من دروس الإمام العسكريّ (ع): النّصيحة في السرّ

السيد علي محمد حسين فضل الله

ألقى العلامة السيّد علي فضل الله، خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عددٍ من الشخصيّات العلمائيّة والسياسيّة والاجتماعيّة، وحشدٍ من المؤمنين، ومما جاء في خطبتيه:

الخطبة الأولى

قال الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ}. صدق الله العظيم.

نلتقي في الثّامن من شهر ربيع الأوَّل بذكرى حزينة على قلوب المحبّين والموالين لأهل البيت(ع)؛ ذكرى وفاة الإمام الحادي عشر من أئمة أهل البيت(ع)، وهو الإمام الحسن بن عليّ العسكريّ (ع).

وهذه المناسبة ترتبط بمناسبة أخرى عزيزة أيضاً على قلوب المحبّين، وهي تولي الإمام المهديّ (عج) الإمامة التي بدأت بوفاة الإمام الحسن العسكري، وستبقى مستمرّة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.

تميّز ومعاناة

وقد تميّز الإمام الحسن العسكريّ (ع) ككلّ أئمة أهل البيت(ع)، بالعلم والحلم والعبادة وحسن الخلق والتّواضع والبذل والعطاء، وهذا ما أكسبه موقعاً، وجعله مهوى أفئدة كلّ الذين عاشوا معه، ممن كانوا يوالونه، وحتى ممن كانوا يكنّون له العداوة.

وقد أدّى هذا الموقع الذي بلغه في قلوب النّاس، إلى أن يخشاه الخلفاء العباسيّون الذين تعاقبوا في عصره، حيث كانوا يرونه ندّاً لهم، وكاشفاً لعيوبهم ونقائصهم، وما زاد من خشيتهم منه، تضافر الرّوايات التي وردت عن رسول الله(ص) وأهل البيت(ع)، بأنّ الإمام المهديّ (عج) الذي يخرج ليملأ الأرض قسطاً وعدلاً هو من ولده.

ولذلك، عانى الإمام في الفترة القصيرة من إمامته الّتي لم تستمرّ أكثر من ستّ سنوات، من السّجن والحصار، وقد بلغ من التّضييق أنه أرسل إلى شيعته: “ألا لا يسلّمنّ عليّ أحد، ولا يشير إليّ بيده، ولا يومئ، فإنّكم لا تؤمنون على أنفسكم”.

ولكنّ كل هذه الضغوط، رغم قساوتها، لم تمنع الإمام(ع) من أداء دوره الرّسالي في تبيان حقيقة ما جاء به رسول الله(ص)، وفي التصدّي لكلّ الإساءات التي واجهت الإسلام في فكره وعقيدته وشريعته، وفي الإعداد لولادة الامام المهديّ (عج) بعيداً من أعين الحلفاء العباسيّين، وتهيئة الظروف للتّواصل معه خلال غيبته الصّغرى التي امتدّت لتسعة وستّين عاماً.

النّصيحة في السّرّ

ونحن اليوم في ذكرى وفاته، سوف نتوقّف بما يتّسع له المقام، عند أحد توجيهاته، فيروى أنه (ع) قال: “من وعظ أخاه سرّاً فقد زانه، ومن وعظه علانيةً فقد شانه”.

ولقد أراد الإمام(ع) من خلال توجيهه هذا، أن ينبِّه إلى الواجب الملقى على عاتق المؤمنين تجاه بعضهم بعضاً، وهو واجب النّصيحة. فكلّ مؤمن معنيّ بأن ينصح أخاه المؤمن؛ بأن يبصّره عيوبه ونقائصه، وأن يدلّه على ما فيه الخير له، وهو اعتبرها حقّاً من حقوقه.

لقد ورد في الحديث: “يجب للمؤمن على المؤمن النصيحة له في المشهد والمغيب”..”المؤمن أخو المؤمن؛ عينه ودليله ومرآته”.. وفي الحديث: “إنّ أعظم الناس منزلة عند الله يوم القيامة، أمشاهم في أرضه بالنّصيحة لخلقه”.

والنصيحة قد تتعلّق بالجانب الديني أو الاجتماعي أو الاقتصادي أو السياسي أو العائلي، أو في أمر الزّواج والطلاق والعمل، لكنّ الإمام(ع) لم يكتف بالدعوة إلى النصيحة والحثّ عليها، بل دعا إلى ضرورة انتقاء الأسلوب الذي يقدِّم به المؤمن النَّصيحة، منعاً لردود الفعل التي قد تحصل جراءها، فالنّاس غالباً ما لا يحبّون أن يطّلع أحد على عيوبهم أو أن يحدّثهم بها، لأنهم يرون النصيحة إساءةً إليهم وإبرازاً لعيوبهم.

ولذلك، دعا الإمام(ع) إلى أن تكون النصيحة سراً، وبعيدة من أعين الناس أو أسماعهم، فمن أراد أن يبيّن لأحد أخطاءه، أو أن يصحّح له مساره، أو يوضح ما فيه مصلحة له، فلا بدَّ من أن يذهب إليه ويتحدَّث معه بشكل شخصيّ مباشر، فلا يجعل، كما نرى في واقعنا، الانتقاد والنصيحة على صفحات مواقع التّواصل، أو عبر وسائل الإعلام، أو أمام جمع من الأصدقاء أو الأقارب أو إلى ما هنالك.

وهذه المقاربة تحسّن من إمكان نجاحها، وتدلّ على إخلاص النّاصح، وتبتعد عن شبهة التفضّل على من يراد نصحه. وهذا ما كان يحرص عليه رسول الله(ص)، فكان إذا رأى في شخص أو في جماعة انحرافاً، لا يسمّيهم بأسمائهم، بل يقول: “ما بال أقوام قد فعلوا؟”، فكان من أساء يعرف إساءته”، من دون أن يعرّض به أمام الناس.

الرّفق في النّصيحة

وأمر آخر يتعلّق بالأسلوب أيضاً، وهو أن لا يبالغ الناصح بالحديث عن السلبيّات التي يراها ممن يريد نصحه، وأن يبدأ الإنسان بالحديث عن إيجابيّاته قبل البدء بنصيحته، كأن يقول له: يا أخي، أنت، والحمد لله، عندك الكثير من المميّزات والقدرات والمواهب، ولكن قد يكون غاب عنك هذا الأمر، وأنا على ثقةٍ بأنَّك قادر على تلافي ذلك…

وأن يكون التَّعبير رقيقاً وليِّناً وبقالبٍ جميل، فالكلام القاسي أو النَّابي أو المثير للانفعال، لا يوصل إلى النَّتيجة المتوخَّاة، بل قد يؤدِّي إلى خلاف الغاية المرجوَّة، وإلى توتّر بين الناصح والمنصوح، وهو ما أشار إليه الله سبحانه عندما قال: {ادْعُ إلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}.

وقد ورد في الحديث: “إِنَّ الرِّفقَ لا يَكُونُ في شيءٍ إِلَّا زَانَهُ، وَلا يُنْزَعُ مِنْ شَيءٍ إِلَّا شَانَهُ”.

لقد قدَّم الإمام الحسن العسكريّ (ع) من نفسه أنموذجاً للنّاصح الرَّفيق والمحبَّب، سواء في أحاديثه وتوجيهاته، أو من خلال سلوكه وحسن تعامله وعلوّ أخلاقه، فقد استطاع أن يبلغ قلوب من كانوا أشدّ النّاس قساوةً وكراهةً له، حيث يذكر أنَّ الإمام(ع) عندما أُدخِل السجن، جاء العباسيّون إلى المشرف على السّجن، وقالوا له: “ضيِّق عليه ولا توسّع”. فقال لهم: “لقد فعلت ذلك، ولكن مَا أَصْنَعُ؟ وقد وكَّلْتُ به رَجُلَينِ مِنْ أَشَرِّ مَنْ قَدِرْتُ عَلَيْهِ، فَقَدْ صارا مِنَ العِبادَةِ والصَّلاةِ والصِّيامِ إلى أْمْرٍ عَظيمٍ”..

وعظ النّفس والآخرين

أيّها الأحبّة، إننا معنيّون بأن نعالج أخطاء الناس من حولنا وتصرّفاتهم أو أفكارهم أو أقوالهم، أن لا نمرّ عليها مرور الكرام، أو أن يكون دورنا في ذلك تسجيل النقاط أو إلقاء الكلام كيفما اتّفق، بل يكون دورنا دور المصلحين الذين يعظون الناس وأنفسهم ابتغاء مرضاة الله بالتي هي أحسن، لنكون كما أرادنا الله، الأمّة التي تريد الخير للآخرين حتى لو لم يطلبوه منها، التي تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، الأمّة التي تتواصى بالحقّ وتتواصى بالصّبر، والتي قال الله عنها: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ}.

 وآخر دعوانا أن الحمدلله ربّ العالمين.

بسم الله الرَّحمن الرَّحيم

الخطبة الثانية

“أوصيكم بتقوى الله، والورع في دينكم، والاجتهاد لله، وصدق الحديث، وأداء الأمانة إلى من ائتمنكم من برّ أو فاجر، وطول السجود، وحسن الجوار، فبهذا جاء محمّد. صلّوا في عشائرهم، واشهدوا جنائزهم، وعودوا مرضاهم، وأدّوا حقوقهم، فإنّ الرّجل منكم إذا ورع في دينه، وصدق في حديثه، وأدّى الأمانة، وحسن خلقه مع النّاس، قيل: هذا شيعيّ، فيسرّني ذلك. اتّقوا الله، وكونوا زيناً، ولا تكونوا شيناً. جروا إلينا كلّ مودة، وادفعوا عنا كلّ قبيح، فإنه ما قيل فينا من حسن فنحن أهله، لنا حقّ في كتاب الله، وقرابة من رسول الله، وتطهير من الله لا يدّعيه أحد غيرنا إلا كذاب. أكثروا ذكر الله، وذكر الموت، وتلاوة القرآن، والصّلاة على النبيّ، فإنّ الصّلاة على رسول الله عشر حسنات. احفظوا ما وصّيتكم به، وأستودعكم الله، وأقرأ عليكم السّلام”.

بهذه الكلمات، أراد الإمام (ع) أن يحدّد صفات المنتمين إلى أهل البيت، فهو يريد لهم أن يكونوا المتقين والورعين والصادقين والأمناء، وهم يعرفون بكثرة ذكر الله، وذكر الموت، وتلاوة القرآن، وبمحبتهم لرسول الله وأهل بيته، وبانفتاحهم على من يختلفون معهم في الدين أو المذهب، وبحضورهم في ساحات الحقّ والعدل، وهم الذين لا ينكفئون عن مواجهة التحدّيات.

بارقة أمل؟!

البداية من خطوة التكليف للرّئيس الحريري، وهي خطوة يأمل اللّبنانيّون، وإن بحذر، أن تشكّل لهم بارقة أمل، وأن تفتح الأبواب لإيقاف الانهيار الحاصل على الصعد الاقتصاديّة والماليّة والمعيشيّة، والذي بات يهدّد الاستقرار الأمني، ويؤمّن انفتاح الخارج ومساعدته.

ونحن في هذا المجال، نرحّب مع كلّ اللّبنانيين، بأيّ خطوة تساهم في إنقاذ البلد مما يعانيه، وإخراجه من أزماته، وإن كنا نريد أن يأتي ذلك بفعل توافق القوى السياسيّة، لا بالانقسام الذي حصل، والذي عبّرت عنه الأصوات التي حظي بها الرئيس المكلَّف، بعدما أصبح واضحاً أنه لا يمكن النهوض بهذا البلد وإخراجه من أزماته في ظلّ بقاء القوى السياسية على مواقفها وانعدام الثّقة في ما بينها، والذي سيؤدي، بالطّبع، إلى تعثّر تأليف الحكومة المرتقبة.

أهميّة التّوافق

ومن هنا، ندعو الرئيس المكلَّف إلى فتح باب الحوار مع كلّ القوى السياسية الراغبة في الحوار، للتّوافق معها على الأسلوب الذي ستدير به الحكومة شؤون الدّولة، سواء على المستوى الاقتصاديّ أو المالي أو الإداري أو السياسي، ومعالجة الهواجس التي لدى البعض من أن يتكرّر مجدداً النهج الذي أوصل البلد إلى ما وصل إليه من الانحدار، والذي جعله رهينة شروط صندوق النقد الدّولي، وأفسح في المجال أكثر للدّول للتدخّل في شؤونه، أو أن تكون الحكومة منصّة لتصفية الحسابات الداخلية والخارجية.

وفي الوقت نفسه، ندعو القوى السياسية إلى أن تكون، ولا سيّما في هذه المرحلة، أكثر حرصاً على الخروج من حساباتها الخاصّة ومصالحها الفئويّة لحساب الوطن وإنسانه، فالبلد لا يبنى بالحسابات الخاصّة ولا بالمحاصصات، وذلك لتسهيل ولادة حكومة يحتاج إليها اللّبنانيون لمواجهة أزماتهم والتحديات التي تواجههم على أكثر من صعيد.

إننا نقول لكلّ من هم في مواقع المسؤوليّة، إنّ المرحلة ليست مرحلة تقاذف المسؤوليّات، أو أن يرمي كلّ فريق الكرة في مرمى الآخر، أو مرحلة انتظار لما يجري في هذا البلد أو ذاك. إننا لن نهوّن من صعوبة تمرير استحقاق التأليف، نظراً إلى الشروط والشروط المضادّة، لكننا سنبقى نراهن على وعي القوى السياسيّة لمخاطر ما جرى وما قد يجري، لتذليل العقبات أمامه.

اعترافٌ بالفساد.. ولكن!

في هذا الوقت، استمع اللّبنانيّون إلى كلمة رئيس الجمهوريّة التي حملت بمضمونها تعبيراً حقيقيّاً عن معاناة اللّبنانيّين جميعاً، وقدّمت اعترافاً من أعلى مسؤول في الدّولة بالأزمات التي يعانيها اللّبنانيون والفساد المستشري في إدارة الدولة.

لكنّ الشعب اللبناني كان ولا يزال ينتظر من رئيس الجمهوريّة، وكلّ من هم في مواقع المسؤوليّة، أن يقدّموا حساباتهم للناس؛ ماذا فعلوا وماذا سيفعلون ولماذا لم يفعلوا، وما هو مقدار مسؤوليّتهم عما حصل؟

وهنا ندعو الزائرين إلى الحيطة وعدم التّهاون بإجراءات الوقاية  من الكورونا، حمايةً لهم ولعائلاتهم ومحيطهم، واعتبار ذلك مسؤوليّة شرعيّة وواجباً، مع دعائنا لهم بالحفظ من كلّ سوء، إنّه سميع مجيب الدعوات.