النبيّ إبراهيم (ع) ينجح في الاختبار الصّعب

السيد علي فضل الله

الخطبة الأولى

قال الله سبحانه وتعالى: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ}. صدق الله العظيم.

لقد أشارت هذه الآية إلى أنّ الله ابتلى نبيّه إبراهيم (ع) بعدّة مهام ثقيلة وصعبة، فحملها فأحسن حملها، وأدّاها خير تأدية، فاستحقّ بذلك أن يجعله قدوةً للناس وإماماً لهم.

رؤيا الذّبح

من هذه المهام الثّقيلة الصّعبة التي أشار إليها القرآن الكريم، رؤياه (ع) في المنام أن يذبح ولده الوحيد إسماعيل، ورؤيا الأنبياء صادقة، وهي وحي من الله لهم.

يومها، أذعن النبيّ إبراهيم (ع) لأمر الله سبحانه، وبدون أيّ تردّد، ولكن قبل كلّ شيء، كان عليه أن يخبر ابنه ليعدّ نفسه لهذا الأمر، وكان يريد منه أن يصدر الأمر باختياره، قال: {قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى…}..

وكان ردّ إسماعيل بالتسليم لأمر أبيه، ما دام أمره أمر الله عزّ وجلّ، قال: {يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ}. وقد قال يا أبت، ليشير إلى أنّ تلبية هذا الأمر، حتى لو أدّى إلى موته، لا يقلّل من محبّته لأبيه وعاطفته تجاهه.

ولما عزما على المضيّ في ما أمرهما الله به، {فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ}، ووضع إبراهيم (ع) السكّين بسرعة وقوّة على رقبة ابنه، لم تترك السكّين الحادّة أدنى أثر على رقبة إسماعيل. ومرّر السكّين مرّة أخرى على رقبة ولده، ولكنّها لم تؤثّر ولم تترك حتى خدشاً فيه. تعجّب النبيّ إبراهيم (ع) لما يحصل، وهنا يأتي النداء إلى إبراهيم (ع): {وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ * وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ}.

لقد رحم الله إبراهيم (ع) في هذا الموقف الصعب، كما رحمه سبحانه سابقاً عندما قال للنّار التي أراد أن يحرقه بها ملك بابل النمرود، لأنه حطّم الأصنام ودعا إلى عبودية الله وحده: {يَاْ نَاْرُ كُونِي بَرْداً وَسَلَاماً عَلَى إِبْرَاهِيمَ}. وقد افتدى الله إسماعيل بذبح عظيم، حيث تذكر الرواية أنّ جبريل (ع) نزل آنذاك بكبش سلّمه لإبراهيم، وقال له اذبحه هذا فداء إسماعيل.

النّجاح في الاختبار

أيّها الأحبة؛ لم يرد الله سبحانه من أمره لإبراهيم بذبح ولده أن يتمّ هذا الذّبح، بل كان اختباراً أراد الله منه أن يظهر صدق علاقته به وتسليمه له واستعداده للتّضحية بأغلى وأعزّ ما يملك في سبيله.

 والتضحية من النبيّ إبراهيم (ع) لم تكن تضحية عادية، ولا بولد كأيّ ولد، بل كانت التضحية غالية وغالية جداً، فقد كانت تقتضي منه أن يذبح ولده بيديه لا بيد غيره، وكان قد بلغ من العمر عتيّاً، فقد ورد أنّ إبراهيم كان له من العمر سبعون عاماً يوم ولادة إسماعيل، وفي وقت بلغ إسماعيل (ع) من القوّة والشّباب، وأصبح معها قادراً على أن يكون عوناً له وقوّة وسنداً، وقد امتلك من الصفات ما جعله نبيّاً مقدّراً من الله، وكان مثالاً في الإيمان.. وقد قال الله عنه عندما بشّر النبيّ إبراهيم (ع) به: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولاً نَبِيّاً * وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيّاً.

تخليد الحادثة

وقد خلّد الله سبحانه وتعالى هذه الحادثة، عندما جعل ذبح الأضاحي في الحجّ منسكاً من مناسك الحجّ وواجباً، ويستحبّ أن يكون في كلّ الأماكن، وهو أراد بذلك تذكير المسلمين بأن ينتهجوا في حياتهم هذا السّلوك، سلوك التّسليم له والرّضا بما يدعو إليه، بحيث يكون أمر الله عندهم فوق كلّ أمر، ونهيه فوق كلّ نهي.

ومع التّسليم لله، تطمئنّ النفس، وترضى بالتضحية بالرّوح والمال والأهواء والعصبيّات والحساسيّات والأنانيّات والانفعالات.

مع التَّسليم لله، نقلِّل من التوتّرات والأخطاء، ونحفظ البلاد والعباد، ونحقِّق الآمال، ونصل بالإنسان إلى رضوان الله وجنّته: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ}.

بسم الله الرَّحمن الرَّحيم

الخطبة الثانية

عباد الله، أوصيكم وأوصي نفسي بما أوصانا به الله في ندائه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ}.

هي وصيّة الله لنا، أن نلتفت إلى كلماتنا التي نطلقها، وأن نحذر تداعياتها، فتداعيات الكلمات قد تكون خطيرة، فكم من الكلمات عندما انطلقت، أساءت إلى قضيّة حقّ وعدل وحريّة، وأدّت إلى تشويه صورة إنسان وإهدار كرامته، وأثارت حقداً، وأحدثت فتناً وهدَّمت بيتاً.. وقد تكون سبباً في تثبيط العزائم عن قضايا الحقّ والعدل والحريّة، وقد تؤدّي إلى ترك معروف أو إشاعة منكر.

فمسؤوليّة الكلمة في ميزان الله خطيرة، ويتحمّل الإنسان كلّ تبعاتها وآثارها، وذلك قوله تعالى: {وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآَثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ}، وقوله: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ}.

ومتى فعلنا ذلك، فإنّنا نعالج التوتّرات، ونئد الفتن، ونبني الحياة، ونكون أكثر قدرة على مواجهة التحدّيات.

تفاقم صحيّ ومعيشيّ

والبداية من الأزمة الصحية المتفاقمة التي يزداد ضغطها على البلد، من خلال هذا التفشّي المتسارع لفيروس “كورونا”.

ونحن في مواجهة هذا الوباء، لا نزال نراهن على مدى التزام النّاس بالإجراءات التي اتخذتها الحكومة، والتقيّد التامّ بسبل الوقاية، حتى لا نصل إلى المحذور الذي لا يستطيع البلد تحمّل تداعياته وآثاره على المستوى الصحّي أو المالي.

وفي موازاة ذلك، يتفاقم الوضع المعيشيّ، ويتوالى ارتفاع الأسعار، ويتواصل مسلسل التعتيم والافتقاد لأبسط مقوّمات حياة الناس في الكهرباء والمحروقات وموادّ الطاقة المختلفة وسلامة الغذاء، فيما لا نرى قياماً للقوى الأمنيّة بمسؤوليّاتها، ولا قضاء يُحاسب كلّ الذين أفسدوا في الماضي، ويفسدون في الحاضر أمام أعين الناس جميعاً.

إننا أمام هذا الواقع، قد نتفهّم كلام هذا المسؤول أو ذاك عن وجود مافيا تجاريّة ومحميّات سياسيّة وطائفيّة للفساد، مما لا يخفى على أحد، ولكن هذا لا يدعو إلى وضع اللّوم على الآخرين، بل إلى العمل الجادّ.

مسؤوليَّة مشتركة

إنَّ على الحكومة التي أخذت على عاتقها أن تُخرج البلد من هذه الأزمات المعيشيّة الضّاغطة، أن تتحمَّل المسؤوليّة، وأن لا تتنصّل منها ما دامت لم تتخلَّ عنها، فيما ندعو القوى السياسيّة المعارضة أن تتحمّل هي أيضاً المسؤوليّة، لا أن تكون عقبة أمام أيّ مسعى للتخفيف من حدّة الأزمة المعيشية والاقتصادية، فالمعارضة لا تعني عرقلة ما تقوم به الحكومة، بل إيجاد البديل والأفضل، فالوقت ليس وقت تصفية حسابات سياسيّة داخليّة أو خارجيّة، بل وقت حفظ وطن يتداعى وينهار، وهو إن انهار، لن يسلم أحد عند ذلك.

إنّنا نحذِّر من أنّ استمرار هذه المعاناة، سيدفع النّاس إلى خيارات خطيرة لا ينبغي الوصول إليها.

التّلاحم ضدّ العدوّ

في هذا الوقت، يستمرّ العدوان الإسرائيليّ على البلد، ولم تتوقَّف خروقاته في البرّ والبحر والجوّ، وكان آخرها ما حصل في مزارع شبعا قبل أيّام من قصف طال المدنيّين وممتلكاتهم بحجّة تسلّل مقاومين، وهي حجّة لم تؤكّدها الوقائع.

إنّنا نرى أنّ مواجهة هذا الوضع يستدعي تلاحماً داخلياً، لمنع العدوّ من اللّعب على حبل الخلاف الدّاخليّ، وتحقيق أهدافه في لبنان وعلى مستوى المنطقة.

دعم الجيش ضرورة

وأخيراً، نهنّئ الجيش اللّبنانيّ في عيده، ونشدّد على أنّه يشكّل سياج الوطن، وندعو اللّبنانيّين الذين يحرصون على سيادة هذا البلد، أن يبذلوا جهودهم من أجل تقوية هذا الجيش وتعزيزه، وإزالة كلّ الحواجز التي تمنع من تسليحه وامتلاكه ما يدافع به عن أرضه ووطنه.

إنّنا نثق بأنّ الجيش يمتلك العزيمة والإرادة والقرار السياسيّ، ولكنه حتى الآن، لا يزال ممنوعاً من أن يكون قويّاً، ولكن هذا لا ينبغي أن يكون خياراً ولا قدراً للجيش، بل ينبغي العمل على تجاوز هذا الواقع على مختلف المستويات.