ظلم النفس..أشد انوع الظلم
ألقى سماحة العلامة السيّد علي فضل الله، خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عددٍ من الشخصيّات العلمائيّة والسياسيّة والاجتماعيّة، وحشدٍ من المؤمنين، ومما جاء في خطبتيه:
قال الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} صدق الله العظيم.
القرآن الكريم كان حاسما في تقرير سوء عاقبة الظالمين الذين يفسدون في الأرض ولا يسلم من ظلمهم بشر ولا حجر وهذا مقرر بيِّن ولكن اللافت أن الكتاب المبين وسع من مفهوم الظلم، فهو لم يكتفِ بالحديث عن ظلم الإنسان للإنسان أو عن ظلم الإنسان لربّه، بل أضاف إلى ذلك ظلم الإنسان لنفسه.
فالإنسان في منطق القرآن الكريم، قد لا يتورّع من أن يظلم نفسه ويسيء إليها ويشوه معالمها عمداً وعن سابق تصور وتصميم كالذي يقتل نفسه أو يجرحها أو يعرضها لما يهدد كرامتها أو يضيع إمكانياته وطاقاته، أو يضيع عليها فرصة الثواب الأخروي بإسرافه على نفسه، وعدم القيام بمسؤولياته تجاه ربّه وتجاه عائلته وتجاه الناس.. فظلم الإنسان لنفسه له مصداقان: دنيوي وأخروي.
والقرآن الكريم والأحاديث الشريفة، كانتا حاسمتين في النهي عن هذا النوع من الظلم بالمطلق وفي التشديد على ضرورة الامتناع عنه، واعتبرته إساءة لأمانة جعلها الله عند الإنسان، وهو أفحش الظلم، فالظلم يصدر من صاحب هذه النفس ممن يفترض به أن يكون أميناً وحريصاً عليها، يحميها من أعدائها ويدافع عنها ويمنع عنها الإساءات ويرفع من مستواها ليبلغ بها أعلى درجات الدنيا والآخرة، فإذا هو يسيء إليها ويتهددها ويسقط من شأنها وموقعها الذي عظمه الله بقوله سبحانه: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً}..
والظلم للنفس من منطق القرآن الكريم، لا تقف آثاره عند إساءة الإنسان لنفسه، بل هو يترك آثاره السلبية على المجتمع، لكون الإنسان جزءاً من المجتمع وما يتهدده ويؤثر فيه سيترك أثره في سلامة المجتمع وقوته وفي الحياة، فالحياة تعاني من نتاج الذين ظلموا أنفسهم بعدم تربيتها وتزكيتها وتوجيهها ورعايتها لتحقيق هدف وجودها في إعلان العبودية لله وإقامة العدل.. بحيث تركوها لغرائزها وشهواتها وللعبة المصالح فأصبحوا عبئاً على الحياة..
وهذا ما أشار إليه الله سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ}..
فالظلم الموجود في الحياة، وما يحدث من فساد في البرّ والبحر، هو نتيجة ظلم الناس لأنفسهم، كما وأشار القرآن الكريم إلى أنه يدخل في عداد هؤلاء الظالمين لأنفسهم أولئك الذين تخلوا عن مسؤولياتهم الرسالية ورضوا بالواقع الظالم والمنحرف من دون أن يبحثوا عن خيارات أخرى للخلاص منه، بحيث أعطى وجودهم شرعية له وقوة، كما جاء في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً}..
والأرض الواسعة هنا، لا يقتصر مصداقها على الهجرة فحسب، بل إن السعة عنها تشير إلى تنوّع الوسائل التي يوفرها الله لعباده لكي يزكوا أنفسهم من خلالها. فمن هذا العنوان يتبين مفهوم ظلم النفس بسعته، فالإنسان يظلم نفسه إن هو أهمل تهيئة نفسه علمياً وعملياً وركن بالقليل، بينما سبل التعلم والإعداد متاحة إن بحث الإنسان إليها.
والإنسان يظلم نفسه إن سلبها هويتها وسلّمها الى الجماعة أينما توجّهوا وحلّوا، فهو معهم، بينما أن الله أنعم عليها بالعقل لكي تختار من خلال العلم والفكر خياراتها وتعبّر عنها بكل حرية، ومنحها إرادةً وعزماً، والإنسان يظلم نفسه أي ظلم إن لم يعش هاجس التطوير الدائم وإن كبح طموحه وقنع بالسائد بينما تفيض الحياة بكل الوسائل التي تطور حياته وإنسانيته، إن سعى ألإنسان وأخلص النية.
ومن ظلم الإنسان لنفسه أيضاً، أن يذلّها، بحيث يقدم على مواقف تمتهن فيها كرامته، وتعرض عزة نفسه للانتهاك، ورد في الحديث عن الإمام الصادق(ع): "إنّ الله عزّ وجلّ فوّض إلى المؤمن أموره كلّها، ولم يفوّض إليه أن يذل نفسه".
ولكن من المفيد الإشارة أن الإنسان أيضا يظلم نفسه إن منعها حاجاتها المباحة حيث قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ}.
هذا بالنسبة إلى ظلم النفس الدنيوي، أما الأخروي و هو الأساس فمن ظلم الإنسان لنفسه استبدال دار البقاء بدار الفناء، والإمعان في معصية الله، فقد ورد في الحديث عن علي(ع): "ظلم نفسه من رضي بدار الفناء عوضا عن دار البقاء".. "ظلم نفسه من عصى الله وأطاع الشيطان".
وورد عن الإمام الصادق(ع): كتب رجل إلى أبي ذرّ: يا أبا ذرّ! أطرفني بشيء من العلم.. فكتب إليه: إنّ العلم كثير ولكن إن قدرت أن لا تُسيء إلى من تُحبُّه فافعل.. قال: فقال له الرجل: وهل رأيت أحداً يُسيء إلى من يُحبُّه؟! فقال له: نعم، نفسك أحبُّ الأنفس إليك، فإذا أنت عصيت الله فقد أسأت إليها. فالمعصية الصغيرة منها و الكبيرة و حتى الشرك بالله لا تضر الله شيئا و ليس فيها ظلم لله بالمعنى المباشر, حاشاه و هو الغني عن العالمين و لكنه هذه المعاصي بالنتيجة ظلم للنفس و أي ظلم أفدح و أقدح من إنزال هذه النفس من رضا الخالق إلى سخطه و من جنته التي وسعها السماوات و الأرض إلى أليم عقابه.
وقد أشار الله إلى نموذج من الذين ظلموا والعاقبة التي بلغوها تمثل بصاحب الجنتين الذي قال عنه: {وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا* وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا}، وكانت النتيجة {وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنْتَصِرًا* هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا}.
أيها الأحبة: إن الطريق لإزالة هذه الآفة من أنفسنا هو أن نعترف بظلمنا لأنفسنا.. فنحن غالباً ما لا نعترف، ونضع المسؤولية في ذلك على الشيطان أو على الأجواء والظروف التي أرغمتنا على ذلك، فيما نحن السبب.. ولذلك عندما جاء رجل إلى رسول الله يشكو إليه نفسه قال له أقر بذنبك وظلمك لنفسك واستغفر الله.. قال تعالى: {قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ}..
وهو ما ذكرته الآية الكريمة: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ}.
وقد ورد في الأحاديث أن الله إذا أراد أن يغفر للإنسان ما ألحقه بنفسه من ظلم، وما عرضها من الهم والضيق والشدة، فليدعُ بما دعاه النبي يونس في بطن الحوت {لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ}..
الأمر الآخر أن نبذل جهداً مع أنفسنا بأن نرى أن لها حقاً علينا وأن ثمنها لا ينبغي أن يكون إلا الجنة ورضوان الله، كما قال علي(ع): "إنه ليس لأنفسكم ثمن إلاّ الجنّة، فلا تبيعوها إلا بها".
وقد ورد عن الإمام زين العابدين(ع): "أما حق نفسك عليك فأن تستوفيها في طاعة الله، فتؤدي إلى لسانك حقه وإلى سمعك حقه، وإلى بصرك حقه، وإلى يدك حقها، وإلى رجلك حقها، وإلى بطنك حقه ، وإلى فرجك حقه وتستعين بالله على ذلك".
بعدها نحرص على تزكيتها وتربيتها ورعايتها حتى تكون عوناً لنا على القيام بمسؤوليات الدنيا فنؤديها خير تأدية، فذلك هو السبيل إلى بلوغ أعلى درجات الآخرة..
وقد قال الله: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا}.
وقالها علي(ع): "أيُّها الناس، تولّوا من أنفسكم تأديبها، واعدلُوا بها عن ضراوة عاداتها".
وبعد ذلك أن نرى ظلم النفس ظلماً من أقبح الظلم، فكما ستقف بين يدي الله ليحاسبك على ظلمك للناس وإساءتك إليهم.. ستقف هذا الموقف بسبب ظلمك لنفسك وإساءتك إليها بكل أنواع الإساءة والتي سوف تشهد عليك بظلمك لها.. فهل ثمة جواب؟
فلنتقِ هذا الموقف بأن نحفظ أنفسنا بحمايتها ورعايتها من كل ظلم وذنب، والإسراع بالاستغفار والتوبة، وبرفع مستواها الروحي والإيماني بذكر الله واستحضاره في كل حياتنا، وتأهيلها لبلوغ الدرجات العليا، حتى لا نكون من الظالمين الذين قال الله عنهم: {حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ* وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ* وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ}، فأي موقف أصعب من أن يقف الإنسان أمام نفسه..{يَوْمَ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ}.
وقوله سبحانه: {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} {الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ}.
الخطبة الثانية
عباد الله، أوصيكم وأوصي نفسي بما أوصى به أمير المؤمنين (ع)، عندما جاء رجل يسأله: يا أمير المؤمنين، ندعو ونلحّ في الدعاء، ولكن لا يُستجاب لنا، كيف ذلك والله يقول: {ادعوني أستجب لكم}، {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ}؟
فقال الإمام(ع): "إن قلوبكم خانت بثماني خصال: أولها: أنكم عرفتم الله، فلم تؤدوا حقه كما أوجب عليكم، فما أغنت عنكم معرفتكم شيئاً .والثانية: أنكم آمنتم برسوله، ثم خالفتم سنته، وأمتم شريعته، فأين ثمرة إيمانكم؟ والثالثة :أنكم قرأتم كتابه المنزل عليكم، فلم تعملوا به، وقلتم سمعنا وأطعنا ثم خالفتم. والرابعة: أنَّكم قلتم تخافون من النار وأنتم في كل وقت تقدمون إليها بمعاصيكم، فأين خوفكم؟ والخامسة: أنكم قلتم ترغبون الجنة، وأنتم في كل وقت تفعلون ما يباعدكم منها، فأين رغبتكم فيها؟ والسادسة: أنكم أكلتم نعمة المولى، فلم تشكروا عليها.
والسابعة: أنَّ الله أمركم بعداوة الشيطان، وقال: {إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدواً}، فعاديتموه بلا قول، وواليتموه بلا مخالفة. والثامنة: أنكم جعلتم عيوب الناس نصب أعينكم، وعيوبكم وراء ظهوركم، تلومون من أنتم أحق باللوم منه، فأي دعاء سيستجاب لكم مع هذا، وقد سددتم أبوابه وطرقه؟ فاتقوا الله، وأصلحوا أعمالكم، وأخلصوا سرائركم، وأمُروا بالمعروف، وانهوا عن المنكر، فيستجيب الله لكم دعاءكم".
أيها الأحبة، لقد وعد الله عباده بأن يستجيب لهم دعاءهم، ولكنَّهم يغفلون أنَّه شرط عليهم وفاءه لهم بوفائهم له، والتزاماته معهم بالتزامهم معه، ولذلك قال عزّ وجل: {أَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ}. بهذه العلاقة المتبادلة بيننا وبين الله، يمكننا أن نواجه صعوبات الحياة، ونكون أقوى على مواجهة التحديات.
لبنان
والبداية من لبنان، الَّذي لا يزال الجدل السّياسيّ فيه على حاله بشأن القانون الانتخابي، ولم تتبدل الصورة رغم بدء المهلة القانونية المحددة للتحضير للانتخابات النيابية، فهناك من يدعو من القوى السياسية إلى إقرار قانون عصري يلبّي احتياجات اللبنانيين للتغيير، ويساهم في تجديد الحياة السياسية، ويعزّز المشاركة فيها، ويمنع تهميش أي فئة، ويعتبر أن ذلك يتحقق في قانون النسبية، وهناك من يرى ضرورة التغيير، لكن بشرط أن لا يمسّ بمصالحه ومكتسباته التي حقَّقها طوال السّنوات السّابقة، سواء داخل طائفته أو مع الطوائف الأخرى، ويرى ذلك في القانون المختلط.
وهناك من يعتقد بضرورة إبقاء القانون المتّبع الآن بعد تعثّر الاتفاق على غيره، إضافةً إلى من يمنّي نفسه من القوى السياسية بالتمديد، ويعتبره الأنسب، انتظاراً منه لتبدّل في مواقع القوى السياسية في ظل التغيرات التي قد تجري في الداخل أو في المنطقة، وتجعله قادراً على أن يفرض، ومن موقع القوة، القانون الذي يناسبه، بعدما أصبح الفراغ مرفوضاً داخلياً ودولياً.
إننا في ظلّ كل هذه الطروحات، نعيد التأكيد أننا مع القانون الَّذي يضمن صحَّة التمثيل، ويساهم في نهوض هذا البلد وإخراجه من الركود والجمود الَّذي يعانيه، لكننا سنبقى ندعو إلى التوافق، ونريد فيه التوافق لمصلحة لبنان واللبنانيين، لا توافق مصالح الطبقة السابقة.
ونصل إلى الموازنة التي لا يزال اللبنانيون ينتظرونها بفارغ الصبر، لا لأنها تترك آثارها في واقعنا الاقتصادي والمعيشي فقط، بل لكونها ستمثّل أيضاً التَّعبير عن المنهجية التي سيتعامل بها العهد الجديد، الَّذي جاء محملاً بالوعود الكثيرة للمواطنين، ولا سيما في القضايا الاقتصادية والاجتماعية التي تمسّ حياتهم، فهل سيتعامل معها بمنطق فرض الضرائب، بحيث يجعلها الأساس في تأمين الموارد، أم بمنطق ترشيد الإنفاق، وتفعيل الاقتصاد، وعدم الاكتفاء باقتصاد الخدمات، وسدّ أبواب الهدر والصناديق المثقوبة، وتعزيز الرقابة على المصادر التي تؤمّن الموارد المالية للدولة؟
ومن هنا، تأتي نظرتنا إلى موضوع سلسلة الرتب والرواتب، فقد آن الأوان لتقرّ هذه السلسلة حفظاً لكرامات الموظفين، وتلبيةً لأبسط حاجاتهم، ولا ينبغي أن توقفها قلّة الموارد، لأنها لم تؤخذ بعين الاعتبار عندما صُرف الكثير على أمور هامشية، أو عندما تمّ رفع رواتب الوزراء والنوّاب وغيرهم. نعم، لا بد من أن يواكب ذلك تحسين المنظومة الإدارية والرقابية، ليكون العطاء مقابل عطاء.
في هذا الوقت، عاش اللبنانيون خلال المرحلة الماضية التوتر بفعل التسريبات التي وصلت من مسؤولين صهاينة، بأن الكيان الصهيوني قد يُقدم على ضرب لبنان، ورغم معرفتنا بغدره، وعدم تورّعه عن القيام بأي عمل عسكري عندما يشعر بأنه جاهز لذلك، ويرى الظروف مهيأة، لكننا نعتبر أن هذه التسريبات تدخل في إطار الحرب النفسية، التي، مع الأسف، تسوِّق لها جهات داخلية، فإسرائيل تدرك أنَّ لبنان، في ظلّ تلاحم الجيش والشعب والمقاومة، لم يعد لقمة سائغة، وتعرف أنّ أي عدوان عليه لن يكون نزهة، بل سيُواجه بالصّمود والتّحدّي.
وفي هذا المجال، لا بدّ من أن ننوِّه بالردّ الصادر عن رئيس الجمهورية، الذي أكَّد فيه أنَّ لبنان سيردّ على أيّ عدوان صهيوني، وأراد من خلاله أن يثبت معادلة أن قوة لبنان لن تكون بعد اليوم في ضعفه، بل في قوته.
سوريا
وإلى سوريا، حيث بدأت جولة جديدة من المفاوضات، نأمل أن تساهم في إيجاد حل ينهي معاناة الشعب، ويعيد إلى البلد دوره. ولكن، مع الأسف، لم تنضج بعد هذه الحلول، في ظل الفرملة التي تتعرض لها من قِبَل قوى محلية وإقليمية، انتظاراً لمتغيرات قد تحدث في السياسة الأميركية تكون لحسابها ومصالحها، وقد بدأت مؤشراتها بالظهور بالحديث عن مناطق آمنة، وما يستتبع ذلك من تقاسم نفوذ بين الدول الإقليمية والدولية، ما يعيد سوريا إلى ساحة صراع دولي وإقليمي، ويفقدها وحدتها.
من هنا، فإننا ندعو الشعب السوري إلى التعبير عن رفضه لكل المؤامرات التي تستهدفه، من خلال إصراره على التمسك بوحدة سوريا، واستمرار سياسة المصالحات، وتعزيز فرص الحل التي تحفظ حقوق الجميع. في الوقت نفسه، لا بدَّ من التنبيه إلى مخاطر ما يسرّب في وسائل الإعلام، ومن مواقع سياسية، من العمل على إنشاء حلف من دول عربية وغير عربية بقيادة أميركا لمواجهة إيران، فنحن نشير إلى خطورة أي عمل بهذا الاتجاه، لكونه لن يساهم في علاج المشاكل والتوترات، بل سيزيدها تفاقماً، ولن يستفيد منها سوى العدو الصّهيونيّ، الّذي يريد إدخال المنطقة في أتون الصراعات، لتسهيل ابتلاعه لفلسطين، وإسقاط أيّ موقع قوة في مواجهته.
ولذلك، لا بدّ من أن تُبذل كل الجهود من أجل إعادة وصل ما انقطع بين إيران ودول عربية وإسلامية، والعودة إلى لغة الحوار التي ستؤمن، إن حصلت، مصالح الجميع، وتزيل الهواجس غير الواقعية التي تصنع فيما بينهم.
العراق
ونصل إلى العراق، لنحيي قواه الأمنية على التضحيات الجِسام التي تُقدّم، والإنجازات التي تتحقّق، والتي لا بدّ من أن تواكب بوحدة وطنية تؤمّن الاستقرار الداخلي لهذا البلد، استعداداً لمرحلة ما بعد داعش، ليعود العراق قوياً موحداً متضامناً.
المكتب الإعلامي لسماحة العلامة السيد علي فضل الله
التاريخ: 24جمادى الأولى 1438هـ الموافق: 24 شباط 2017م