إدخالُ السّرورِ على قلوبِ المؤمنين لقاءَ وجهِ الله

{يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاء لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ* قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ}[يونس: 57 – 58].

لقد أراد الله سبحانه لعباده المؤمنين أن يزرعوا السرور حيث يتواجدون؛ أن يزرعوه على الوجوه، وأن يستودعوه القلوب، أن لا يمروا مرور الكرام على من ترهقهم الحياة بتعبها ومشقَّاتها ومشكلاتها واختباراتها وآلامها وهمومها، أن يكونوا هم اليد الحانية التي تمتدّ إلى هؤلاء لتخفف عنهم وتساعدهم، وتقوّي من عزيمتهم، وتشدّ من أزرهم، وتنفّس عنهم همومهم، وتفرج عنهم كربهم، وتبعث فيهم الإحساس بالأمل بالطمأنينة.

أحبُّ الأعمالِ إلى الله

وفي ذلك وردت عدة من الأحاديث الشريفة، ففي الحديث: “إنَّ من أحبّ الأعمال إلى الله، إدخال السرور على قلب المؤمن، وأن يفرِّج عنه غماً، أو يقضي عنه ديناً، أو يطعمه من جوع”. وهذا هو السبيل لتوقي أهوال يوم القيامة، فقد ورد عن الإمام الصادق (ع): “إذا بعث الله المؤمن من قبره، خرج معه مثال يقدم أمامه، كلَّما رأى المؤمن هولاً من أهوال يوم القيامة، قال له المثال: لا تفزع ولا تحزن، فيقول له المؤمن: من أنت؟ فيقول: أنا السّرور الذي كنت أدخلته على أخيك المؤمن”، وهذا ينطبق على أولادك، زوجتك، الأيتام، الفقراء، المحتاجين، أصحاب الديون… عندما عالجت تلك المشكلة، وسوَّيت تلك القضية، وفرَّجت عن ذلك المكروب وحلَّيت هذا الخلاف…

وقد جعل الله هذا العمل هو السبيل لبلوغ الجنة والحصول على رضوان الله تعالى، حيث ورد في حديث عن الإمام الصادق (ع) أنه قال: “أوحى الله تعالى إلى داود (ع)، إنّ العبد ليأتيني بالحسنة يوم القيامة فأحكمه بها في الجنة – أي يجعل الجنة تحت تصرفه ويتحرك فيها كيف يشاء – فقال داود (ع): وما تلك الحسنة يا ربّ؟ قال: يدخل على عبدي المؤمن سروراً ولو بتمرة، فقال داود (ع): حقّ لمن عرفك ألَّا يقطع رجاءه منك”.

وفي الحديث: “إنَّ في الجنةِ دارًا يُقالُ لها دارُ الفرَحِ، لا يدخُلُها إلَّا مَنْ فرَّحَ الأيتام”…

أمَّا على صعيد الدنيا، ففي الحديث: “فوالذي وسع سمعه الأصوات، ما من أحد أودع قلباً سروراً، إلَّا وخلق الله له من ذلك السرور لطفاً، فإذا نزلت به نائبة، جرى إليها كالماء في انحداره، حتّى يطردها عنه كما تُطرد غريبة الإبل”.

وعن أبي عبد الله (ع) قال: “أيما مؤمن نفّس عن مؤمن كربة، نفّس الله عنه سبعين كربة من كرب الدنيا وكرب يوم القيامة، ومن يسّر على مؤمن وهو معسر، يسَّر الله له حوائج الدنيا والآخرة، وإنَّ الله لفي عون المؤمن ما كان المؤمن في عون أخيه المؤمن، فانتفعوا في العظة وارغبوا في الخير”.

فالسرور الَّذي ندخله على قلوب الآخرين يصل إلينا، ومن خلاله ندفع البلاء عن أنفسنا وعمَّن نتولى أمرهم.

ولأهمية هذا السلوك، نرى أنَّ رسول الله ربط سروره وسرور الله عزَّ وجلَّ به، فقال: “مَن سرّ مؤمناً فقد سرَّني، ومَن سرَّني فقد سرَّ الله، ومَن سرَّ الله أدخله جنَّته”.

وفي الحديث، أنّ رجلاً جاء إلى الإمام الكاظم (ع) وهو في الحجّ، وقال له: إن من يتولى أمرنا هو من محبيكم، فاكتب لي كتاباً ليكشف لي كربي وليعينني على  قضاء حوائجي، فكتب له الإمام (ع) كتاباً، ورد فيه: “اعْلَمْ أنَّ لله تحتَ عَرشِهِ ظِلَّا لا يُسكِنُهُ إلَّا مَن أسدى إلى أخِيهِ مَعروفاً، أو نَفَّسَ عنهُ كُربَةً، أو أدخَلَ على قَلبِهِ سُروراً، وهذا أخُوكَ، والسّلامُ”. قال الرجل: فعدت من الحجّ، فدخلت إلى الوالي وأعطيته كتاب الإمام (ع)، فقبَّله ووضعه على رأسه وقضى لي حاجتي، فلقيت الإمام الكاظم (ع) في السنة القادمة، وجعلت أحدِّث بما فعل هذا الوالي معه، وأنا أتحدّث معه كان وجهه يتهلَّل فرحاً، فقلت يا مولاي سرّك ذلك: فقال (ع): “أي والله، لقد سَرَّني، وسَرَّ أمير المؤمنين، والله لقد سَرَّ جَدّي رسول الله، ولقد سرَّ الله تعالى”.

من أشكالِ إدخالِ السرور

وإدخال السرور على قلب المؤمن له صور عديدة، من قبيل الابتسام في وجهه، زيارته، إهداؤه، مساعدته فيما يحتاج إليه، وتهنئته في أفراحه، ومشاركته في أحزانه، وتفريج غمّه وهمّه، وعيادته في مرضه، وتفقّد أحواله. ولا يقف الأمر عند الأحياء، بل يصل إلى الأموات، فنحن ندخل السرور على قلوبهم عندما نؤدّي الواجبات عنهم، أو نقوم بأعمال الخير على اسمهم وعلى نيَّاتهم، وهذا ما كنا نقرأه في دعاء كلّ يوم من شهر رمضان المبارك: “اللَّهمَّ أدخل على أهل القبور السرور…”.

واللافت أنه عندما يبادر الفرد إلى ذلك من دون طلب، وبعيداً من الخدمة أو الواجب، فهذا من شأنه ليس فقط أن يُفرِّج همَّ المهموم ويثلج صدره، بل يدخل الفرح إلى قلبه…

إنها سعادة ليس بعدها سعادة، يشعر بها الإنسان عندما يسعد آخرين أو يشارك في إسعادهم، هي سعادة لا يحسّ بها إلا الذين يعيشونها بكلّ صفائها ونقائها، ممن لا يريدون بها إلَّا وجه ربهم، ممن يملكون قلوباً طرية، شفافة، مضيئة، تضيء على من حولها أمناً وأماناً وسلاماً.

الحرصُ على إفراحِ المؤمنين

فلنحرص على أن نكون نحن ممن أودع الله لديهم هذه القلوب، هي قلوب تتمثَّل قلوب الأنبياء والصدّيقين والشّهداء، الذين أفنوا حياتهم وأتعبوها من أجل أن يدخلوا السرور على قلوب الناس، بجعلهم يسيرون على هدى الله الَّذي هو سبيل لراحتهم في الدنيا وسعادتهم في الآخرة، ويبعث الأمل في قلوبهم والخير في حياتهم.

ولم يشأ الله لهذا الفرح أن يكون عبر مبادرات الأفراد، بل هيَّأ له أيّاماً أراد للناس فيها أن يعيشوا رسالة فرح جعلها الله عنواناً للعيد، يريدنا الله أن نبثّ فيه ألوان السرور والبهجة في بيوتنا، مع جيراننا وأرحامنا وكلّ المحيط الذي نعيش فيه، ولا سيَّما أولئك الفقراء والمحتاجين, بما يعيد البسمة والأمل إليهم، وفي ذلك الخير لنا في الدنيا والآخرة.

والحمد لله ربّ العالمين.

بسم الله الرّحمن الرّحيم

الخطبة الثّانية

عباد الله، أوصيكم وأوصي نفسي بتقوى الله الَّتي ينبغي أن نتموّن منها زادنا لبقية الأشهر، والتي بدونها لن نحقّق ما أراده الله من فريضة الصيام، والتي أشار إليها عندما قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}، فلا يكفي في العبادة أن نؤدّيها، بل لا بدّ أن نحقّق هدفها.

وقد أشار الحديث إلى القياس الذي نقيس به أنفسنا، لنرى مدى بلوغنا التقوى وتحقيق الهدف المرجوّ من الصّيام، عندما قال: “إنَّ أهل التقوى أيسر أهل الدنيا مؤونة، وأكثرهم لك معونة، قوّالون بأمر الله، قوّامون على أمر الله، قطعوا محبَّتهم بمحبّة ربّهم، ووحشوا الدنيا لطاعة مليكهم، ونظروا إلى الله تعالی وإلى محبَّته بقلوبهم، وعلموا أنَّ ذلك هو المنظور إليه لعظيم شأنه”.

نسأل الله سبحانه وتعالى أن نكون ممن وفَّقنا لبلوغ هذه الدرجة، لنحظى بنتائجها في الدنيا، وبالموقع المميَّز لمن اتصفوا بها في الآخرة، والتي أشار إليها الله سبحانه: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ}، ولنكون أكثر قدرة على مواجهة التحديات.

الأزمة وسياسة التّرقيع

يأتي هذا العيد فيما تستمرّ معاناة اللبنانيين على مختلف الصعد، وإذا كان من إجراءات قامت بها الحكومة أخيراً لامتصاص غضب الشَّارع والإضراب المستمر للقطاع العام واحتجاجات المتقاعدين والعسكريين، بصرف رواتب إضافيَّة والزيادة في بدل الانتقال، فلا يبدو أنها ستؤدّي النتيجة المرجوَّة منها، ولن تعيد موظفي القطاع العام إلى مراكز عملهم، بل هي استمرار لسياسة الترقيع التي تتبعها الدَّولة، ومن باب رفع العتب، بل قد لا تستطيع الدولة تأمين أعبائها، لعدم توفر المال الكافي، وإذا أرادت تأمينها كالعادة، من خلال طبع أوراق نقدية جديدة، فهي تزيد في التضخم الذي يساهم في انهيار الليرة اللبنانيَّة، ما يؤدي إلى أن ما يعطى باليد يؤخذ باليد الأخرى.

ولهذا قلنا ولا نزال نقول، إنَّ أقصر الطرق لمعالجة هذا الوضع المتفاقم منذ سنوات، والقابل للتمديد، هو التوصل إلى حلّ سياسيّ يمهِّد لتأمين الاستحقاقات، ولقرارات إصلاحية على المستوى الاقتصادي، والعمل بخطة تعيد الاستقرار النقدي إلى البلد.

إن من المؤسف أن من يتحملون المسؤولية، كفّوا عن القيام بدورهم وبالواجب الملقى على عاتقهم، وهم ينتظرون ماذا ستفضي إليه توافقات الخارج، علماً أنَّ البلد ليس من أولوياته، وإذا كان من توافقات يراهن عليها في هذا المجال، فإنَّ أوان انعكاس هذه التوافقات لم يحن بعد، وقد لا تأتي.

وإلى أن يحصل ذلك، نجدد دعوتنا للحكومة إلى العمل بكلّ جدية للقيام بما عليها في هذه المرحلة، للتخفيف من الأعباء على المواطنين بدلاً من زيادتها، والتي كان آخرها رفع الدولار الجمركي إلى ستّين ألف ليرة، وبالعمل على تدارك ما يتمّ الحديث عنه عن ارتفاع سعر الدولار مجدَّداً بعد انتهاء شهر رمضان، في الوقت الَّذي ندعو إلى استمرار مبادرات الخير الَّتي شاهدناها في شهر رمضان، والتي ساهمت في التخفيف من وقع المعاناة على الصَّعيد الاقتصادي على شريحة الفقراء التي ما كانت لتجد قوتها لولا هذه المبادرات، بعد تقاعس الدَّولة وانكفائها عن هذا الدور.

تحرّكات.. ومخاطر

وهنا نحذِّر من خطورة ما يحصل على صعيد المتقاعدين العسكريّين، وما يواجهونه من قمع شهدناه أخيراً، للتَّداعيات التي تحصل من وراء ذلك على صعيد الأفراد والمؤسَّسة العسكرية وانتظام العمل فيها، حين يجد من هم في الخدمة ما سيؤول إليه حالهم عندما سيصلون إلى هذه السنّ، وأنهم لن يُقدَّروا على الدور الذي قاموا به في خدمة وطنهم والتضحيات التي قدَّموها.

إننا في الوقت الذي ندعو إلى حكمة المتقاعدين في تحركاتهم، نؤكِّد ضرورة وعي مخاطر استخدام العنف في مواجهة مطالبهم.

في هذا الوقت، نحذِّر من العودة إلى أسلوب قطع الطرق على المواطنين، وقد شاهدنا تداعياتها سابقاً ولا نريد أن تتكرَّر، وإذا كان هناك من يشعر بانحياز الأحكام القضائيَّة التي صدرت أخيراً بحقّ ما جرى في خلدة سابقاً، فليكن التعبير عن هذا الرفض ضمن الأطر القانونيّة التي تسمح بالنظر في الأحكام من جديد.

ونبقى في الداخل، لنحذِّر من ظاهرة استسهال القتل والجريمة التي بتنا نشهدها، لتبعات ذلك على أمن اللّبنانيين واستقرارهم، والتي تتفاقم في ظلّ الترهّل الذي نشهده على صعيد مؤسَّسىات الدولة، والذي بات يفوق قدرة القوى الأمنيَّة على ضبطه، رغم تقديرنا الكبير للدور الذي تقوم به هذه القوى، ما بات يدعو إلى العمل بكل جدية لمواجهة هذه الظاهرة على صعيد البناء الأخلاقي والإيماني والتربوي، والعمل على العقوبات الرادعة، والأهم هو استعادة الدولة لهيبتها، وأداء القضاء لدوره وإبعاده عن التَّسييس.

***