نعمة الدّعاء مدرسة من الفضائل

 

 

 بسم الله الرّحمن الرّحيم

ألقى سماحة العلامة السيّد علي فضل الله، خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عددٍ من الشخصيّات العلمائيّة والسياسيّة والاجتماعيّة، وحشدٍ من المؤمنين، ومما جاء في خطبته السياسية:

الخطبة الأولى

ما زلنا في أجواء شهر رمضان المبارك، شهر التّوبة والمغفرة، شهر الرّحمة والصّفاء، شهر الشّكر والحمد، شهر الابتهال والدّعاء.

نعمة الدّعاء

وعندما يحمد الإنسان ربّه، فمجالات الحمد واسعة وممتدّة لا حدود لها.. يحمده للرّزق، للصحّة، للتّوفيق… الإمام زين العابدين(ع) في دعاء السَّحر، الّذي علّمه لأحد أصحابه وهو أبي حمزة الثّمالي، كان حريصاً على أن يشكر الله، أن يحمده على نعمة يراها أولى بالحمد من غيرها، باعتبارها الباب الموصل إلى كلّ نعمة؛ إنّها نعمة الدّعاء، ونعمة الطّلب، ونعمة المسألة، ونعمة الشّكوى من دون مذلّة.. فماذا لو أنّ الله لم يفتح لعباده باب الدّعاء؛ ستكون بذلك الحياة صعبة وجافّة وقاسية.

ولنعمة الدّعاء هذه، دعا الإمام(ع): "الحمد لله الّذي أدعوه فيجيبني، وإن كنت بطيئاً حين يدعوني، والحمد لله الّذي أسأله فيعطيني، وإن كنت بخيلاً حين يستقرضني، والحمد لله الّذي أناديه كلّما شئت لحاجتي، وحيث شئت وضعت عنده سرّي، من غير شفيع فيقضي لي حاجتي، الحمد لله الّذي أدعوه ولا أدعو غيره ولو دعوت غيره لم يستجب لي دعائي، والحمد لله الّذي أرجوه ولا أرجو غيره، ولو رجوت غيره لأخلف رجائي…".

الدّعاء يحرّر الإنسان

أيّها الأحبّة: وفي الدّعاء وفلسفته مدرسة يتعلّم فيها العباد الكثير من الفضائل، من خلالها يتخلّقون بأخلاق الله. فنحن من خلال عمليّة الدّعاء، نتعلّم دروس المساواة والعدل، حيث فتح الله سبحانه وتعالى الباب للجميع، ووجَّه الدّعوة إليهم من دون استثناء، وبإمكان الإنسان، صغيراً كان أو كبيراً، غنيّاً كان أو فقيراً، شريفاً أو وضيعاً، أن يفتح الخطّ مع الله ساعة يشاء، ومن أيّ مكان يريد أن يتحدّث منه، ومن دون أيّ رسميّات في الحديث..

ولأنّ الدّعاء يحرّر الإنسان من كلّ أصنام التبعيّة، حتّى لنفسه أو عائلته أو عشيرته، فقد جعله ينتمي إلى اللّه، فاللّه هدفه، وهو رجاؤه، ومحطّ أمله، ولأنّ عبوديّته للّه هي طريقه إلى الحريّة، لذلك لم يعد بحاجةٍ إلى وساطة أو صاحب نفوذ، أو قبضة بخور كي يحدّث اللّه. فاللّه دائماً على السّمع، كما يقول أهل الإعلام، وبإمكان الإنسان أن يقول لله كلّ شيء، حتّى لو كان ذلك بلسان العتب، والزّائد عن الحدّ في بعض الأحيان، والله يستمع ويستجيب مهما كان الأمر صغيراً وبسيطاً. وقد ورد عن الإمام الباقر(ع): "لا تحقّروا صغيراً من حوائجكم، فإنّ أحبّ المؤمنين إلى الله تعالى أسألهم".

حسن الظنّ بالله

وهكذا، أيّها الأحبّة، علَّم الرّسول(ص) أصحابه، علّمهم أن يُحسنوا الظّنّ باللّه، أن يثقوا بوعد قطعه على نفسه، عندما جعل الدّعاء باباً من أبواب رحمته: {ادْعُونِيأَسْتَجِبْلَكُمْ}[غافر: 60]. {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي، فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة: 186].

 وكيف لا نطمئنّ، واللّه يقول لنا أيضاً: {وَنَحْنُأَقْرَبُإِلَيْهِمِنْحَبْلِالْوَرِيدِ }[ق:61]، فاللّه معنا ما دمنا نمسك بهذا الحبل، فالمهمّ خلوص النيّة، فإذا توفّر الإخلاص وحُسن الظنّ باللّه، فلا شروط توضع ليُستجاب الطلب، ولا بوّاب يمنعك ولا قاعات انتظار، فأنت لست على باب مدير أو وزير، ليُقال لك: عدْ بعد أسبوع أو شهر. اللّه، أيّها الأحبّة، منبع الرّحمة، ومنبع العطف والخير والعطاء، وهو نفسه عزّ وجلّ من فتح لنا باب دعائه وباب سؤاله. وهذا ما يشير إليه الرّسول المصطفى(ص)، إذا يقول: "إنّ اللّه أحبّشيئاً وأبغضه لخلْقه: أبغض لخلقه المسألة، وأحبّلنفسه أنيُسْأل".

وعن عليّ(ع) في وصيّة لولده الإمام الحسن(ع)، (تلك الوصيّة التي ننصح كلّ أب أو أمّ أن يجعلاها وصيّةً ويربّيا أولادهما عليها): "إعلم أنّ الّذي بيده خزائن ملكوت الدّنيا والآخرة، قد أذن لدعائك، وتكفّل لإجابتك، وأمرك أن تسأله ليعطيك، وهو رحيم كريم، لم يجعل بينك وبينه من يحجبك عنه، ولم يُلجئك إلى من يشفع لك إليه، ثم جعل في يدك مفاتيح خزائنه بما أذن فيه من مسألته، فمتى شئت استفتحت بالدّعاء أبواب خزائنه…".    

 رأسمال المؤمن

أيّها الأحبّة: إنّ نعمة الدّعاء هي فرصة ثمينة للمؤمن، هي رأسماله الّذي لا ينفد، أرادها الله كذلك ليظلّ الإنسان بعيداً عن موارد اليأس والإحباط، ولتظلّ فرصة للأمل والتّجديد والنّشاط.

في الدّعاء، يضع المؤمن جميع أوراقه بين يدي اللّه، يدعو في الأمن، والخوف، في الشدّة والرّخاء، وفي الصحّة والمرض، يدعوه شكراً وحمداً وتذلّلاً وطاعةً واستغفاراً، لأنّ الدّعاء بالنّسبة إليه هو لبّ التّواصل مع اللّه، وجوهر الصّلاة، ومعراج قلبه وروحه إليه، وهو الطّريق إلى خزائن رحمته وعطفه. هنا، يصبح الدّعاء ملاذاً، وحصناً من وقوع البلاء، ففي حديث عن الإمام الكاظم(ع): "عليكم بالدّعاء،فإنّالدّعاء للّه،والطّلب إليه،يردّالبلاء وقد قُدِّر وقُضيولميبقَإلاّإمضاؤه،فإذا دُعياللّه جلّجلاله وسُئل، صُرف البلاء".

 أيّها الأحبّة: إنّ لشهر رمضان أهميّةً كبرى فيما يتعلّق بالدّعاء، فقد اقترن ذكر هذا الشّهر المبارك بالدّعاء لله، وهذا ما نجده واضحاً في القرآن الكريم، فعندما تحدّث الله سبحانه وتعالى عن فريضة الصّيام، كان الحديث مباشراً ومترابطاً بالحديث عن الدّعاء، ففي الآيات 183ـ 188 من سورة البقرة، نجد الحديث عن شهر رمضان والصّيام: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} وبقيّة الأحكام المتعلّقة، وفي الآية 186، أي وسط الحديث عن الصّيام، نجد الحديث عن الدّعاء: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيب أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ}. وهذا، إنّما يعود للارتباط بين عبادة الصّيام وعبادة الدّعاء ارتباطاً عضويّاً وثيقاً. والأحاديث الّتي أشارت إلى أهميّة الدّعاء في شهر رمضان كثيرة، حيث ورد عن رسول الله(ص) في خطبته في آخر جمعة من شهر رمضان، قوله: " أنفاسكم فيه تسبيح، ونومكم فيه عبادة، وعملكم فيه مقبول، ودعاؤكم فيه مستجاب...". وقد ورد في الحديث: "ثلاث لا تُردُّ دعوتهم: الإمام العادل، والصّائم حتّى يفطر، ودعوة المظلوم".

وفي الحديث: "إنّ للصّائم دعوةً عند الإفطار لا تُردّ"، حيث يقول للعبد بعد أن انتهى من ذلك الصّوم لله، وما كان فيه من ظمأ وتعب وجهد: ماذا تريد مقابل ذلك العمل، ادع واطلب ما تريد.

مدرسة تربويّة إيمانيّة

هذا، وقد ذخرت كتب الأدعية بالدَّعوات الخاصّة بشهر رمضان، هي أدعية لكلّ الأوقات: أدعية السّحر واللّيل، وأدعية نهاريّة، وهي تمثّل مدرسة تربويَّة إيمانيَّة سلوكيّة، كما هي مدرسة روحيّة يتعلّم فيها الإنسان كيف يحصّن نفسه بالزّهد والورع والطّاعة والخشوع لله، وكيف يقوم بعمليّة نقد ذاتيّ، فيقدّم إلى الله من خلال الدّعاء كشف حساب بمعاصيه وذنوبه وتقصيره…

أيّها الأحبّة: في شهر رمضان، شهر الدّعاء، لنتوجّه بقلوبنا وأرواحنا إلى الله، حتى وإن شعرنا بأنّنا ابتعدنا وأسرفنا:

ـ لندعُوَ الله أن يعيننا على أنفسنا، المقصّرة الغارقة في بحر ذنوبها وآثامها، بقبول التّوبة ونيل المغفرة وبلوغ الجنّة.. 

ـ لندعُوَ الله، أن نكون القائمين الصّائمين التّالين للقرآن، الآمرين بالمعروف والنّاهين عن المنكر..

 ـ أن ندعو للقريبين منّا حتى وإن أساؤوا إلينا، وللبعيدين عنّا، ليحفظهم الله ويعيدهم إلينا سالمين غانمين.

ـ أن ندعو لجميع المؤمنين والمؤمنات، ندعو للأحياء منهم بالثّبات، وبأن يختم الله لهم بخير، وللأموات بالعتق من النّار والفوز بالجنّة..

ـ وندعو، للضالّين وللعاصين والتّائهين أن يهديهم الله، أن يزيل عنهم الغشاوة والعمى، فتنفتح لهم سبل الرّشاد والهدى.

ـ لندعُوَ الله، أن يعرّفنا الحقّ ويحمّلناه وأن يبلّغنا ما قَصُرنا عنه.. ليلمم به شعثنا ويرتق به فتقنا ويكثّر به، قلتنا ويعزّ به ذلّتنا..         

لندعُوَ الله أن يصلح كلّ فاسد من أمور المسلمين ما خفي منه وما علن.

ـ ندعو للعاملين بالتّسديد، وللمجاهدين في سبيله لينصرهم نصراً عزيزاً، ويفتح لهم من لدنه فتحاً يسيراً، ويجعل لهم من لدنه سلطاناً نصيراً..

ـ وندعو للأمّة بتحقيق أمانيها وأحلامها، في دولةٍ كريمة، يعزّ بها الإسلام وأهله، ويذلّ بها النّفاق وأهله، ويرزقنا بها كرامة الدّنيا والآخرة..

ـ وأخيراً، لا ننسى من انحاز إليهم شهر رمضان: فقراءنا.. أيتامنا.. مرضانا.. ندعو الله أن يعيننا لنساهم في إغناء كلّ فقير، وإطعام كلّ جائع، وإكساء كلّ عريان، ومعالجة كلّ مريض، وكشف كرب كلّ مهموم ومغموم…

 تقبّل الله دعاءنا ودعاءكم بحسن قبوله، والحمد لله رب العالمين.

بسم الله الرّحمن الرّحيم

الخطبة الثّانية

عباد الله، اتّقوا الله حقّ تقاته ولا تموتنّ إلا وأنتم مسلمون، ولنحرص على استذكار المناسبة العزيزة المنتظرة في الثّاني عشر من شهر رمضان، وهي إعلان الأخوّة بين المهاجرين والأنصار، هذا الإعلان الّذي تمّ تحت عين رسول الله(ص) وبتوجيهٍ منه، والّذي كان الهدف منه إخراج فكرة الأخوّة الإيمانيّة الّتي أشار إليها الله سبحانه وتعالى بقوله: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ}[الحجرات:10]، من دائرة النظريّة إلى دائرة التّطبيق، بحيث تتحوّل هذه الأخوّة الإيمانيّة، الأخوة في الله وفي السّير على هديه، إلى أخوّة عمليّة تتحرّك في المشاعر والأحاسيس، وفي السّلوك والعمل…

أخوّة الإيمان

وقد ساهم هذا الإعلان في تعزيز قوّة المسلمين وصهرهم وتماسكهم، وأذاب كلّ الحساسيّات الّتي كانت موجودةً بين أبناء القبائل والعشائر والبلدان، أو الاختلاف في الموقع أو اللّون، بحيث صار المسلمون يشعرون بأنّهم ينضوون في كنف أسرة واحدة، كلّ واحد من أفراد هذه الأسرة يشعر بمسؤوليّته عن الآخرين بما يوازي أو يفوق مسؤوليّته الأخويّة في النّسب…

وقد عبّر المسلمون عن هذه الأخوّة أفضل تعبير في ممارستهم، ولا سيّما في علاقة المهاجرين بالأنصار، عندما كان الأنصاريّ يتقاسم مع المهاجر ماله وبيته وأرضه ولقمة عيشه، وقد يؤثره على نفسه، بعدما خرج المهاجرون من مكّة وليس معهم شيء هرباً من طغيان قريش، وإلى هذا أشار الله سبحانه: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}[الحشر:9]…

هذه الأخوّة الّتي عاشها المسلمون بأجمل صورها وأرقاها، هي الّتي جعلتهم أقوياء متماسكين، يواجهون قريش، أقوى قوّة في الجزيرة العربيّة، ويقفون في وجه مؤامرات اليهود والمنافقين، وينتقلون من الضّعف إلى القوّة، ومن الصّبر على الألم إلى الانتصار على مسبّبيه…

هذه الأخوّة هي الّتي يحتاج المسلمون إلى إحيائها في واقعهم، لتذيب كلّ الحساسيّات الّتي تحدث نتيجة تنوّع مذاهبهم ومراجعهم ومواقعهم السياسيّة…

إنّنا نريد للمسلمين أن يقوموا بمسؤوليّاتهم تجاه الأخوّة الإسلاميّة، وأن يعتبروها أقوى من أيّة رابطة أخرى، كونها تتّصل بالإيمان بالله والإيمان برسوله، بالقرآن الواحد، والقِبلة الواحدة، والأهداف والمنطلقات الواحدة…

إنّنا ندعو المسلمين، الّذين تعمل كلّ قوى الاستكبار في هذا العالم على شرذمتهم، على جعلهم شيعاً متمزّقين متنافرين متباغضين، يقتل بعضهم بعضاً، ويتآمر بعضهم على بعض، ويكيد بعضهم لبعض.. ندعوهم إلى أن يكونوا في ممارستهم كما أرادهم رسول الله(ص): "كونوا أخواناً بررة، متواصلين متراحمين".. أن يعيشوا الأخوّة فيما بينهم، لا تقف أمام أخوّتهم حواجز المكان ولا المذاهب، بحيث يكون اللّبنانيّ أخَ الفلسطيني، والفلسطيني أخَ السوريّ، والسوريّ أخَ العراقيّ وهكذا، فلا يشعر أيّ واحد أن لا علاقة له بآلام الآخر ومعاناته…

الكيان الصهيونيّ هو العدوّ

ومن هنا، علينا أن نشعر بأنّ ما يصيب الفلسطينيّين من سياسة القمع والبطش الّتي يمارسها العدوّ الصهيونيّ، وآخرها الدّخول إلى حرم المسجد الأقصى، واعتقال أحد أئمّته وطرده المعتكفين منه بالقوّة، وقراره إزالة ثماني قرى فلسطينيّة وتشريد أهلها، يعنينا، لأنّهم أخوتنا…

ما نريده للشّعوب العربيّة والإسلاميّة، أن يبقى نظرها مشدوداً إلى خطر هذا الكيان، وأن لا تستبدل هذا العدوّ بعدوٍّ آخر، كما يُسعى الآن ليصبح العدوّ بلداً عربيّاً أو إسلاميّاً أو طائفة أو مذهباً، بل ينبغي أن تبقى المشكلة في الكيان الصّهيونيّ…

منطق الإجرام يستهدف العراق

ومن فلسطين إلى العراق، حيث التّفجيرات الوحشيّة الدامية والوحشيّة، الّتي حصدت مئات القتلى والجرحى، إلى جانب سياسة القتل الّتي تهدف إلى تعطيل الحوار الجاري بين مكوّناته السياسيّة، وإبقاء العراق في دائرة الاهتزاز وعدم الاستقرار، حتّى لا يقوم بدوره الرّياديّ على مستوى العالم العربيّ والإسلاميّ…

إنّ كلّ هذا الواقع الدّامي ينبغي أن يكون حافزاً للعراقيّين لمتابعة الحوار فيما بينهم، للوصول إلى قواسم مشتركة تضمن للعراق الأمن والاستقرار، وتساهم في تحريك العجلة السياسيّة فيه، وتمنع العابثين من التكفيريّين وغيرهم من العبث بأمنه وجرّه إلى الفوضى والفتن…

وإنّه لمن المخجل والمعيب، وفي أجواء هذا الشّهر المبارك، أن تنطلق أصوات التّكفير والتطرّف المذهبيّ، لدعوة المسلمين في العالم إلى الانخراط في عمليّة القتل في العراق، من خلال هكذا عمليّات قاتلة، بدلاً من أن يدعو هؤلاء إلى توحيد الصّفوف، لينطلق المسلمون جميعاً في عمليّة تحرير بيت المقدس، ورفع الظّلامة الكبرى عن الشّعب الفلسطيني…

إنّ على حكماء المسلمين وعقلائهم وعلمائهم، أن يستنكروا العمليّات الإجراميّة في العراق وغيره، حتّى لا تجد الجهات التكفيريّة في صمت هؤلاء مبرّراً لها في توسيع دائرة إجرامها، واستمرارها في هذا المسلسل الّذي يمثّل خطراً داهماً، ليس على العراق فحسب، بل على مسيرة الوحدة الإسلاميّة كلّها…

سوريا: أزمة النّازحين

أمّا سوريا، فقد قرّرت المحاور الدولية أن تستمرّ حال الاستنزاف الدّموي فيها إلى أبعد الحدود، وهي تتحدّث علناً عن أنّها ترفض الحوار والتّسوية، وتميل إلى تسهيل كلّ عمليّات التّسليح والاقتتال الّذي يجعل من سوريا ساحة قتل دامية، يسقط فيها الأبرياء، وتُستنزف فيها كلّ مواقع القوّة في هذا البلد؛ الجيش والشّعب، لتخلو السّاحة أمام الكيان الصّهيوني…

إنّنا إذ نشعر بالأسى حيال كلّ ما يجري في سوريا، من تدمير ونزيف دم، نؤكّد مجدّداً لكلّ مكوّنات هذا البلد، أنّ الحلّ لا يمكن أن يتمّ إلا من خلال مصالحة وطنيّة تنطلق من حوار جدّيّ يساهم كلّ الأطراف في إنجاحه، حتّى لا يقع هذا البلد فريسة التدخّل الدولي الخارجي، أو الحرب الأهليّة الدامية التي لن تُبقي ولن تذر، أو التّقسيم، وإن كنّا لا نرى واقعيّةً لهذا الخيار. لقد آن الأوان لأن يتحرّك كلّ الّذين يريدون خيراً للعالم العربيّ، لمنع استمرار كل هذا النزف الذي لن يكون إلا في خدمة الكيان الصّهيونيّ، الذي سيرتاح كثيراً عندما يسقط أيّ موقع من مواقع القوّة الّتي كانت في مواجهته…

إنّنا رغم كلّ هذه الجراح والآلام، نبقى نتطلّع إلى وعي السوريّين وكلّ الغيارى على هذا البلد، ليعيدوا إلى هذا البلد دوره الرّياديّ في مواجهة العدوّ الصّهيونيّ والاستكبار العالميّ…

وفي هذا الإطار، ندعو أهلنا إلى استقبال النّازحين السوريّين المسالمين، وتقديم ما يمكن تقديمه لهم، حسب الإمكانات المتاحة، وخصوصاً في شهر رمضان الكريم، فالكلّ يعرف كيف استقبل الشّعب السوريّ أهلنا إبّان الحرب الصهيونيّة في تموز من العام 2006، وينبغي لنا أن نردّ التحيّة بمثلها وأحسن منها، وعلينا جميعاً أن نعمل لحماية هؤلاء ومنع الاعتداء عليهم أو خطف بعضهم تحت أيّ اعتبار أو ذريعة، ولا يجوز لنا أن نلجأ إلى أساليب الآخرين الّتي يرفضها الإسلام جملةً وتفصيلاً، ولا تزر وازرةٌ وزر أخرى…

ونحن في الوقت عينه، نكرّر الدّعوة إلى خاطفي الزوّار اللّبنانيّين، إلى إطلاق سراحهم وعودتهم إلى أهلهم، احتراماً لهذا الشّهر الكريم، لا أن يُدخلوا هؤلاء الزوّار في حسابات لا علاقة لهم بها، كما ندعو كلّ الّذين كانوا يتابعون هذه القضيّة، إلى الاستمرار في متابعتها، حتى يمنعوا كلّ التداعيات التي قد تحصل عندما تصل الأمور إلى طريق مسدود…

لبنان: انقطاع حبل الحوار

وأخيراً، نطلّ على لبنان الّذي كنّا نتطلّع إليه من نافذة الأمل في جلسات الحوار الّتي أعادت البلد إلى دائرة الحوار، بدلاً من التّراشق الكلاميّ الحادّ الّذي يترك أثراً بالغ السلبيّة على الشّارع، ولقد كنّا نأمل أن تؤسّس هذه الجلسات لرؤية وطنيّة جامعة، تشكّل مظلّة حامية للبلد في الحاضر وقادم الأيّام، ولكنّنا فوجئنا، كما كلّ اللّبنانيّين، بأنّ حبل الحوار قد انقطع، نتيجة الشّروط والشّروط المضادّة…

وبرغم كلّ ذلك، نأمل أن لا يكون ما حصل قراراً نهائيّاً، بل مؤقّتاً وقابلاً للعلاج، وأن تعود جلسات الحوار إلى الانعقاد، وندعو إلى دراسة كلّ الهواجس من داخل الحوار لا من خارجه، واجتراح الحلول السياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة المتوخّاة للبلد، ومنع أيّ انعكاسات لما يحصل في سوريا على الأمن اللّبنانيّ، والّذي بدأت تداعياته، ولا سيّما على الحدود، حيث باتت معاناة اللّبنانيّين تكبر على مرّ الأيّام، ما يستدعي إعلان حالة طوارئ من كلّ المسؤولين، ومنع سقوط هذا البلد تحت أزماته السياسيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة والمعيشيّة، وحتّى تلك الّتي وصلت إلى طلابه هذا العام…

أيّها المسؤولون، كونوا أمناء على المسؤوليّات الّتي حمّلكم النّاس إيّاها، أخلصوا لهم، ولا توصلوا النّاس إلى حدّ اليأس في كلّ واقعهم، فيضيع البلد..

فماذا تربحون لو خسرتم ثقة النّاس، أو جعلتموهم يهيمون على وجوههم في هذا العالم الواسع؟!…

التاريخ: 8 رمضان 1433 هـ  الموافق: 27/07/2012 م

Leave A Reply