لتكن ولادة المسيح (ع) مناسبةً للتّلاقي

السيد علي فضل الله

ألقى العلامة السيّد علي فضل الله، خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عددٍ من الشخصيّات العلمائيّة والسياسيّة والاجتماعيّة، وحشدٍ من المؤمنين، ومما جاء في خطبتيه:

الخطبة الأولى

قال الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز: {إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ}. صدق الله العظيم…

نستعيد في الخامس والعشرين من شهر كانون الأوّل، وككلّ عام، ذكرى الولادة المباركة للسيّد المسيح (ع).. هذا النبيّ الذي عندما يُذكَر، تذكر المحبّة معه والتّسامح والبركة التي عمّت كلّ الناس، وهو ما جعل له شأناً وموقعاً في قلوب النّاس وعند الله عزّ وجلّ. وهو كما أشارت الآية: {وَجِيهاً فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ}.

الولادة المعجزة

ونحن اليوم سنستفيد من هذه المناسبة، لنشير إلى الولادة المعجزة لهذا النبيّ، وإلى الدور الذي قام به، والتحدّيات التي واجهته.

وقد أشار القرآن الكريم إليها عندما قال: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَاناً شَرْقِيّاً * فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَاب}، حيث اختارت بيت المقدس مكاناً للعبادة، وبعيداً من أعين الناس. {فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَ}ـ في إشارة إلى أحد الملائكة {فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّاً * قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَاماً زَكِيّ}.

يومها، استغربت السيّدة مريم هذا الكلام منه، وسألته كيف يمكن أن يكون لها ولد وهي لم تتزوّج بعد {قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّن}. وقد أراد الله لهذا الولد أن لا يكون ولداً عاديّاً، فهو سيكون في ولادته مظهراً لقدرة الله ومشيئته، وسيبعث رحمةً للناس وهدى. {وَكَانَ أَمْراً مَقْضِيّ}.

بعدها، قضت السيّدة مريم (ع) ساعات أو أيّاماً أو أشهراً، على اختلاف في الرّوايات، في الحمل، وجاءها المخاض، وهي تستند إلى جذع نخلة. لم يكن هذا الأمر مفاجئاً، لكنّها أحسّت حينها بصعوبة ما ستقدم عليه، فهي ستضع حملها بدون أن يكون معها معين ولا طعام عندها ولا شراب، وماذا ستقول للنّاس الذين ستلتقيهم، وهي المعروفة عندهم بالطّهر والعفّة، عندما يسألونها من أين جئت بهذا الولد.. وقد عبَّرت عن هذا الشّعور بالقول: {يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيّ}.

وجاء الجواب سريعاً من الملك الذي أرسله الله سبحانه ليكون معها في هذا الوقت الصّعب: {فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيّاً * وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيّاً * فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيّ}.

وهذا ما فعلته عندما جاءت تحمل وليدها، وراح النّاس يقولون لها: {يَا أُخْتَ هَارُونَ ــ في الطّهر الصفاء ــ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيّ}. لكنّها لم تنطق بكلمة، بل أشارت إليه.

هنا، أنطق الله السيّد المسيح (ع) وهو في مهده، ليدافع بلسانه هو عن أمّه، وليعبّر عما هو مقبل عليه: {قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللهِ آَتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيّاً * وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنْتُ ‎وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيّاً * وَبَرّاً بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيّاً * وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً * ذَلِكَ عيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ * مَا كَانَ للهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ}.

الموقف من المسيحيّين

هذه هي النظرة الإسلاميّة إلى السيّد المسيح (ع)، هو واحد من أنبياء الله العظام، أرسله الله ليتابع مسيرة من قبله، ويهيّئ المجال لمن يأتي بعده.. وقد أشار هو إلى هذا الدّور عندما قال: {إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ}. وفي آية أخرى: {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ}، وأنّه لم يقتل ولم يصلب {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ}.

وهذه النظرة تختلف وتتنافى مع النظرة المسيحيّة التي ترى أنّه ابن الله حملته أحشاء مريم، وأنّه صُلِب.. ولكن ورغم هذا الاختلاف، لم يؤدّ ذلك إلى شرخ في علاقة الإسلام بأتباع الديانة المسيحية أو الدعوة إلى النفور منهم، وقد ظهر ذلك في عدّة مواقف:

الموقف الأوّل: حين قدم نصارى نجران إلى المدينة المنوَّرة، استقبلهم يومها رسول الله (ص) في مسجده، رغم أنهم كانوا يلبسون أزياءهم الكنسيّة، ويحملون الصّلبان في أعناقهم. وعندما حان وقت الصّلاة، وكانوا في مسجد النبيّ (ص)، وأرادوا أن يصلّوا بصلاتهم في المسجد، أذن لهم النبيّ (ص) بذلك، فدقّوا الناقوس في المسجد، وصلّوا على مرأى المسلمين جميعاً من دون اعتراض منهم.

الموقف الثاني: بعدما عمّ الإسلام الجزيرة كلّها في السنة التاسعة للهجرة، بعث رسول الله (ص) برسالة إلى أبي الحارث أسقف نجران جاء فيها: “بسم الله الرّحمن الرّحيم، من رسول الله إلى أبي الحارث أسقف نجران الأكبر وقساوسته وأساقفه.. أمّا بعد، فليعلم الأسقف الأكبر وقساوسته وأساقفته أنّ كنائسكم ومعابدكم وصومعاتكم ستبقى كما هي، وأنكم أحرار في عباداتكم، ولن يزاح أحد منكم عن منصبه ومقامه، ولن يبدَّل شيء، كما لم يبدَّل في مراسم دينكم، ما دام الأساقفة صادقين، ويعملون حسب تعاليم الدّين. فمن أدّى ذلك، فإنّ له ذمّة الله وذمّة رسوله، ومن منعه، فإنّه عدوّ لله ولرسوله”.

الموقف الثالث: حصل عندما تعرّض الروم المسيحيّون لهزيمة أمام الفرس، يومها، حزن المسلمون لما تعرَّض له المسيحيّون، فنزلت الآيات القرآنيَّة لتبشّرهم بأنَّ وراء هذه الهزيمة نصراً، اعتبره القرآن الكريم نصراً إلهيّاً، ما بدَّل حزنهم فرحاً.. وقد وردت سورة في ذلك كانت بدايتها: {الم* غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ للهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ}.

وهذه المواقف لا تقف عند التّاريخ، بل هي امتدّت وستمتدّ في الحاضر والمستقبل.

لتعزيز الإيمان والقيم

أيّها الأحبَّة؛ إنّنا نريد لمناسبة ولادة السيّد المسيح التي هي عنوان جامع للمسلمين والمسيحيّين يلتقون عليه، أن تعزّز العلاقة فيما بينهم، وتدعو إلى العمل معاً لتعزيز الإيمان في هذا العالم، والقيم التي جاء بها السيّد المسيح (ع) وأكملها رسول الله (ص)؛ قيم المحبّة والرحمة والعدالة واحترام كرامة الإنسان، والتصدّي لكلّ الذي يعملون على إشاعة الكفر والظّلم والطغيان، ويمتهنون كرامات الناس والشعوب المستضعفة، وبهذا يتحقّق لهم الموقع عند الله سبحانه.

{إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آَمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ}.

الخطبة الثانية

عباد الله، أوصيكم وأوصي نفسي بما أوصى به السيّد المسيح (ع) حواريّيه، عندما قال لهم: “بحقّ أقول لكم: إنّ الحريق ليقع في البيت الواحد، فلا يزال ينتقل من بيت إلى بيت حتى تحترق بيوت كثيرة، إلا أن يستدرك البيت الأوّل فيهدم من قواعده، فلا تجد فيه النّار محلّا، وكذلك الظالم الأوّل، لو أخذ على يديه، لم يوجد من بعده إمام ظالم فيأتمون به، كما لو لم تجد النّار في البيت الأوّل خشباً وألواحاً لم تحرق شيئاً”.

لقد أراد السيّد المسيح (ع) للمجتمع أن يكون حريصاً على الوقوف في مواجهة كلّ الظّالمين والفاسدين والمنحرفين، فلا يسكت على ظلمهم وفسادهم وانحرافهم، حتى لا ينتشر في مواقع أخرى، وعندها سيكون المجتمع أكثر قوّةً وأقدر على مواجهة التحدّيات.

العام الأقسى على لبنان!

والبداية من لبنان الذي بدأ يطوي عاماً كان الأقسى على اللّبنانيّين، بسبب جائحة كورونا التي عمّت العالم كلّه، والانهيار على الصّعيد الاقتصادي والمعيشي والنقدي.

وإذا كان هناك من بوادر لبدء انحسار هذه الجائحة بعد اكتشاف اللّقاح، والذي يؤمل وصوله إلى لبنان، لكن لا يبدو أنّ هذا سيجري على الصّعيد الاقتصادي والمعيشي، بل يُتوقّع أن يتفاقم هذا الوضع مع بداية العام الجديد، حيث يتواصل التّعقيد في تأليف الحكومة القادرة على إخراج البلد من هذه الأزمات، ويحتدم الصّراع بين القوى السياسية المعنيّة بالتأليف على من يمسك بمفاصل هذه الحكومة وبقرارها، ومن له اليد الطّولى فيها، لحسابات داخليّة وأخرى خارجيّة.

ونحن أمام هذا الواقع، نؤكّد مجدّداً، وللمرّة الألف، أن تتحمل القوى السياسيّة مسؤوليّتها تجاه وطن ينهار، وإنسان بات ينتظر أيّ فرصة ليهاجر هرباً من معاناته الدّائمة.. والإسراع في تأليف حكومة ينتظرها اللّبنانيّون، وينتظرها العالم، حتى تساعد لبنان على الخروج من مآزقه، وتقيه من تداعيات مشهد إقليميّ ودوليّ ساخن.

فكفى تلاعباً بهذا البلد وتلاعباً بمصيره ومصير إنسانه.

إنّ من حقّ أيّ فريق سياسيّ أن يخوض الصّراع السياسي ليحمي موقعه في إطار التّنافس الذي يحصل بين هذه القوى السياسية، لكن هذا قد يكون مبرّراً عندما تكون الظروف طبيعية، والبلد يتحمل مثل هذا الصراع، إلا أنّ هذا ينبغي أن لا يحصل عندما يكون البلد في حال الانهيار الذي وصل إليه، والذي يحتاج إلى تكاتف جهود الجميع فيه لإنقاذه.

إنّ من المؤسف أن يكون هناك في هذا العالم من قلبه على لبنان، فيما الطبقة السياسية غارقة في أوهام مصالحها وحساباتها التي لن تدوم لها.

إنّنا نعيد التّأكيد أنّ اللّبنانيّين لن ينتظروا طويلاً، وينبغي أن لا يُراهن على صبرهم أو على الكلمات المعسولة التي تقدَّم إليهم، ولا على سياسة التّخويف التي أدمنها الواقع السياسيّ.

العبرة في التّنفيذ

في هذا الوقت، نتوقّف عند القرار الذي اتّخذه المجلس النيابي برفع السرّية المصرفيّة لمدة سنة، لنؤكّد مجدّداً أهميّة هذا القرار، فهو سيساهم في فتح الباب أمام التّدقيق الجنائيّ، وإزالة واحدة من العوائق التي كانت تقف في طريقه، وإن كنّا نأمل أن لا يقتصر رفع السريّة المصرفيّة على مدّة سنة، كونها لا تكفي في إنجاز التّحقيقات التي تضمن الوصول لمعرفة أين ذهبت أموال اللّبنانيّين ومدّخراتهم.

وتبقى العبرة دائماً في تنفيذ القرارات، لا في رفع العتب في إصدارها.

الوضع الأمنيّ.. وكورونا!

وعلى الصّعيد الأمني، فإنّنا نبدي خشيتنا من أن تخرج الأمور عن السّيطرة، بفعل حوادث القتل، وتفاقم موجة السّرقات والقتل، وعمليّات الخطف والسّلب، ما يستدعي من القوى الأمنيّة وكلّ المعنيّين على الأرض، السّهر لمنع مثل هذه الظّواهر، حمايةً للاستقرار والسِّلم الأهليّ.

ونبقى على صعيد جائحة كورونا الّتي يتفاقم أعداد المصابين بها، وبأرقام غير مسبوقة، لندعو مجدَّداً إلى مزيدٍ من الوعي حول هذا الوباء، والوقاية منه والابتعاد عن أيّ مناسبات اجتماعيّة، وحتى دينيّة قد تؤدّي إلى الإصابة به أو تفشّيه.

أيّها اللّبنانيّون، القرار بيدكم، فكونوا الأمناء فيه على أنفسكم وعلى الآخرين.

تهنئة بميلاد المسيح (ع)

وأخيراً، ونحن في ذكرى ميلاد السيّد المسيح (ع)، نهنّئ المسلمين والمسيحيّين وكلّ اللّبنانيّين بهذا اليوم الّذي نريده مناسبةً لتعزيز روح التّلاقي على القيم الّتي مثّلها السيّد المسيح (ع)؛ قيم الرحمة والمحبة وخدمة الإنسان كلّه، بعيداً من انتمائه الطائفي أو المذهبي والسياسي، والنهوض بالضّعفاء والمحرومين، ومواجهة الظلم والجور والطّغيان، من أيّ جهة أتت، ولأيّ حساب كان، وبهذا تُحفظ الأوطان وتستقرّ.