الأخلاق: مفتاح رسول الله لقلوب الناس وعقولهم

العلامة السيد علي فضل الله

قال الله سبحانه وتعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ}. صدق الله العظيم.

نلتقي في السابع والعشرين من شهر رجب ذكرى المبعث النبوي الشريف، هذا الذي نزل فيه الوحي على رسول الله(ص)، وهو يتعبد وحيداً في غار حراء ليبلغه أنه آن الأوان للبدء بالعمل على إخراج الناس من جهلهم وتخلفهم وضلالهم، والأخذ بأيديهم إلى حيث الإيمان والعلم والوعي والهداية. ومنذ ذاك لبى رسول الله(ص) نداء ربه وبلغ رسالته واستطاع خلال فترة لا تتجاوز الثلاث والعشرين سنة أن يفتح قلوب الناس على رسالته، وأن يوصل صوت الإسلام إلى أرجاء المعمورة..

وهنا قد يطرح السؤال، ما الذي جعل هذه الرسالة تبلغ هذا المدى، وكيف استطاع رسول الله(ص) أن يغير مجتمعاً جاهلياً متخلفاً تغلب عليه الأمية وتفتك به الصراعات القبلية والعشائرية إلى مجتمع حمل الحضارة إلى العالم..

هناك عوامل عديدة تكاملت وساهمت في هذا التغيير ومنها طبيعة الدين الذي حمله رسول الله(ص) للناس والذي ينسجم في عقائده وشريعته ومفاهيمه مع موازين  العقل ونداء الفطرة، ومنها سحر القرآن الكريم في بلاغته وفصاحته ورونقه وجمالية كلماته، ومنها الرعيل الاول من المسلمين الذين صحبوا رسول الله(ص) وانضووا في ظل رسالته وأخلصوا له..

ومن العوامل الاساسية التي أشار القرآن الكريم، والتي لا بد من التوقف عندها، هي شخصية رسول الله(ص) والصفات التي تميز بها، فقد كان لها الدور الأساس في سرعة انتشار الإسلام وبلوغه آفاق العالم، عندما قال الله: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ}..

وفي قوله: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ}.. وفي قوله عنه: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ}..

فلم يكن رسول الله فظ اللسان ولا غليظ القلب، و لم يحمل في قلبه حقداً على أحد، حتى لأولئك الذين آذوه وكانوا يضعون الأشواك في طريقه ويتهمونه بالسحر والجنون وأبعدوه عن أحب البقاع إليه وحاربوه، بل كان يتحسر لحالهم ويتألم، كادت نفسه تزهق لذلك، ولهذا تدخل الله عز وجل ليقول: {فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ}، وفي آية أخرى: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آَثَارِهِمْ (أي مهلك نفسك بعد توليهم عنك) إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً} {وَمَنْ كَفَرَ فَلَا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ}..

ولذلك قيل له يوم أحد بعد أن شُج رأسه من سيوفهم وكسرت رباعيته: لم لا تدع عليهم فالله يستجيب لدعائك، قال لهم: “إني لم أبعث لعاناً، إنّما أنا رحمة مهداة”. وكان(ص) يكتفي بأن يدعو للذين آذوه وآذوا أصحابه وأعلنوا عليه الحروب: “اللهم أهدِ قومي فإنهم لا يعلمون”..

وقد تجلت أخلاقه ورحمانيته في كل مواقفه، والتي نشير إلى بعضها:

فقد ورد عن أحد أصحابه أنه قال: ” كُنتُ أَمْشِي مَعَ رسول اللَّه(ص) وَعَلَيْهِ بُرْدٌ نَجْرَانيٌّ غلِيظُ الحَاشِيةِ، فأَدْركَهُ أَعْرَابيٌّ، فَجَبَذهُ بِرِدَائِهِ جَبْذَةً شَديدَةً، فَنظرتُ إِلَى صَفْحَةِ عاتِقِ النَّبيِّ(ص) وقَد أَثَّرَتْ بِها حَاشِيةُ الرِّداءِ مِنْ شِدَّةِ جَبْذَتِهِ، ثُمَّ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ، مُرْ لِي مِن مالِ اللَّهِ الَّذِي عِندَكَ، فالتَفَتَ إِلَيْه، فضَحِكَ، ثُمَّ أَمر لَهُ بعَطَاءٍ”..

موقف آخر له، فقد ورد أن يهوديا كان يضع النفايات أمام بيت النبي نهاه رسول الله أن لا يفعل ذلك لكنه استمر عليه رغبة بإيذاء الرسول.. وفي يوم افتقدها فسأل عنه، فقيل له أنه مريض، فذهب إليه وتفقده وأبدى الاستعداد لمساعدته في مرضه ومساعدة عائلته من دون أن يعاتبه على ما كان يقوم به في صحته.. كان هذا اللقاء كافياً لأن يقول الرجل: افتح يدك يا رسول الله حتى أبايعك على الإسلام..

وفي موقف آخر، بعد معركة الأحزاب وجه رسول الله سرية للمسلمين أُسر فيها ثُمامة بن أُثال سيد بني الحنفية.. وعندما جيء به الى رسول الله (ص) قال لأصحابه: أحسنوا إسار هذا الرجل، وقال لأهله: ابعثوا له من طعامي، وأمر أن يشرب كما كان يشرب من حليب ناقته.. وأمر أصحابه أن يتوددوا إليه وأن لا يبادلوه بسوء، بعدها عفا عنه، وقبل أن يغادر الرجل إلى أهله ذهب إلى نخلٍ قريب من مسجد النبي(ص) فاغتسل ثم دخل المسجد وقال وبأعلى صوته: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله، يا محمد والله ما كان على الأرض وجه أبغض إلي من وجهك، فقد أصبح وجهك أحب الوجوه إليّ، والله ما كان من دين أبغض إلي من دينك، فأصبح دينك أحب الدين إلي والله ما كان من بلد أبغض إلي من بلدك فأصبح بلدك أحب البلاد إلي..

إذاً الأخلاق هي مفتاح رسول الله لقلوب الناس وعقولهم، وبه انتشر الدين وامتد في الآفاق.. وفي ذلك الرد على كل الذين يقولون بأن الإسلام انتشر بالسيف، صحيح كان للسيف دور في الدفاع عن الدين، لكن هذا السيف لم يسلط على أحد للدخول في الإسلام، بل ارتفع في مواجهة السيوف التي أرادت استئصاله…

أيها الأحبة، إننا نريد لذكرى المبعث الشريف الذي هو يوم اكتمال المسيرة التي جاء لأجلها الأنبياء، بأن تكون مناسبة لنستنفر جهودنا لمتابعة ما بدأه رسول الله(ص) بأن نفتح قلوب الناس وعقولهم على ما جاء به رسول الله(ص) وتعب وعانى لأجله، ونحن لن نبلغ ذلك بلسان فظ وقلب قاسٍ وأخلاق سيئة.

لذلك أيها الأحبة، لا يكفي أن يكون خطابنا مقنعاً وحجتنا ظاهرة ومعنا الحق ولدينا القوة على من خاصمنا حتى نوصل رسالتنا إلى الناس ونوسع دائرة امتداد هذا الدين، بل لا بد من أن يكون ذلك مصاحباً للأخلاق.. فلنتخلق بأخلاق رسول الله(ص)، لنصل إلى قلوب الناس وعقلوهم وبه نستحق أن نكون متدينين، فالدين هو حسن الخلق، كررها رسول الله(ص) ثلاثاً لمن جاء يسأله عنه.. وهو بعث لأجله عندما قال: “إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق”.. فيما الخلق السيئ يفسد الإيمان كما يفسد الخل العسل.. وبذلك نكون جديرين بالانتماء إلى رسول الله(ص) ومتأسين به، ونكون زيناً له لا شيناً عليه..

الخطبة الثانية

عباد الله أوصيكم وأوصي نفسي بالتزود من شهر يطل علينا بعد أيام بخيره وبركاته، وهو شهر شعبان، هذا الشهر الذي كان رسول الله(ص) إذا دخل يأمر منادياً أن ينادي في المدينة: “يا أهل يثرب، إنّي رسول رسول الله إليكم، ألا إنّ شعبان شهري، فرحم الله من أعانني على شهري”..

فلنعن أيها الأحبة رسول الله على شهره ولنتأسى به، فقد كان(ص) كما كان يقول الإمام زين العابدين(ع) في دعائه، يدأب في صيامه وقيامه، في لياليه وأيامه، بأن يعد كلٌّ منا برنامجاً خاصاً به في هذا الشهر مما ورد فيه من الصيام والصلوات المستحبة، والدعاء والصدقة والذكر والاستغفار، وإحياء ليلة النصف من شعبان التي أشارت الأحاديث أنها أفضل الليالي بعد ليلة القدر وبإحياء المناسبات التي حصلت فيه، ففيه كانت ولادة الإمام الحسين(ع) والعباس والسجاد(ع) والقائم المنتظر عجل الله فرجه الشريف..

حتى لا يفوتنا ما أعد الله سبحانه للصائمين والقائمين والذاكرين والمتصدقين من ثوابه وبركاته، ولنصبح أقرب إلى الله وأكثر قدرة على مواجهة التحديات..

والبداية من لبنان الذي لا يزال تحت وقع الاحتجاجات التي حصلت في الأيام الماضية بعد الارتفاع غير المسبوق في سعر صرف الدولار، والتي عمت كل المناطق اللبنانية للتعبير عن السخط من طبقة سياسية أوصلت البلد إلى ما وصل إليه، ولم تقم بما هو مطلوب منها لإيقاف هذا النزف المستمر الذي يهدد لقمة عيش اللبنانيين وما يسد احتياجاتهم وأمنهم واستقرارهم، واكتفوا في ذلك كما حصل أخيراً بالقيام بإجراءات أمنية تتعلق بمنع قطع الطرق وردع وملاحقة من يبيعون الدولار في السوق السوداء أو باستقدام قروض لمساعدة العائلات الفقيرة من دون أن تكلف نفسها بمعالجة الأسباب الحقيقية التي أدت إلى هذا الارتفاع..

وتكون أولوياتها هي الإصغاء إلى كل الأصوات التي دعت ولا تزال تدعو من الداخل والخارج إلى الإسراع بتأليف حكومة قادرة على إدارة شؤون البلد على كل الصعد على أن تكون بعيدة كل البعد من الارتهان لمن تسببوا بإيصال هذا البلد إلى المنحدر الذي وصل إليه، ومعالجة الفساد والهدر في مؤسسات الدولة ومرافقها وقطاعاتها، وإجراء مراجعة لكل السياسات المالية والنقدية التي اتبعتها الدولة، وأن تأخذ بالاعتبار مصلحة كل مواطنيها لا هذا الفريق أو ذاك، أو هذه الطائفة أو تلك.

ولكن مع الأسف يبدو أن هذا لن يحصل هذه الطبقة ما دامت العقلية التي تتحكم بها هي عقلية الاستئثار ومن يكون له اليد الطولى في هذا البلد، أو من يتحكم بقراره ويستطيع أن يحصل على مكاسب في الاستحقاقات القادمة.. وهي لذلك تستنفر الغرائز الطائفية والمذهبية ولعبة الشارع، من دون أن تأخذ بعين الاعتبار تداعيات ذلك على أمن البلد وعلى علاقة اللبنانيين بعضهم ببعض..

إننا أمام هذا الواقع المأساوي الذي وصل إليه البلد، وأمام طبقة سياسية ترى البلد بقرة حلوباً لها، نجدد دعوتنا للبنانيين إلى تحمل مسؤولياتهم بأن يراهنوا في تغيير واقعهم على بقاء أصواتهم مرتفعة وأن يشيروا بالبنان إلى مواقع الفساد وإلى الفاسدين وأن لا يداهنوهم ويجاملوهم ويروهم غضبهم وسخطهم.. فهذه الطبقة التي تتحكم بهذا البلد لن تغير مسارها وتعيد النظر بحساباتها، إلا عندما تشعر بأن هناك شعباً لن يتراجع عن حقه بدولة تفكر له وتعمل لأجله، لا لحساباتها ومصالحها.. ولن يستكين ولن يهدأ حتى يحصل على ذلك..

إننا نقول لكم: لا تدعوهم يراهنون على تعبكم وعلى تخويفكم من بعضكم البعض، وقبولكم بالأمر الواقع، وإقناعكم بأن التغيير سيأخذ البلد إلى المجهول..

ولكننا ونحن ندعو إلى رفع الصوت، نريده أن يكون مدروساً وحضارياً وبعيداً من الارتجال والارتهان والتجيير، وكل ما يؤدي إلى الفوضى والعبث بالممتلكات العامة والخاصة وحرية التنقل..

ونبقى على هذا الصعيد، لنضم صوتنا إلى كل الأصوات التي دعت وتدعو إلى الأخذ في الاعتبار الوضع الاجتماعي لعناصر الجيش والقوى الأمنية ومساعدتهم لضمان استمرار الدور المطلوب منهم في هذه المرحلة، وفي أي وقت في حفظ أمن البلد وضمان وحدته واستقراره، في ظل التحديات التي تهدده من الداخل أو من الخارج..

في هذا الوقت، نعيد التأكيد على ضرورة تعزيز الحوار الموضوعي في الداخل، وأن لا يكون هناك ممنوعات فيه ليكون بديلاً من منطق السجالات وأساليب التسقيط والتخوين والاتهام التي إن استمرت، فهي ستأكل أخضر البلد ويابسه، وتسمح للعابثين به من الداخل والخارج أن يجدوا موضع قدم لهم..

وهنا ننوه بأي حوار جرى أو يجري في الداخل بين القوى السياسية والدينية والنخب الثقافية وبين المواطنين، فالحوار يبقى هو السبيل للوصول إلى الحلول ولإزالة الهواجس وأسباب الخوف…

وأخيراً، نأمل أن تساهم الزيارة التاريخية التي قام بها بابا الفاتيكان إلى العراق، في تعميق التواصل بين كل مكونات الشعب العراقي وشد الأواصر فيما بينهم وإلى تعزيز العمل المشترك بين أتباع الديانتين الإسلامية والمسيحية للعمل معاً لبعث القيم الأخلاقية في كل مفاصل الحياة، والوقوف في وجه الظلم والطغيان في أي مكان كان..

ونتوقف عند التقرير الصادر عن برنامج الغذاء العالمي والذي يتحدث عن الظروف الإنسانية الصعبة التي يعاني منها الشعب السوري، والتي تدفع بهذا الشعب نحو الجوع والفقر بفعل الحصار، والأعمال العدائية المستمرة عليه وجائحة كورونا.. لندعو الدول العربية والإسلامية إلى ضرورة الوقوف مع هذا الشعب والعمل ليبقى هذا البلد حاضراً في واجهة العالم العربي والإسلامي وقضاياه…