لا نحوسة في الأيام

السيد علي فضل الله

قال الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}. صدق الله العظيم…

يطل علينا اليوم شهر صفر، وهذا الشهر هو كبقية الشهور القمرية التي أشار الله سبحانه وتعالى أنها وجدت منذ وجد الكون ووجدت السّماوات والأرض  وقبل أن يوجد الإنسان {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ}.

ولكنّ اللافت، أنّ هذا الشّهر يوصف لدى الكثيرين بصفة النحوسة، بحيث راح يستدعي قدومه الخوف عند البعض مما قد يحدث فيه من بلاءات وعدم توفيق، حتى نرى البعض يتورّعون عن الزواج فيه، أو يمتنعون عن شراء منزل، أو إجراء عقود ومعاملات، تجنّباً لتعرضهم لنحوسته، ويصاحب ذلك الخوف من حدوث أمراض ومصائب…

وهذا الوصف لا يختص بشعب من الشعوب أو بدولة من الدول، بل نجده في العديد من الشعوب والدول، فهناك من يتشاءم من أرقام معينة او رؤية بعض الحيوانات أو الطيور وما الى هنالك، ولكن الخطورة في هذا الأمر عندما يعطى بعداً دينياً كما هو في شهر صفر.. فنحن مثلاً نقرأ في بعض كتب الأدعية، الحديث عن شهر “صفر”: “اِعلم إنّ هذا الشّهر معروف بالنّحوسة، ولا شيء أجدى لرَفع النّحوسة من الصّدقة والتوكل على الله وقراءة الأدعية والاستعاذات المأثورة، فمن أراد أن يصان ممّا ينزل في هذا الشّهر من البلاء، فليقل كلّ يوم عشر مرّات: “يا شَديدَ الْقُوى وَيا شَديدَ الْمِحالِ يا عَزيزُ يا عَزيزُ يا عَزيزُ ذَلَّتْ بِعَظَمَتِكَ جَميعُ خَلْقِكَ فَاكْفِنى شَرَّ خَلْقِكَ”.

ولكن المتتبّع لسند الأحاديث الواردة عن رسول الله(ص) والأئمّة(ع) ولمضمونها، يستطيع أن يؤكّد أن لا صحّة لنحوسة شهر صفر أو لوجود شهر نحس أو أيّام نحسات للأحاديث التي تتحدث عن نحوسته. فالله سبحانه وتعالى لم يودع في الزمن، ما يؤثّر في حياة الإنسان ويستوجب شقاءه أو حتى يستوجب سعادته.

فالزمن في حسابات الله سبحانه هو وعاء للأحداث التي تجري فيه وليس له دور في حصولها فالدور الأساس هو لله سبحانه وتعالى:} قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لله {وقال: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِى الْمُلْكَ مَن تَشَآءُ وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَآءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَآءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَآءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيءٍ قَدِير{

 بل نجد من الروايات ما ينفي ذلك نفيا مطلقاً، فقد ورد في الحديث عن الإمام الصادق(ع) يحذّر بقوله: “لا تسبّوا الجبال ولا السّاعات ولا الأيّام ولا اللّيالي…”. فهي ليست مسؤولةً عمّا يحدث، (كما يقول الكثيرون: الله يلعن هذه السّاعة أو هذا الزّمن). وهنا نورد حواراً جرى مع الإمام الهادي(ع)، إذ جاء إليه أحد أصحابه يتذمّر ويقول: … كفاني الله شرّك من يومٍ فما أشأمك! فقال له الإمام الهادي(ع): “… ترمي بذنبك مَن لا ذنب له؟!”، فقلت: مولاي، أستغفر الله، فقال: “ما ذنبُ الأيّام حتى صرتم تتشاءمون بها؟!” ثم قال(ع): “أما علمت أنَّ الله هو المثيب والمعاقب والمجازي بالأعمال، عاجلاً وآجلاً”.

وقد تصدى رسول الله(ص) لهذه الظاهرة بشدة، فاعتبر الطيرة شركاً بالله تعالى.. فقد ورد في الحديث عنه: “من ردته الطيرة عن حاجته فقد أشرك”.. وفي الحديث عنه: “ليس منا من تطيَّرَ أو تُطيِّر له”..

نعم، هناك من استدلّ على وجود أيام نحسات بآيات وردت في القرآن الكريم كما في حديث الله عن العذاب الذي تعرض له قوم عاد: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآَخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنْصَرُونَ}، وقوله تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ}.

لكن من نافل القول إنّ هذا الاستدلال لا يصمد أمام أيّ نقد منهجي، فالقرآن الكريم لم يتحدّث عن الأيّام هنا بما هي مساحات زمنيّة لها تأثير في الأحداث، بحيث تنتج النّحس أو تنتج السّعد، بل لكونها وعاء للأحداث الّتي حصلت فيها، والتي وقع فيها العذاب، كما جرى لقوم عاد..

وبهذه الإجابة يرد على من اعتبر نحوسة شهر صفر لوفاة رسول الله(ص) فيه، مع ما في ذلك من حزن، كما جرت فيه وفيّات عدد من أئمّة أهل البيت(ع)، وفيه أربعون الحسين(ع).

فوفاة رسول الله(ص) أو عدد من أهل البيت(ع) في هذا الشهر لا يستدعي أن يكون الشهر نحساً، فالنحوسة لا تحصل للشهر لحدوث أحداث حزينة حصلت فيه بل التفاعل مع هذه الذكريات الحزينة وعلى من كان لهم دور في حياتنا.. ولو أجرينا هذا المبدأ بأن نعتبر نحساً كل يوم حصل فيه وفاة أو استشهاد لبني أو وصي أو عالم أو عزيز، لكانت كلّ الأيام نحسة، لأنّه ما من يوم إلا وشهد موت أو استشهاد نبيّ أو وليّ أو صدّيق.

ثم لو أخذنا شهر صفر، لوجدنا فيها فرحاً وسروراً، كما فيها حزن ومأساة، ففي أيامه نجد مناسبة ولادة الإمام الكاظم(ع) ، وزواج رسول الله(ص) من السيّدة خديجة.

إذاً، من خلال ذلك كله، نقول إنَّ لا أساس دينيّاً للقول بأنّ الزمن أو الكواكب أو النجوم أو غيرها تترك أثرها في حياة الإنسان. فالموجودات والكائنات والزمان وحركة الأفلاك كلّها تتحرّك وفق السنن والقوانين التي أودعها الله في الكون.

لكنّ الإسلام في الوقت نفسه كان واقعيّاً في تعامله مع الّذين يتشاءمون من شهر أو يوم أو أي ظاهرة من الظواهر التي تدعو إلى التشاؤم، فهو لم يتنكّر لتشاؤمهم، الّذي قد يصيبهم نتيجة عوامل نفسيّة أو ثقافيّة، بل دعا إلى معالجة ذلك، بالتوكّل على الله، والاستعاذة به.. فقد ورد أن رسول الله(ص) كان يدعو أصحابه عندما يرون شيئاً يكرهونه ويتطيرون به إلى أن يقولوا: “اللهم لا يؤتي الخير إلا أنت، ولا يدفع السيئات إلا أنت، ولا حول ولا قوة إلا بك”..

أيّها الأحبّة: فلندخل إلى شهر صفر كما ندخل إلى كل شهر من الشهور وكل يوم من الأيام دخول المتفائلين وندعو الله: “اللّهمّ واجعله أيمن شهر أيمن يومٍ عهدناه، وأفضل صاحب صحبناه، وخير وقت ظللنا فيه، واجعلنا من أرضى من مرّ عليه اللّيل والنّهار من جملة خلقك؛ أشكرهم لما أوليته من نعمك، وأقومهم بما شرعت من شرائعك، وأوقفهم عمّا حذرت من نهيك يا أرحم الراحمين”.

الخطبة الثانية

عباد الله، أوصيكم بما أوصانا به الله عندما أشار إلينا إلى مشهد من مشاهد يوم القيامة:

{ وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً فَقَالَ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ قَالُوا لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ * وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}.

هي دعوة من الله أن نتأمل هذا المشهد حتى نعرف من نتبع ومع من نسير ومن نعطي له قيادتنا، فلا نتبع منطق الشياطين ولا الظالمين ولا الفاسدين ومن حدثنا الله إنهم من المفسدين الذين يوصلوننا إلى الموقف الصعب بين يدي الله وإلى مهاوي النار وعندما نستنجد بهم يتبرأون منا ويتنصلون مما تسببوا به لنا..

ومتى وعينا ذلك فسنكون قادرين على الإمساك بقرارنا ومواقفنا ونكون أكثر قدرة على مواجهة التحدّيات..

والبداية من لبنان حيث لا يزال اللبنانيون يعانون من الأزمات الاقتصادية والمعيشية الضاغطة عليهم والتي تهدد لقمة عيشهم ومتطلبات حياتهم واستقرارهم إضافة إلى ضغوط الخارج.

ويكفي للدلالة على ذلك مشهد طوابير المهاجرين ممن لديهم فرصة للسفر أو الذين يفكرون بذلك أو الذين بدأوا يعبرون البحار ويخاطرون بأنفسهم وأولادهم وعائلاتهم هرباً من هذا البلد ومنهم من دفن فيه..

في هذا الوقت، كان اللبنانيون ينتظرون بارقة الأمل التي أتت من المبادرة الفرنسية التي تدعو إلى تأليف حكومة قادرة على البدء بإجراء إصلاحات جذرية في مفاصل الدولة الإدارية والمالية، ومعالجة مكامن الفساد والهدر وحل الأزمات المستعصية التي يعاني منها اللبنانيون.. وهم استبشروا خيراً بتوافق القوى السياسية عليها واستعدادهم للمساعدة على إنجاحها.. بعد عدم قيامهم بهذا الدور الذي كان ينبغي عليهم القيام به..

ولكنهم باتوا اليوم يخشون أن تضيع هذه المبادرة.. وأن يفقدوا خشبة خلاص لم يقدمها لهم من ائتمنوهم على مصالحهم، بعدما بدأت العصي توضع في دواليب هذه المبادرة ليدخل البلد مجدداً في حال مراوحة لن تكون في مصلحة أحد..

ونحن أمام كل ذلك، وكما كنا أشرنا، نقف مع أي مبادرة تخرج لبنان من هذا النفق المظلم وتعيد للبنانيين ثقتهم بوطنهم وبدولتهم.. ونحن ندعو دائماً إلى تسهيل السبل لإنجاحها..

ولكن نجاح هذه المبادرة وأي مبادرة أخرى ينبغي أن يأخذ في الاعتبار الهواجس الموجودة لدى الطوائف والمذاهب والتوازنات التي لا تزال تحكم هذا البلد.. فاحترام التوازنات هو الذي يصون العيش المشترك، ويحقق الاستقرار فيه ويساهم في تحريك عجلة الاقتصاد.. ونحن عندما نتحدث عن التوازنات، فإننا لا نعني أن يكون لمصلحة طائفة دون أخرى بل نريده لحساب كل اللبنانيين.

ولقد جربنا ما يؤدي إليه الاستقواء بالخارج أو بالقوة الذاتية أو بالتحالفات الداخلية للإخلال بالتوازنات الذي تسبب بمآسٍ وفتن وحروب ومن دخول العابثين على الخط ممن لا يهتمون فعلياً بمستقبل  البلد، لكنهم يسعون إلى حفظ حصتهم ولو أدى ذلك إلى إفشال أي صيغة يتلاقى عليها الجميع وتكون لحساب اللبنانيين لا في حسابهم….

إننا نرى أن إخراج هذا البلد من كل أزماته لا يمكن أن يتحقق في ظل هذا الانقسام الحاصل بين القوى السياسية والذي يسعى منه البعض لإسقاط البعض الآخر أو الكيد به.. هو لا يتم إلا بالعودة إلى لغة الحوار الجاد والتواصل البناء وأن يصغي كل للآخر ويتفهم هواجسه، وبدون ذلك لن تنجح أي مبادرة لهذا البلد ولن يستطيع أي خارج مهما قوي أن يجد له حلولاً..

ونبقى على الصعيد الأمني، لنحذر من عودة الإرهاب الذي اعتقد اللبنانيون أنه ذهب إلى غير رجعة بعدما عاد الحديث عن وجود خلايا نائمة.. وقد جاء الاستهداف الذي تعرض له الجيش اللبناني ليؤكد ذلك، ما يدعو إلى مزيد من اليقظة الأمنية وتعزيز الوحدة الداخلية ومعالجة الأزمات الاقتصادية والمعيشية، بعدما أثبتت الوقائع أن الإرهاب يعتاش على الأحقاد الداخلية والوضع الاقتصادي المتداعي وحال الفراغ السياسي..

ومن هنا ورغم كل التعقيدات التي باتت تحيط بتأليف الحكومة والتي قد تودي بها، فإننا نعيد الدعوة مجدداً إلى الوصول إلى القواسم المشتركة التي تضمن تأليف الحكومة بعدما أصبح واضحاً أن البلد لم يعد يتحمل ترف الوقت أو التعطيل وإنسانه لم يعد قادراً على الصبر.

أما على صعيد التطبيع مع العدو الصهيوني وما ينطوي عليه، فإننا ندينه انطلاقاً من قيمنا الدينية والإنسانية التي ترى أن لا شرعية تعطى لأي مغتصب أو محتل مهما طال الزمن عليه، وهو سيسمح للعدو بأن يدخل إلى ساحة المطبعين والعبث بالقضية الفلسطينية التي ينبغي أن تبقى القضية المركزية للعرب والمسلمين، فالرابح في ذلك سيكون الكيان الصهيوني ومن يقف وراء كل هذا الذي جرى. وهو تنكر للشعب الفلسطيني وحقوقه المشروعة.

وأخيراً، لقد استعدنا في الأيّام الماضية ذكرى مجزرة صبرا وشاتيلا، الّتي ينبغي أن تبقى في الذّاكرة وألا تنسى، إلى جانب كلّ المجازر الّتي قام بها العدوّ الصّهيونيّ طوال تاريخه وحاضره.. حتى نبقى واعين لخطر هذا العدوّ، الذي يبقى السّبب في كلّ آلامنا ومعاناتنا في فلسطين، وفي العالمين العربي والإسلاميّ..