوا على أن يضاعفوا أرباحها، مستغلين حاجة أهل مصر إليها بحيث يكون الربح مئة في المئة أي مقابل الدينار ديناراً وهذا ما حصل.

 

فلما عادوا دخل "مصادف" على أبي عبد الله الصادق(ع) ومعه كيسان في كلّ واحد ألف دينار فقال له: جعلت فداك هذا رأس المال وهذا الآخر ربح… فغضب الإمام(ع) غضباً شديداً وقال له: إنّ هذا الربح كثير ولكن ما صنعتم في المتاع؟ فأخبره مصادف بما جرى وتحالفهم على أن لا يبيعوا إلا بهذا الربح فقال لهم: سبحان الله! تحلفون على قوم مسلمين ألاّ تبيعوهم إلاّ بربح الدينار ديناراً، ثمّ أخذ أحد الكيسين، فقال: هذا رأس مالي وأما الكيس الآخر فلا حاجة لي بهذا الربح.. أرجعه إلى أصحابه..

ثم قال(ع): "مجالدة السيوف أهون من طلب الحلال".

 

الموقف الثاني: كان للإمام الصادق(ع) صديق كان لا يكاد يفارقه، فغضب يوماً على عبده وسبه.. فلما سمع الإمام(ع) دفع يده فصك بها جبهة نفسه. ثم قال: سبحان اللـه تقذف أمه، قد كنت أرى لك ورعاً.. فقال الرجل: جعلت فداك إن أمه أمة مشركة وليست مسلمة، فقال: أن لكل أمة نكاحاً يحتجزون به من الزنا.. ولم يكلمه بعدها الإمام حتى تاب من هذا الذنب وقرر أن لا يعود إليه.

 

الموقف الثالث:

المفضل بن عمر أحد الأصحاب الملخص للإمام مر بشاب وأخته يتناحران فأتى بهما إلى منزله وأصلح بينهما، ثم دفع لهما مبلغاً من المال قائلاً أنه ليس من مالي ولكن أبا عبد الله أعطاني مبلغاً من المال وأمرني إذا تنازع أحد من الناس وتوقف الإصلاح على بذل مال فادفع له من مالي حتى لا يبقى نزاع.

 

وهذه الإنسانية لم تقف عند هذه الحدود كما أشرنا، بل برزت في عمله الدعوي وفي تبليغه الديني وفي علاقته مع الذين اختلف معهم في الدين.. كان حريصاً على أن يبلغ قلوبهم وأن يفتحها على دينه وإيمانه قبل عقولهم..

 

وهذا برز في تعامله مع الزنادقة والملاحدة الذين ما كانوا يتورعون عن الإساءة إلى القيم الإيمانية وإلى المقدسات الدينية وبأسلوب بذيء.. فيأتي أحدهم ليقول لهم عن الطواف: إلى كم تدوسون هذا البيدر، وتلوذون بهذا الحجر.. فما كان يواجههم بمثل ما كانوا يواجهونه، بل يرد عليهم بمنطق قوي ولكن بأسلوب محبب.

 

حتى ورد عن ابن المقفَّع صاحب كتاب كليلة وكان من الملاحدة أنه قال عن الإمام الصادق(ع): ليس هناك من يستحق اسم الإنسانية كجعفر بن محمد.. فقال له ابن أبي العوجاء ولم اخترته من بين الناس قال: لأني رأيت عنده ما لم أره عندهم..

وإلى هذا البعد كان يوجه شيعته ومحبيه ومواليه إلى تعزيز التواصل بين المسلمين عندما كانوا يسألونه كيف نخالط من يختلف معنا في المذهب.. قال(ع): "عودوا مرضاهم، واشهدوا جنائزهم، واشهدوا لهم وعليهم، وصَلُّوا معهم في مساجدهم"..

 

وكان يوصي(ع) أصحابه: "كونوا زيناً لنا ولا تكونوا شيناً علينا"..

 

وبهذا الأسلوب استطاع الإمام أن يمد جسور التواصل مع الآخرين وأن يفتح قلوب الآخرين عليه وعلى رسالته وأن يزيل الحواجز التي تنصب أمامهم.. وأن تشمل مدرسته كل هذا التنوع بحيث كانت تضم بعض أئمة المذاهب الأربعة والكثيرين ممن يختلفون معه في المذهب..

 

وبهذا نستطيع أن نوصل هذا الدين إلى الناس، فهو لا يصل بالكلمة القاسية والأسلوب الفظ، بل بمنطق المحبة التي دعا إليها الله رسوله عندما قال: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} وعندما قال له: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ}..

 

جعلنا الله من هؤلاء الدعاة الذين يكونون زيناً لأئمتهم لا شيناً عليهم.. كما كانت وصيته لشيعته: "كونوا زيناً لنا ولا تكونوا شيناً علينا"..

 

الخطبة الثانية

 

عباد الله، أوصيكم وأوصي نفسي بما أوصانا به الإمام الصادق (ع) حين وقف خطيباً في أصحابه وقال: "أَيُّهَا النَّاسُ، كَأَنَّ الْمَوْتَ عَلَى غَيْرِنَا كُتِبَ، وَكَأَنَّ الْحَقَّ فِيهَا عَلَى غَيْرِنَا وَجَبَ، وَكَأَنَّ الَّذِي نُشَيِّعُ مِنَ الأَمْوَاتِ سَفَرَ عَمَّا قَلِيلٍ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ، نُبَوِّئُهُمُ أَجْدَاثَهُمْ، وَنَأْكُلُ تُرَاثَهُمْ، كَأَنَّا مُخَلَّدُونَ بَعْدَهُمْ قَدْ نَسِينَا كُلَّ وَاعِظٍ وَأَمِنَا كُلَّ جَائِحَةٍ، فَطُوبَى لِمَنْ شَغَلَهُ عَيْبُهُ عَنْ عُيُوبِ النَّاسِ، وَطُوبَى لِمَنْ أَنْفَقَ الْفَضْلَ مِنْ مَالِهِ، وَأَمْسَكَ الْفَضْلَ مِنْ قَوْلِهِ..".
 

أيها الأحبة، إنَّنا أحوج ما نكون إلى مثل هذه المواعظ، كي توقظنا من غفلتنا، وتبصرنا بحقيقة هذه الدنيا، حتى لا تبهرنا بزخارفها وبهارجها وفتنتها، فنراها على حقيقتها، وكفى بالموت واعظاً ودليلاً لمن اتعظ به واعتبر ووعى! ومع الأسف، نحن نسمع بأناس غادرونا، وبأحباء ودّعونا، نشارك في مناسباتهم، ونرى بأم أعيننا الحقيقة؛ حقيقة أنهم لم يأخذوا معهم أموالهم وعقاراتهم ومواقعهم، وتركوها وذهبوا، وها هم رهائن القبور وسكانها! لكنّنا نمرّ على ذلك مرور الكرام، وكأن الموت على غيرنا كتب ونحن مخلَّدون من بعدهم!
 

فلنكن من أهل المواعظ، وممن يستفيدون مما جرى على غيرهم.. وبذلك، نكون أكثر منعةً وأكثر وعياً ومسؤوليةً، وعندها سنكون أكثر قدرةً على مواجهة التحديات.
 

لبنان

والبداية من لبنان، الَّذي خطا خطوة في الاتجاه الصَّحيح، كنا دائماً ندعو لها ونراها حقاً للموظفين على دولتهم.. وواجباً عليها تجاههم، في مقابل ما تطلبه منهم من إخلاص في أعمالهم، بأن تؤمن لهم سبل العيش الكريم، وتحصّنهم من أن يكونوا فريسة لتسويلات شياطين الإنس الحاضرين عند الحاجة.
 

ونحن في الوقت الَّذي نقدّر عالياً كلّ الجهود الَّتي بذلت من أجل إقرار السلسلة بعد طول انتظار، نرى في ذلك تشجيعاً لكل المطالبين بحقوقهم بأن لا ييأسوا وأن يتابعوا.. فما ضاع حقّ وراءه مطالب.. ولكن هذا الحق لا يعني التنكر لمخاوف تطرح في هذا المجال. وطرح المخاوف لا يعني أبداً رفض ما حصل أو التحفظ عنه، وبعض ما حصل نقدره، وخصوصاً حين تم تجاوز خطوط حمراء في بند الضرائب كان بعض كبار رجال المال يشددون على عدم مسّها.
 

ولكنَّ خوفنا هو من الارتجال الذي نراه في هذه الدولة.. فنحن نخشى من قراراتها التي علّمتنا التجارب أنها لا تنتج من تخطيط دقيق ومدروس، بل عن ردود فعل الشارع وضغطه، أو لمصالح مالية أو انتخابية، أو لكسب الجمهور، أو لتصفية حسابات، من دون أن تأخذ بعين الاعتبار التداعيات أو أن تحسب لها حساباً.
 

ومن حقّنا أن نخاف بعدما شاهدنا فاتورة الضرائب الباهظة الثمن على المواطنين، مما سيتأثر بها الفقراء أو متوسطو الحال، بعدما كانت هناك وعود حاسمة وجازمة بأن لا تؤخذ من جيوب الفقراء.. والكل يعرف مدى الانحدار الذي وصل إليه الواقع الاجتماعي للناس الفقراء أو لمتوسطي الحال، ومدى الأعباء التي يتحملونها.. ففاتورة الكهرباء فاتورتان، وفاتورة الماء كذلك وغيرها.
 

إنّ الضرائب حق للدولة في أيِّ بلد من البلدان، ولا تقوم الدولة إلا بذلك.. إلا أنَّ هذا يحصل بعدما تؤمن الدولة استقراراً اقتصادياً واجتماعياً للمواطنين، وتعطي أكثر مما تأخذ، لكنَّ الأمر مختلف لدينا.
 

إننا نرى أنه كان بالإمكان، انطلاقاً من كلام اقتصاديين، أن توفر الدولة موارد نظيفة للسلسلة من خلال رؤية اقتصادية متكاملة، وخطة إصلاح حقيقية، تؤدي إلى تعزيز الجباية، ومواجهة الفساد، وإيقاف الهدر.. ورفع نسبة الضرائب على الشركات الكبيرة، واستعادة حق الدولة في الأملاك البحرية، بدلاً من الاكتفاء بغرامات شكلية على سلع معينة..
 

وانطلاقاً من تداعيات القرار التي بدأت برفع الأسعار، وتجلَّت باستغلال البعض للقرارات التي صدرت.. والحديث الجاري عن زيادة الأقساط المدرسيّة وغير ذلك مما يثقل كاهل المواطنين، ندعو إلى اعتماد أسلوب جديد في تأمين الموارد لهذه السلسلة، ولن تعدم الدولة طريقاً إلى ذلك.. وإن لم تستطع ذلك، كما يبدو، وبقيت الأمور على حالها، فعلى الأقل لا بدَّ من أن تتدخَّل الدولة لإجراء رقابة جدية على أسعار السلع المتداولة والزيادة غير المنطقية من قبل التجار الجشعين، وبذل الجهود الإضافية من أجل حل مشكلات الكهرباء والماء والصحة وغيرها.
 

في هذا الوقت، مرَّت التعيينات المنتظرة الَّتي جرت بالأمس في مجلس الوزراء، حيث كان الجميع بانتظار صدورها بآلية جديدة، تحمل معنى الإصلاح الذي وعدنا به مع بداية العهد الجديد، لكننا فوجئنا كما فوجئ اللبنانيون، بأن الآلية لا تزال تسويات ومحاصصات بين القوى السياسية.

 

في هذا الوقت، ينتظر اللبنانيون، وبفارغ الصبر، جلاء الصّورة فيما يجري على الحدود الشّرقيَّة، لإخراج المسلحين منها، فهم قنابل موقوتة وقابلة للتفجير دائماً.. على الحدود أو في الداخل اللبناني أو في مخيمات النازحين.. إنَّنا مع كلّ جهدٍ لإنهاء هذا الواقع الشّاذّ الَّذي بات يربك اللبنانيين والسوريين معاً، ويساهم في عدم استقرار هذا البلد.

 

إنَّنا نبارك هذه الأيادي والسّواعد الَّتي تضع حدود الوطن نصب عينيها، وتراه من أولوياتها في الحدود الجنوبيّة والشّرقية، وهي على استعداد لأن تقدّم أغلى التّضحيات في هذا الطريق، من أجل وطن آمن ومستقرّ.

 

فلسطين

وننتقل إلى المسجد الأقصى في هذا اليوم الَّذي نريده أن يكون يوم غضب عربيّ وإسلاميّ وإنسانيّ في مواجهة العدو الصهيوني، الَّذي لا يكلّ ولا يملّ من السّعي لاستهداف هذا المسجد.. فهو لم يلغ مشروعه الاستراتيجي بإقامة هيكل سليمان المزعوم على أنقاضه، ويسعى إلى ذلك بخطوات بدأها بالعمل على تقسيمه زمانياً ومكانياً بين المسلمين واليهود، كما فعل في المسجد الإبراهيمي في الخليل، استكمالاً لما يقوم به من حفريات يجريها تحت المسجد الأقصى، وتهدد أركانه، فضلاً عن الضغوط المستمرة على الذين يتولون إدارته وإرهاب المدافعين عنه.

 

وقد جاءت خطواته الأخيرة بتشديد الرقابة على المصلين، بذريعة العملية التي حصلت على مقربة من المسجد الأقصى، لتؤكد مخططاته التهويدية، والإمساك أكثر بقرار المسجد الأقصى والقدس وكل فلسطين.

 

إنّنا في الوقت الّذي نحيي المقدسيين بكلِّ تنوعاتهم، مسلمين ومسيحيين، على وقوفهم معاً في وجه الإجراءات الصهيونيّة وإصرارهم على رفضها.. ندعو إلى موقف فلسطينيّ موحّد في مواجهة هذه الإجراءات التي تهدّد أمن المسجد الأقصى، وحرية العبادة فيه، وعدم السماح للعدوّ للعب على التناقضات في ذلك، كما ندعو الشّعوب العربيّة والإسلاميّة إلى تحمّل مسؤوليّاتها في مواجهة المشروع الصّهيونيّ، وعدم السّماح له بأخذ مكتسبات إضافيّة في القدس أو المسجد الأقصى.

إنّ الأقصى بكلِّ ما يمثل هو مسؤولية المسلمين، ولا ينبغي أن يفرطوا بقبلتهم، فالَّذي يفرط بقبلته الأولى وبمقدساته، سيفرط بأيّ مقدس وأيّ واجب. إنّنا ندعو الدّول العربيّة والإسلاميّة إلى الخروج عن صمتها، وعدم الاكتفاء بالشّجب، والتّحرّك بكلّ جدية في مواجهة هذه الإجراءات.

 

فيا أيّها العرب والمسلمون، المسجد الأقصى يناديكم، وهو يستصرخ ضمائركم، فأجيبوه بأصواتكم ومواقفكم، وقدموا لأجله التضحيات الكبرى، فهو يستحقّ منكم ذلك فلا تضيعوه.

 

المكتب الإعلامي لسماحة العلامة السيد علي فضل الله

التاريخ : 27 شوال 1438هـ الموافق:21 تموز2017م

 

Leave A Reply