العلامة فضل الله في ذكرى المولد النبوي: حفزوا الأمة لترفع الصوت بوجه كل الجهات بأن تتقي الله في مواقفها وخطاباتها

علينا أن نعيش الشخصية الإسلامية قبل أن نعيش الشخصية المذهبية؟!
على العلماء أن يسعوا إلى الاقتداء برسول الله ليكونوا فعلاً القدوة للناس..

علينا أن نعيش الشخصية الإسلامية قبل أن نعيش الشخصية المذهبية؟!
على العلماء أن يسعوا إلى الاقتداء برسول الله ليكونوا فعلاً القدوة للناس..

 

خاص – «اللــــواء الإسلامي»: 

أسئلة كثيرة يطرحها المسلم في أيامنا هذه التي يحتفل بها المؤمنون بذكرى المولد النبوي الشريف، وهي أسئلة تعبر في حقيقتها عن أبعاد فكرية ونفسية وانتمائية لا بد على أهل العلم والمسؤولين أن يسعوا للرد عليها و التأمل في فحواها.
ولعل أبرز الأسئلة ما تردده ألسنة الجميع… أين نحن بأخلاقنا وسلوكياتنا وأفعالنا مما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم؟!
وإذا كنا فعلا أتباع وأحباب محمد صلى الله عليه وسلم.. فلماذا تفرقنا واختصمنا وساد بيننا كل خلق منبوذ؟!
ثم وهذا الأهم..ألسنا جميعا نتفق على حب محمد صلى الله عليه وسلم؟ فكيف يلتقي إذن هذا الاتفاق في قلوبنا مع تلك المشاعر البغيضة التي جعلتنا أعداء متقاتلين متخاصمين ومتنافرين؟!
أسئلة كثيرة تطرح وتحتاج إلى صاحب علم ورأي رشيد ليجيب عليها ويفصّل أبعادها ويشرح أسبابها…
ولذا كان هذا الحوار مع سماحة السيد علي فضل الله…

حبه يوحدنا

ـ ذكرى المولد النبوي ذكرى لتوحيد المسلمين، فكيف يمكن لنا تحقيق هذا الأمر في ظلِّ انقسام عمودي يضرب أرجاء الوطن كله؟

ـ تمثّل ذكرى المولد النبوي الشريف محطة من المحطات التي يمكن أن تساهم في توحيد المسلمين، وتعميق روح الأخوة فيما بينهم، فشخصية الرسول الأكرم صلى الله عليه وسلم هي الشخصية الأشدّ حضوراً في الواقع الإسلامي كله، فهي الحاضرة في صلواتنا وتضرعاتنا إلى الله، وهي القيادة التي نستمد منها شرعية الحركة والحكم والفتيا وما إلى ذلك.
وإذا كان القرآن الكريم قد قدّم لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في قيمه العالية والسامية كنموذج للمسلمين وللبشرية في خلقه العظيم وتواضعه الجّم: «وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ»، وفي حنوه وعطفه على المؤمنين: «عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ»… فمن الطبيعي أن يؤكد على المسلمين جميعاً الالتزام بتعاليمه في العمل على أساس الأمة الواحدة الرافضة للتنازع: {وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ}.
ولكننا عندما نرصد المشهد الإسلامي العام، وخصوصاً في هذه الأيام، نرى أن المسلمين تفرقوا وتشتتوا، فأصبحوا جماعات بدلاً من أن يكونوا أمة واحدة، وبات كل فريق يقدم نفسه على أساس أنه هو الذي يمثل الإسلام الخالص النقي، ليستبعد الآخرين في عملية إلغاء وإقصاء بعيدة عن مقاصد الإسلام وأهدافه السامية، وبعيدة عن روح الحوار والوحدة التي أرادها الرسول الأكرم(ص) حيث أكد عليها الله تعالى في قوله: { إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ}.
ورغم ذلك، علينا ألا نجمد أمام ما نراه من انقسامات تضرب المواقع الإسلامي، بل أن تكون حافزاً للمسلمين جميعاً، وخصوصاً للفئات الطليعية منهم، لكي يحملوا لواء الوحدة ويرفضوا كل هذه التمزقات… ونحن نعرف أن المسلمين على مختلف طوائفهم ومذاهبهم، توحيديون في العمق، وليسوا أصحاب فرقة، وأن الأصوات الداعية إلى الانقسام لا أصالة حقيقية لها في الواقع الإسلامي، وإن ظهرت المسألة بطريقة معاكسة، حيث ترتفع أصوات الذين يخوّفون هذا الفريق من ذاك أو العكس، وتبقى أصوات الوحدويين خافتة ومنخفضة.
ولذلك، أعتقد أن علينا جميعاً العمل لتحفيز الفئة الكبيرة من الأمة، لكي ترفع صوتها مطالبة كل الفئات وكل الجهات الدينية والسياسية بأن تتقي الله في مواقفها وخطاباتها، وتعود إلى رحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وتعاليمه وسننه، فنلتقي على محبته ونتّحد في خطه ومنهجه، ليكون مولده الشريف منارةً لما نستقبله من تطورات وما يواجهنا من تحديات.

تغليب الشخصية الإسلامية على المذهبية

ـ من الواضح أنَّ المذهبيَّة حلَّت مكان الأخوة الإسلاميَّة التي تجمع، ففرقت الناس، فما السبب؟ وكيف نتخلص من هذه الآفة؟

ـ لقد كانت المذهبية العلمية عنصر إغناء في الوسط الإسلامي، عندما كان أتباع هذا المذهب ينطلقون في حوار علمي مع أتباع المذهب الآخر، وعندما كانت مدارسُ المسلمين تتقارب وتتواصل في عملية بحث علمي إسلامي، يهدف إلى الارتفاع والارتقاء، من خلال ما يقدمه هذا النموذج الإسلامي أو ذاك.
ولكننا في هذه الأيام، وفيما سبق من بعض التجارب السلبية، نرى أن المشكلة تتمثل في المذهبية التي تنحو المنحى العصبي، على الطريقة العشائرية، وبعيداً عن الأجواء العلمية، أو تلك التي تتنفّس في الجو السياسي المعقّد والمناخ العنيف، والتي يرافقها خطاب انفعالي متشنج، يعمل على إخراج المسلمين أو فريق منهم من دائرة الإسلام ومن رحاب الدين الحنيف.
ومن أقصر الطرق لمعالجة هذه الظاهرة، العمل في البداية على تهذيب الخطاب الإسلامي، نزولاً عند ما يطلبه القرآن الكريم: {وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}، فالقرآن أمرنا بقول الكلمة الأحسن، وليس الحسنى فقط، بل انتقاء أفضل الكلمات في مخاطبة الآخرين، فكيف إذا كان هذا الخطاب موجهاً ومتحركاً في النطاق الإسلامي؟!
وعلينا أيضاً أن نعيش الشخصية الإسلامية كدعاة للإسلام على مستوى العالم كله، قبل أن نعيش الشخصية المذهبية في نطاق المذاهب والفئات والأحزاب وما إلى ذلك، وأن نسعى لإيجاد قواعد وحدوية منفتحة في كل الساحات، تتحرك وفق هموم المسلمين، لا على أساس مصلحة هذا الفريق أو ذاك، وأن نظل نثير أمام كل الطائفيين والمذهبيين قضايا المسلمين الكبرى، كقضية فلسطين، والتحديات التي تواجه حركة الإسلام في العالم، ومحاولات تشويه الدين الحنيف، حيث تنطلق القوى المعادية لتواجه الإسلام كله في عقيدته وشريعته وفي القرآن وفي الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا تسأل عن مذهب هنا ومذهب هناك، فعندما نستطيع أن نعيش في هذه الأجواء، وأن نثيرها في الفكر والثقافة والحركة على مستوى الواقع وفي الإعلام، نكون قد خطونا خطوات عملية في مواجهة المذهبيين المعقّدين، حتى وإن لم تكن هذه المواجهة مباشرة.

أين النموذج؟!

ـ نرى كثيراً من المسلمين تركوا سنة النبي في أعمالهم، واتخذوها شعاراً لخدمة أهدافهم فقط، فكيف نعيد السنة النبوية إلى سلوك المسلمين وأخلاقهم؟ وما هي أدوار العلماء في تحقيق هذا الأمر؟

ـ لعلَّ المشكلة في ابتعاد المسلمين في حركتهم ونشاطهم وتطبيقاتهم العملية عن سنة الرسول الأكرمصلى الله عليه وسلم، تعود في بعض تجلياتها إلى افتقادنا للنموذج، وأعني بذلك النموذج الذي يعمل على تجسيد سنة الرسول صلى الله عليه وسلم في الناس، ليعملوا على تقليده والسير في الخط نفسه، بعيداً عن المتاهات التي أنتجتها هذه الفئة أو تلك.
والقرآن الكريم عندما قدّم لنا الرسول الأكرم صلى الله عليه وسلم كنموذج لكي نقتدي به: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ}، قدمه وهو في قمة التواضع، وفي أعلى مستويات الصبر، حيث كان يجوع مع الجائعين، ويحرص على الدفاع عن كل المظلومين، ويصبر نفسه مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه، ويرقّ ويلين مع المؤمنين العالمين {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ}، وينفتح على كل الناس، ويحمل همومهم ومشاكلهم، ويعمل على حلها…
ومن هنا، نعتقد بأن على العلماء الذين يقدمون أنفسهم للناس في موقع القيادة، أو ينظر إليهم الناس على هذا الأساس، أن يسعوا إلى الاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم ليكون القدوة لهم في كل مواقفهم، وفي سلوكياتهم، وفي حركتهم بين الناس، وأن يتألموا مع المتألمين، وأن يحزنوا مع الحزانى، وأن يصبروا مع الصابرين، وأن يكونوا نموذجاً وقدوةً في التعاطي فيما بينهم، ليعيشوا الوحدة بعيداً عن كل تعصب مقيت، وليعيش الرسول صلى الله عليه وسلم في وعيهم، من خلال الإسلام الصافي النقي الذي أراده أن يعمّ الدنيا، لا أن يحبسوا الإسلام في حدود طموحاتهم الذاتية أو العصبية. وعند ذلك، يتقدم الإسلام ويتقدم المسلمون ليكونوا خير أمة أخرجت للناس، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر.

كان قرآنا يمشي
ـ ختاماً، ما هي كلمتكم لكل مسلم في هذه المناسبة؟

ـ إنني وفي هذه المناسبة العزيزة على كل مسلم ومسلمة، وبعيداً عن كل العناوين المذهبية، أتوجه إلى كل من يحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وكل من يتطلع إلى أن يكون في رحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجنّة، لأقول له: إن الرسول الأكرم صلى الله عليه وسلم بلغ ما بلغه بصبره وثباته وبأخلاقه، وبتجسيده للقرآن الكريم، حيث كان قرآناً متحركاً في كل دروب الحياة، فعندما طلب من إحدى زوجاته أن تصفه، لخصّت شخصيته السامية بكلمة مختصرة قائلة: «كان خُلُقه القرآن».
فمن أراد أن يتمثل رسول الله صلى الله عليه وسلم، عليه أن يعيش في رحاب القرآن، فالرسول صلى الله عليه وسلم حيٌ فينا من خلال هذا القرآن، وهو حيٌ من خلال الآيات التي تجسّد الإسلام كقيمة رسالية كبرى في البشرية كلها، وهو حيٌ في كل هذه القيم التي أراد الله لها أن تكون ناظمة للناس جميعاً، فكلما اقتربنا من هذه القيم اقتربنا من  رسول اللهصلى الله عليه وسلم،  وفي أعلاها وأرفعها قيمة الرحمة للناس، فالرسول هو رحمة مهداة، وعلى من يتبّعه أن يكون رحيماً بالناس، أن يرحم ظروفهم وأوضاعهم، أن يحاورهم قبل أن يحكم عليهم، أن يقترب من البعيدين، وألا يباعد الأقربين، أن يحنوا على الناس وينفتح عليهم. وعندها، يلتقي بالرسول(ص)، فالرسول حيث الرحمة والمحبة، لا حيث البغضاء والحسد والتباعد.  

المصدر: جريدة اللواء

الجمعة,10 كانون الثاني 2014 الموافق 9 ربيع الأول 1435 هـ

 

Leave A Reply