أنواع الحساب يوم القيامة
ألقى سماحة العلامة السيّد علي فضل الله، خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عددٍ من الشخصيّات العلمائيّة والسياسيّة والاجتماعيّة، وحشدٍ من المؤمنين، ومما جاء في خطبتيه:
الخطبة الأولى
{أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ *الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلاَ يَنقُضُونَ الْمِيثَاقَ * وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ}.
لقد أثنى الله سبحانه وتعالى على أناس وصفهم بأولوا الألباب لكونهم يخافون سوء الحساب.. ولذا يبذلون جهودهم ويعملون حتى يكون حسابهم يسيراً.
وقد حدد رسول الله(ص) ثلاث خصال تجعل الحساب يوم القيامة يسيرا: "ثلاث من كنَّ فيه حاسبه اللّه حساباً يسيراً، وأدخله الجنَّة برحمته، قالوا: وما هي يا رسول الله؟ قال صلى الله عليه وآله وسلم: تعطي من حرمك وتصل من قطعك، وتعفو عمن ظلمك".
وفي الحديث: "حسّن خلقك يخفف الله حسابك".
وفي حديث آخر: "بعث الله المؤمن من قبره خرج معه مثال يقدمه أمامه، فكلما رأى المؤمن هولاً من أهوال يوم القيامة قال له المثال: لا تجزع ولا تحزن، وأبشر بالسرور والكرامة من الله عزّ وجلّ.. فما يزال يبشّره بالسرور والكرامة من الله سبحانه، حتى يقف بين يدي الله عزّ وجلّ، ويحاسبه حساباً يسيراً ويأمر به إلى الجنّة والمثال أمامه، فيقول له المؤمن: رحمك الله نِعْمَ الخارج معي من قبري!.. مازلت تبشّرني بالسرور والكرامة من الله عزّ وجلّ حتى كان، مَن أنت؟.. فيقول له المثال: أنا السرور الذي أدخلته على أخيك المؤمن في الدنيا، خلقني الله لأُبشرك".
والمقصود بالحساب اليسير هم الذين تعرض عليهم ذنوبهم وتبين لهم من دون أن يطالبوا بالاعتذار والحجة فيما قاموا به.. وهؤلاء هم الذين تحدث الله عنهم فقال: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ * فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً * وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُوراً}.
أما حساب أولئك الناس الذين عاشوا اللامبالاة والجحود بالله ونعمه، لذا تجاوزوا حدوده وظلموا عباده وعاشوا الحياة للهوها وعبثها، من دون أن يتحسبوا للإنذارات الإلهية المتكررة عن اقتراب يوم الحساب، حيث يقول سبحانه: {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُّعْرِضُونَ مَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مَّن رَّبِّهِم مُّحْدَثٍ إِلاَّ اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ}.
في يوم الحساب سيعرف هؤلاء المجرمين كم أساءوا إلى أنفسهم وإلى الناس وسيفاجئون بأن الله أحصى عليهم كل ما عملوا عندما يقدم إليهم كتاب أعمالهم والذي على أساسه سيحاسبون، حيث تراهم في أسوأ أحوالهم، كما يقول تعالى: {وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً}.
وهؤلاء لن يخفف عنهم وسيحاسبون حساباً عسيراً فيدقق عليهم الحساب ويلامون ويؤنبون على ذنوبهم ويقفون موقف الذل والاستكانة وهم الذين تحدث الله عنهم عندما قال: {لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ}. {فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ* فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ* عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ}
أيها الأحبة:
يتبادر الى ذهن الكثيرين لأول وهلة أن العباد ينقسمون في الحساب إلى فئتين منهم من يحاسب حساباُ يسيراً ومنهم من يحاسب حساباً عسيراً.. ولكن يحدثنا القرآن عن فئة من الناس لا يخضعوا للحساب أصلاً..لا يعيشون رهبة الموقف ولا مشقة الانتظار لمعرفة المصير ولا يتوقفون أصلا بل يمرون مباشرة بدون أي عقبات أو حواجز.. من هم أولئك الذين يحظون بشرف المرور دون حساب.. ولا يحتاجون لشفاعة الشفعاء.. ما يشفع لهم هو أعمال قاموا بها وتميزوا من خلالها وصاروا أهلا لها. وهنا بعضها:
جاء عن رسول الله(ص) "إذا نشرت الدواوين ونصبت الموازين لم ينصب لأهل البلاء ميزان ولم ينشر لهم ديوان".. ثم تلا الآية الكريمة: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ}.
وهم أهل الصبر الذي يتحدث رسول الله(ص) عنهم: "إذا كان يوم القيامة جمع اللّه الخلائق في صعيد واحد ونادى مناد من عند اللّه يسمع آخرهم كما يسمع أوّلهم، يقول: أين أهل الصبر؟ قال: فيقوم عنق من الناس فتستقبلهم زمرة من الملائكة فيقولون لهم: ما كان صبركم هذا الذي صبرتم؟ فيقولون: صبرنا أنفسنا على طاعة اللّه، وصبرناها عن معصيته، قال: فينادي مناد من عند اللّه: صدق عبادي خلّوا سبيلهم ليدخلوا الجنة بغير حساب".
ومنهم أهل الفضل، ففي الحديث الشريف:" ينادي مناد فيقول: أين أهل الفضل؟ فيقوم عنق من الناس فتستقبلهم الملائكة، فيقولون: ما فضلكم هذا الذي ترديتم به؟ فيقولون: كنا يجهل علينا في الدنيا فنحتمل، ويساء إلينا فنعفو، قال: فينادي مناد من عند اللّه تعالى صدق عبادي، خلّوا سبيلهم ليدخلوا الجنة بغير حساب".
ومنهم أهل الحياء والقناعة حيث قال رسول الله(ص): "إذا كان يوم القيامة، أنبت الله لطائفة من أمتي أجنحة، فيطيرون من قبورهم إلى الجنان، يسرحون فيها، يتنعمون فيها كيف شاؤوا، فتقول لهم الملائكة: هل رأيتم الحساب؟ فيقولون: ما رأينا حساباً، فتقول لهم: هل جزتم الصراط؟ فيقولون: ما رأينا صراطاً.. فيقولون: خصلتان كانتا فينا، فبلغنا الله هذه المنزلة بفضل رحمته، فيقولون: وما هما؟ فيقولون: كنا إذا خلونا نستحيي أن نعصيه، ونرضى باليسير مما قسم لنا".
ومنهم أهل الذكر والانفاق ففي الحديث: "يخسر الناس في صعيد واحد فينادي مناد فيقول: أين الذين كانت {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ}.. ثم ينادي أين الذين لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وهم قليل فيدخلون الجنة بغير حساب..
قال(صلى الله عليه وآله ): "ينادي مناد من الله عزوجل..: أين جيران الله (جل جلاله) في داره؟ فيقوم عنق من الناس فتستقبلهم زمرة من الملائكة فيقولون لهم: ما كان عملكم في دار الدنيا فصرتم به اليوم جيران الله تعالى في داره؟ فيقولون: كنا نتحاب في الله (عزوجل)، ونتباذل في الله، ونتوازر في الله".
قال(ص): "فينادي مناد من عند الله تعالى: صدق عبادي خلوا سبيلهم لينطلقوا إلى جوار الله في الجنة بغير حساب".
والجامع المشترك بين كل هؤلاء الذين ندعو الله أن نكون منهم هو القلب السليم {..إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} بهذا القلب نقف بين يدي الله به، لا بما ملكنا في الدنيا أو بموقعنا أو بجماعتنا أو بقصورنا وسلطاننا ولا حتى بكثرة عباداتنا: حجنا وصلاتنا وصيامنا على أهميتها ولكنها لا تُراد لذاتها إنما بمقدار ما تحيي قلب الإنسان وتملؤه حباً لله وخشية منه ومن حب الله حب عباده كل عباده، حباً لا يعرف حقداً ولا غلاً ولا بغضاء..
نعم قلباً سليماً من كل رياء ونفاق وتذبذب، قلباً لم يتلوث بحب الدنيا والمال قلبا لم تتحكم به الغرائز والعصبيات والأطماع.. قلباً حقيقياً أصيلاً لا تغره المظاهر ولا الجواهر ولا الإعلام ولا الشهرة.. قلباً نضفي على الحياة طهراً وصفاء ونقاء.
أيها الأحبة:
كل واحد في هذه الدنيا مشغول بمعاشه وأمور حياته وسلامة بدنه ولا بد في موازاة كل هذا أن ينشغل بتنظيف هذا القلب للتهيؤ لهذا اليوم الذي يقف فيه الناس جميعاً لرب العالمين، {يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا} {يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} حيث ينظر الله هناك وقبل كل شيء إلى القلوب قبل أن يتطلع إلى الصور أو يسمع الحجج والأعذار.. هو يريدها أن تكون طاهرة نقية صافية.. بأيدينا تقرير أمر حسابنا، وتقرير مصيرنا الأبدي والله هو المستعان على سلوك هذا الطريق:
أيها الأحبة: هذا الشهر المبارك لمن أراده رسول الله أن يكون مناسبة لتذكر يوم القيامة عندما قال: "واذكروا بجوعكم وعطشكم جوع يوم القيامة وعطشه،".. وهو فرصة لبلوغنا ذلك حتى نكون من أولئك الذين قال الله عنهم: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ}.
الخطبة الثانية
عباد الله، أوصيكم وأوصي نفسي بوصيّة رسول الله(ص) لأبي ذر، عندما قال له: "يا أبا ذر، حاسب نفسك، فهو أهون لحسابك غداً"، فالسّبيل لتيسير الحساب بين يدي الله عزّ وجل وتهوينه، هو أن يجري الإنسان مراجعة لنفسه، وأن يدقّق عليها الحساب، فلا يكون العبد مؤمناً حتى يحاسب نفسه أشدّ من محاسبة الشّريك لشريكه، والسيّد لعبده، بأن يطالبها بتقصيرها وعدم أدائها لواجباتها ومسؤوليّاتها تجاه الله وتجاه الناس، فإن أحسنت حمد الله تعالى واستزاد، وإن أساءت دعاها إلى أن تستغفر ربّها وتصلح أمرها.