توأمة الخير والعبادة

ألقى سماحة العلامة السيد علي فضل الله ، خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عددٍ من الشخصيّات العلمائيّة والسياسيّة والاجتماعيّة، وحشدٍ من المؤمنين، ومما جاء في خطبتيه:

 

الخطبة الأولى

 

قال الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}.

صدق الله العظيم

في هذه الآية القرآنية الكريمة يريد الله سبحانه وتعالى أن يؤكد لنا على توأمة الخير والعبادة، لا يمكن للإنسان أن يكون عابداً لله، أن يكون مطيعاً لله، إلا وأن يكون خيراً في حياته للآخرين، أن يكون خيراً في أي موقع يتواجد فيه، علامة إيمانه علامة عبادته فعل الخير، ولذلك نجد أن الله سبحانه وتعالى عندما تحدث عن المؤمن قال: {الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ}.. هؤلاء عندما يتحركون في الحياة، تراهم يعبدون الله، يصلون لله ولكن هؤلاء يعملون في الحياة ليكونوا خيراً للآخرين، ولهذا يقيمون الصلاة ومما رزقناهم من مال ومن علم ومن طاقات ينفقون..

 

وهكذا إذا بلغ الإنسان القمة في العبادة إذا أصبح في أعلى مظاهر العبادة، كيف يتجلى مظهر عبادته لله سبحانه وتعالى، مظهر عبادته لله هو أن يكون ساعياً في حوائج الناس، أن يمشي في حوائج الناس، بحيث يسعى في أمورهم في شؤونهم، في قضاياهم، ولهذا أن تعبد الله سبحانه وتعالى، أن تتمثل الله في حياتك، أن تتمثله في كل صفاته في هذه الحياة.. نرى أن شمسه هي تشرق علينا في كل يوم وبدون حساب، مطره ينزل علينا في كل يوم أيضاً بدون حساب، لا ينتظر منا شيئاً.. والكون يضج بعطاءاته التي تملأ حياتنا، هذا كله بدون حساب.. الله هكذا يتعامل معنا حتى لو عصيناه حتى لو أسأنا إليه..

ولهذا الدعاء الذي دائماً ندعو به: "تنزل علينا بالنعم ونعارضك بالذنوب خيرك إلينا نازل وشرنا إليك صاعد ولم يزل ولا يزال ملك كريم يأتيك عنا بعمل قبيح فلا يمنعك ذلك من أن تحوطنا بنعمك وتتفضل علينا بالنعم فسبحانك ما أعظمك وأحلمك وأكرمك….".. هذا هو ربنا كم نسيء إليه في الحياة، نعصيه، نجاهره بالعداوة، وكل ذلك نقوم به ومع ذلك نراه في علاقاته معنا يرحمنا، في علاقته معنا يسترنا، يتجاوز عن كل ما نقوم به، ولهذا الذين يعبدون الله سبحانه وتعالى، الذين يخضعون لإرادته، هم يعيشون الخير للناس، حيث يتواجدون وفي أي موقع.. هذه هي إرادته..

 

ولهذا الإنسان إذا لم يكن خيراً للحياة، لا يمكن أن يكون مؤمناً.. على هذا الأساس اعتبر الله سبحانه وتعالى أن العلاقة به مرهونة بهذه الصورة "الخلق عيال الله فأحب الخلق إلى الله من نفع عيال الله وأدخل على أهل بيتٍ سروراً".. يعني كل الخلق، لم يميز الله سبحانه وتعالى بين خلق وخلق وبين ناس وناس، تحدث عن الخلق كلهم..

 

ولذلك أن تكون خيراً أن تكون خيراً مع كل الناس، لا خيراً للمسلمين فحسب.. خيراً لغير المسلمين.. كما للمؤمنين خيراً يكون خيراً لغير المؤمنين، أن تكون خيراً أينما تواجدت وفي أي موقع تواجدت فيه في الحياة.. الخلق عيال الله فأحب الخلق إلى الله من نفع عيال الله وأدخل على أهل بيتٍ سروراً".. أهل بيت في حزن.. في حاجة.. لا بد أن تعمل لتخفف عنهم وتسد حاجتهم لتدخل السرور إلى قلوبهم..

 

وهذه هي الصورة التي عنون الله سبحانه وتعالى بها رسوله(ص) عندما تحدث عن رسوله، تحدث عن هذا الخير الدافق من قلب رسول الله {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ}.. هذا هو رسول الله عزيز عليه ما تعانون.. لا يمر على آلامكم أو على مشاكلكم أو همومكم.. لا يمر مرور الكرام.. بحيث لا يترك ذلك أثراً في حياته، إنما آلامكم تترك أثراً في قلبه، رد على هذه الآلام من خلال الخير الذي أعطاه للناس في الحياة، وهذا ما ينبغي دائماً أن نكون..

وهكذا عندما تحدث الله سبحانه وتعالى عن أهل بيت رسول الله(ص)، تحدث عنهم بهذه الصورة {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُوراً}..

 

هؤلاء عندما يتعاملون مع الناس يطعمون الناس ليس في الحالات العادية، حيث الأمور ميسرة أمامهم بل في غير الحالات العادية.. وهذه الصورة هي التي عبرت عنها السيدة الزهراء(ع)، في القيمة التي عاشتها في حياتها وعبرت عنها.. كانت تقف بين يدي الله سبحانه وتعالى كانت تعيش هذه الآلام لتدعو الله أن يشفي الناس منها..

 

عندما ولدها الإمام الحسن(ع) رآها وهي في محرابها تصلي لله سبحانه وتعالى، في ذلك الوقت كانت تدعو للناس جميعاً للمؤمنين للمؤمنات، في أي مكان كانوا، وقال لها في ذلك الوقت يا أماه لمن تدعين وأنت أحوج ما تكونين إلى الدعاء؟.. قالت له يا بني: "الجار قبل الدار".. أن نهتم بالآخر ثم بعد ذلك نهتم بأنفسنا، الأساس أن نفكر بالآخرين، وهذا هو الذي يرفع موقعك في حسابات الله، الإنسان الذي ينتمي إلى هذا الخط ليست حساباته أنانية، الله يمقت الأنانيين.. أي أنا أفكر بحالي بأموري والناس تدبر حالها، يجب أن أفكر بأمور الناس، بعد ذلك أفكر بأموري، ليس معناه أن الواحد لا يفكر بأموره وإنما يفكر مع ذلك بأمور الناس في الحياة..

 

وهذه الصورة التي على أساسها يدخل الإنسان الجنة، ولهذا عندما جاء رجلاً إلى رسول الله(ص) قال له: دلني على عمل إن أنا عملته دخلت الجنة ــ دلني على عمل أريد به أن أصل الجنة وأبلغها، طبعاً عادة عندما يأتي أحد إلينا نقول له صلِ وصم وأدِ العبادات واذهب إلى الحج والزيارات.. ودائماً احرص على ذلك، عادة هكذا.. هذه أمور طبعاً تقطع بنا مسافة مهمة نحو الجنة، ولكنها لا تكفي، إذا لم نقرن ذلك بعمل خيرٍ نقوم به يترك أثراً في حياتنا وفي واقعنا، وإلا فإننا لا نصل إلى الجنة..

 

ولهذا النبي(ص) الذي كان يعرف أن هذا الشخص يصلي ويصوم ويحج لفته إلى أمر مهم والذي نحن أحياناً لا نلتفت إليه، قال له في ذلك الوقت: "أنل مما أنالك الله" ــ الله أعطاك مال أو أعطاك علم أو أعطاك سلطة أو موقع أو أن الله سبحانه وتعالى أعطاك قدرة لسان أو علاقات اجتماعية أو غير ذلك من كل الأمور التي الله سبحانه وتعالى يعطيها لعباده.. هذه الأمور التي الله يعطيك إياها هي ليست لحسابك أنت فقط، هي لحسابات الناس، مسؤوليتك أن تؤديها إليهم "إن الله لم ينعم على عبد نعمة إلا وقد ألزمه فيها الحجة من الله".. هذه النعم سيحتج الله بها عليك وسيسألك كيف صرفت ما أعطينك من نعم وطاقات، لماذا لم تعطي المحتاج، لماذا لم تعطِ هذا أو ذاك، لماذا لم تكن خيراً، لماذا؟؟ "أنل مما أنالك الله..".. رد الرجل: فإن كنت أحوج ممن أنيله؟ ــ أنا ليس لدي قدرة حتى أعطي، أنا أحوج ممن أريد أن أعطي، أنت تقول لي أعطي وأنا لا أقدر أن أعطي، ألا يوجد باب أو طريق آخر للوصول إلى الجنة، قال له(ص) بلى يوجد، المهم أن تفعل شيئاً.. قال(ص): "فانصر المظلوم" ــ هناك مظلومون في الحياة، تؤخذ حقوقهم، يساء إليهم، مفروض منك أن تقف مع هؤلاء المظلومين أن تكون حريصاً على أن لا يظلموا وأنت موجود.. يجب أن يكون لك موقف، يجب أن يشعر هذا الإنسان المظلوم بأن هناك من يقف معه، من يسنده في رفع ظلمه.. لا بد أن تكون ناصراً للمظلومين..

 

الإمام زين العابدين(ع) يقول: "اللهم إني اعتذر إليك من مظلوم ظلم بحضرتي فلم أنصره".. أنا أعتذر.. لأن مظلوماً ظٌلم بحضرتي وأنا لم أنصره..

 

الإنسان واجبه أن ينصر المظلومين أينما يكونون، ليس فقط ببلدي.. بمحيطي، طبعاً الأقربون أولى بالمعروف، لكن أي ظلم يحصل في الحياة نحن مسؤولون عن رفعه.. نحن عادة نرى ظلم يحصل لشعوبٍ.. لأممٍ وظلم قد يلحق بالمسلمين وبغير المسلمين، المفروض أن أقف مع المظلومين ولو بالكلمة.. بأي طريقة.. بموقف أتخذه، أن أبين للناس الظلامة التي تعرضوا لها، أحرص على أن أخفف عن المظلومين إذا لم أقدر أن أحل لهم مشكلتهم، أخفف عنهم، المهم أن أنصر المظلوم..

 

قال الرجل لرسول الله "وإن كنت أضعف ممن أنصره؟" لا أستطيع أن أدخل في المشاكل مع الناس الذين يظلمون، هؤلاء ناس أقوياء، هؤلاء ناس عندهم قدرات، ولا أستطيع أن أواجه هؤلاء الناس، يا رسول الله أعفيني من هذا الأمر ولكن لا أريد أن أخسر الجنة، أريدك أن تدلني على عمل آخر يساعدني على الدخول إلى الجنة، قال له(ص) "فاصنع للأخرق".. يعني أشر عليه، هناك في الحياة من الناس ممن لا يوجد عندهم قدرات أو إمكانات في الحياة، جاهلين لا يعرفون كيف يديروا أمورهم، يديروا حياتهم، "فاصنع للأخرق" ــ احرص على أن تصنع لهؤلاء ما يمكن أن يرفع من مستواهم.. كن معهم، في ناس يستغبون هؤلاء فساعدهم.. قال له: فإن كنت أخرق ممن أصنع له؟ ــ أنا أيضاً عندي مشكلة، أنا ليس عندي قدرة، لا أعرف أدير حياتي أو أموري..

 

وكاد هذا الشخص أن يصل إلى قناعة بأن ليس له حظ في الدخول إلى الجنة، فقال ماذا أفعل.. فهل انقطعت كل السبل.. قال له(ص) بلى لك حظ: "أمسك لسانك إلا من خير"..هذا اللسان لا تحركه إلا بالخير.. يعني أينما تكون، أي جلسة تكون فيها، إذا كان هناك إثارات وتوترات، هناك من يسعى للفتنة لا تحرك لسانك لأجل الفتنة، لا تحرك لسانك بالغيبة، لا تحرك لسانك بالنميمة، لا تحرك الناس بإثارة قلوبهم على بعضها البعض..

 

أيها الأحبة:

إنّ هذا اللسان له دور حدده الله سبحانه وتعالى، حتى لا نحرك ألسنتنا كيفما كان ومن دون أية ضوابط، لا بد أن يتحرك ضمن الحدود {لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ}.. لا تطلق الكلام على عواهنه.. بل اجعله يتحرك في هذه الحدود.. حرك لسانك في أمور الخير.. أن تأمر الناس بصدقة، الناس أحياناً تشل فيهم إرادة الخير، فشجع أنت الناس على الخير وأنت شريك به.. أن تأمر بمعروف.. أن ترشد الناس إلى حكم شرعي أو فكرة صائبة تنبههم إلى قضية مهمة لها دور في مصيرهم.. اعمل ليكونوا أكثر وعياً للجانب السياسي، للجانب الاجتماعي، للجانب الثقافي، ما أكثر ما نحتاجه، أو إصلاحٍ بين الناس، لذلك يجب أن تكون الحياة على هذا الأساس.. طريق الجنة هو هذا، أن تكون خيراً..

 

ولهذا الواحد لا يجب أن يقول أنا مؤمن وقد أديت كل واجباتي.. إذا لم تقم بأي شيء فيه خير للحياة.. بأن تترك أثراً طيباً في من حولك، تترك خيراً في حياة الآخرين على مستوى الفكر والسياسة والاجتماع وعلى مستوى قضايا الناس، إذا أنت لم تترك أثراً يجب عليك أن تعيد النظر بإيمانك، وهذا يعني أن هنالك مشكلة..

 

الله يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ} وافعلوا الخير.. الخير والإيمان توأمان، الخير والعبادة لا يمكن أن ينفصلا.. وهكذا عندما جاء رجل إلى رسول الله(ص)، قال له يا رسول الله: دلني على عمل إن أنا عملته دخلت الجنة، وكان هذا الرجل يعمل في السقاية، أي يسقي الناس التي تحتاج إلى ماء، وفي ذلك الوقت كان عمله مهم.. قال لرسول الله أريد أن أدخل الجنة، قال له الرسول(ص) طريقك من هذا الباب.. كان هناك خرق في أداة السقاية، فلم يعد يصلح، قال له اشتري واحداً، لن تخرقه حتى تدخل الجنة.. يعني قبل أن تصل أداة السقاية إلى مرحلة الخرق تستطيع أن تضمن أنك وصلت إلى الجنة.. 

 

وكذلك عندما جاء رجلاً إلى رسول الله(ص) قال له دلني على عمل إن أنا عملته دخلت الجنة، فحدد له(ص) طريقاً من ثلاثة، الأول الإنفاق، يعني أن تنفق حتى لو لم يكن عندك ما تنفق، أنفق ولو بشيء بسيط تقدر عليه.. أو الثاني وهو البشر لجميع الناس.. اجعل بسمتك تملأ الحياة، دائماً يكون وجهك بشوشاً أمام الناس، لأن الناس مغمومين بهذه الحياة، الناس عندهم آلام.. على الأقل إذا لم تستطع أن تخفف من همومهم، فاحرص على هذه البسمة…

 أو الثالث وهو الإنصاف من نفسك، أنت تحب أن يفعل الناس معك الخير.. تحب الناس أن تسامحك أن تتجاوز عنك.. أحب إلى الناس ما تحب لنفسك.. افعل الخير معهم.. سامحهم.. اغفر لهم.. دائماً اجعل مقياسك نفسك.. الذي تحبه لنفسك أحبه للناس.. والذي تكره لنفسك أكرهه كذلك للناس..

 

وهكذا الآية القرآنية أشارت إلى هذا الجانب: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}.. في كل الحالات، هذه هي طرق الجنة..

 

وكذلك الجانب الذي أشار إليه النبي(ص) أيضاً عندما قال: "أكثر ما تلج به أمّتي الجنّة تقوى الله وحسن الخلق".. أن تكون أخلاقك جيدة مع الناس.. أن تكون حريصاً على أن تعطي من حرمك، وتصل من قطعك، وتعفو عمّن ظلمك.. هكذا تكون أخلاقك بالحياة أن تتجاوز في مواقع التجاوز طبعاً ليس في كل الحالات، لأنه في مرات الواحد لا بد أن يأخذ بحقه وينتصر له.. "وأما حق من ساءك فأن تعفو عنه، فإن رأيت أن العفو عنه يضره انتصرت"، لكن العفو هو المبدأ..

 

لهذا نحن بحاجة إلى أن نقدم الدين بهذه الصورة.. هذه هي صورة الدين، صورة الدين هي أن تكون خيراً حيث تتواجد، لأن نظرتنا إلى الدين أصبحت نظرة فقط ترتكز على مقدار ما يصلي الواحد منا أو يصوم أو يحج، وبذلك يعتبر نفسه قد وفَّى، وأصبح يمسك بمفاتيح الجنة، تريد أن تمسك بمفاتيح الجنة يجب أن ترى ماذا تركت أثراً في نفوس الناس، دائماً فكر ماذا تركت من أثر طيب، هل تركت أثراً طيباً في عائلتك، فجعلتها النموذج التي أرادها الله سبحانه وتعالى أن تبنى العائلة على أساسه.. هل تركت خيراً.. إصلاحاً.. قوة.. علماً في المجتمع الذي تعيش فيه..

 

إذا لم تترك أثراً خيراً في الحياة فلا تطمئن أنك في الجنة ولو قمت بالعبادات.. الكثير من الناس يكتفون في تقييم الأشخاص لا سيما في المواقع السياسية على أساس ما يقال عن هذا أو ذاك بأنه إسلامي.. هو يصلي ويصوم.. هذا لا يكفي.. ليكن التقييم على أساس ما يترك من أثر إيجابي من خلال الموقع الذي تصدى له.. هل كان فعلاً إسلامياً عندما تحرك في موقع المسؤولية التي وصل إليها، أم لم يكن هكذا، الإسلام يفرض أن يكون الإنسان عادلاً، فهل جعل البلد من خلال وجوده أفضل، ومصلحاً فهل غطَّى الفساد، هل جامل المفسدين.. هكذا يجب أن يكون التقييم..

 

هذا هو الإسلامي، الإسلامي يعني ينطلق من خلال الإسلام،  الإسلام هو الذي يحكمه في كل حياته، ولهذا نحن بحاجة إلى إعادة إنتاج الدين في الحياة، بأن نكون دعاة خيرٍ في كل المواقع والمجالات..

 

{وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}.. كونوا كذلك، أمة الأساس فيها أنها تدعو إلى الخير وتعمل وفق معايير الخير..

 

وهذا الذي نستطيع من خلاله أن نجعل واقعنا أفضل، يجب أن يتغير الواقع الذي نعيش فيه، أن يكون واقعاً أفضل، ولن يكون أفضل إلا حين الدين يدخل إلى كل تفاصيل الحياة.. شوارعنا تكون أفضل، أحيائنا أفضل، تكون قرانا أفضل، كل منا يزرع الخير في الساحة التي يعيش فيها.. وحين تتجمع بقاع الخير نصنع مجتمع الخير…

 

الله ليس بحاجة لصلاتنا، الله ليس بحاجة إلى كل عباداتنا، إذا كان هنالك قيمة لعباداتنا لصلاتنا لصيامنا لحجنا، القيمة في مقدار ما تترك من أثر في الحياة، قيمة الصلاة أنها تنهي عن الفحشاء والمنكر، قيمة الصوم تجعلك تنضبط بلسانك وبتصرفاتك مع الآخرين، قيمة الحج بأن تعيش الأخلاق "ما يعبأ بمن يؤم هذا البيت إذا لم يكن فيه ثلاث خصال: خلق يخالق به من صحبه، أو حلم يملك به غضبه، أو ورع يحجزه عن محارم الله"..  يتحمل الناس ويسعى أن يوعيهم ويوجههم..

 

هكذا نصل إلى الله سبحانه وتعالى.. وبذلك نجعل الدين دائماً حاضراً في كل تفاصيل حياتنا.. الله يريد من الإنسان المتدين أن تمتد أثاره، أعماله الخيرة إلى ما بعد موته.. الله يريد أن تستمر حسنات المؤمن فلا تتوقف على حياته.. ولذا يموت الرجل وتنتهي حسناته إلا من يترك الولد الصالح، الصدقة الجارية، وورقة علم يُنتفع بها.. إذا لم يستمر خيرك من بعدك، فأنت تموت والله يريدنا أن نكون أحياء كما الشهداء أحياء لأنهم يزرعون من خلال شهادتهم يزرعون عزة وكرامة أيضاً نحن يجب أن نزرع..

 

لنكن أحياء بعد موتنا كما الشهداء بأن نزرع الخير في الحياة.. وبذلك نستطيع أن نصل إلى الله.. الطريق إلى الله واضح وسهل.. جسر العبور إلى الله هو كل هذا الخير يتدفق من ألسنتنا.. يتدفق من كل قلوبنا.. يتدفق من حياتنا.. بذوراً تستمر بالنمو.. وينابيع تفيض بالعطاء وتنتج خيراً كثيراً..

نسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفقنا لأن نكون من دعاة الخير..

 

 

 

 

الخطبة الثانية

عباد الله، أوصيكم وأوصي نفسي بما أوصانا به رسول الله عندما دعانا إلى أن نكثر من الدعاء الذي كان يدعو به في كلّ يوم قائلاً:

"اللَّهُمَّ أَدْخِلْ عَلى أَهْلِ الْقُبُورِ السُّرُورَ، اَللَّهُمَّ أَغْنِ كُلَّ فَقيرٍ، اَللَّهُمَّ أَشْبِعْ كُلَّ جائِعٍ، اَللَّهُمَّ اكْسُ كُلَّ عُرْيانٍ، اَللَّهُمَّ اقْضِ دَيْنَ كُلِّ مَدينٍ، اَللَّهُمَّ فَرِّجْ عَنْ كُلِّ مَكْرُوبٍ، اَللَّهُمَّ رُدَّ كُلَّ غَريبٍ، اَللَّهُمَّ فُكَّ كُلَّ أَسيرٍ، اَللَّهُمَّ أَصْلِحْ كُلَّ فاسِدٍ مِنْ أُمُورِ الْمُسْلِمينَ، اَللَّهُمَّ اشْفِ كُلَّ مَريضٍ، اَللَّهُمَّ سُدَّ فَقْرَنا بِغِناكَ، اَللَّهُمَّ غَيِّرْ سُوءَ حالِنا بِحُسْنِ حالِكَ، اَللَّهُمَّ اقْضِ عَنَّا الدَّيْنَ، وَأَغْنِنا مِنَ الْفَقْرِ، إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيءٍ قَديرٌ".

 

لقد أراد رسول الله (ص) أن يكون الدعاء هو وسيلتنا للتعبير عن إرادة الخير للناس، فلا نكتفي بأن ندعو، كما اعتدنا، لأنفسنا أو لعائلتنا أو لمن يطلب منا الدعاء، بل ندعو لكل الناس، حتى من لم يطلب منا.. أن ندعو لمن في القبور، وللفقراء والمساكين والمدينين والمكروبين والمهمومين، ومن يعيشون الظلم والاضطهاد والطغيان والاحتلال، أو يعانون واقعاً فساداً يأكل من ثرواتهم وخيراتهم.

 

وفي ذلك، التعبير عن حبنا للناس، ورغبتنا الخير لهم، ما يعزز قوة المجتمع وصلابته، ويجعله أكثر قدرة على مواجهة التحديات.

 

لبنان

والبداية من لبنان، الذي دخل حمى الانتخابات النيابية، حيث بات الحديث هو حديث الانتخابات في المهرجانات الشعبية والخطابات السياسية أو في المواقف. وهذا من الطّبيعي أن يحصل مع اقتراب موعد الانتخابات، في ظلّ التنافس الذي تشهده الساحة السياسية، ولكن ما لا ينبغي أن يحصل، هو السعي لكسب مزيد من الأصوات، باستخدام الخطاب الطائفي والمذهبي في إطار هذا التنافس، بحيث تستفز فيه الغرائز الطائفية والمذهبية التي تترك بالطبع انعكاساً على السّاحة، وتعيدها إلى أجواء التوتر الداخلية التي لم يخرج البلد بعد من تداعياتها.

 

ومن هنا، فإننا نريد أن لا يكون هذا الخطاب هو سمة الخطاب السياسي الانتخابي، وأن يستبدل به خطاب البرامج التي تقدم حلولاً عملية لكيفية إخراج البلد من أزماته المعيشية والاقتصادية والسياسية، وكيفية النهوض به، ليكون الكسب بعد ذلك للبرنامج الأفضل، وعدم الاكتفاء بالعناوين الفضفاضة.

 

إنّنا نريد من القيادات السياسيَّة أن ترتقي بخطابها إلى الخطاب العقلاني الهادئ الذي يأخذ بعين الاعتبار مصلحة جميع اللبنانيين بكل تنوعاتهم الطائفية والمذهبية، فالخطاب الفئويّ والعصبويّ لن يقابل إلا بخطاب عصبويّ وفئويّ مضادّ، ما يؤثر في الأجواء، ويهزّ الاستقرار، وهذا ليس من مصلحة البلد في ظلّ الظّروف الحسّاسة والصّعبة.

 

إنَّ من حقّ الشّعب اللبنانيّ أن يلتحق بركب الشعوب الأخرى التي تعتبر الاستحقاق الانتخابي فرصة للمحاسبة على نهج سابق جرّبته، والانطلاق إلى مرحلة جديدة أفضل، حتى لا يكون مصيره في السنوات القادمة على صورة الواقع المؤلم الذي عاشه في السّنوات السّابقة.

 

وعلى وقع هذا الاستحقاق، يواجه اللبنانيون استحقاقاً آخر، هو تحدي العدوّ الصهيوني الذي يسعى في هذه المرحلة، وعلى وقع تهديداته وتهويلاته المستمرة على اللبنانيين، مستفيداً من حركة دبلوماسية غربية، إلى الاستيلاء على ثروة لبنان النفطية والغازية الممثلة بالبلوك (9)، وكذلك الاستيلاء على أرض لبنانية، من خلال بناء الجدار الإسمنتي، عندما لا يأخذ بعين الاعتبار النقاط المتنازع عليها.

 

ونحن أمام هذا الاستحقاق، على ثقة بأنَّ اللبنانيين الذين لم يرضخوا لتهديدات العدو الصهيونيّ، ولا لتهاويله في السابق، وأثبتوا، دولة وشعباً وجيشاً ومقاومة، أنهم قادرون على أن يمنعوه من تحقيق أهدافه في لبنان، سيثبتون ذلك مجدداً، ويرغمون العدوّ على التراجع عن مخطّطاته، ولن يدخلوا في المساومة التي أتت بها الدبلوماسيّة القاضية بتقاسم البلوك (9)، على أن يقابل بتنازل صهيونيّ عن بناء جدار على الحدود المتنازع لها، وهي في الأساس ليست من حقّه..

 

ولكن يبقى على اللبنانيين أن يتابعوا الموقف الموحّد الّذي اتخذوه على المستوى الرسميّ والشعبيّ، وأن لا يستدرجوا إلى تنازلات، بحجَّة أن نتنازل عن القليل لنستفيد من الكثير.. لأن فتح أي باب من التنازلات، سيؤدي إلى فتح المسار لتنازلات أخرى.

 

 

ونبقى في لبنان، لنؤكّد رفضنا للمنطق الَّذي أثاره رئيس الدبلوماسية الأميركية، الّذي يؤدي إلى تحريض اللبنانيين على بعضهم البعض، بإثارته خطر المقاومة على مستقبل لبنان، في الوقت الذي يعرف هو وغيره، أن الخطر الكبير على لبنان لم يأت من المقاومة، وإنما يأتي من الكيان الصهيوني، الذي انطلقت المقاومة كرد فعل لاحتلاله وأطماعه.. فإذا كان حريصاً على الشعب اللبناني ومستقبله، فليكن حريصاً على منع هذا العدو من استهداف لبنان من البر والبحر والجو، وفي أرضه وثرواته، والضغط عليه للخروج من مزارع شبعا وكفرشوبا.

 

سوريا

أما في سوريا، فإننا نرى في إسقاط الجيش السوري طائرة صهيونية مؤشراً على منحى جديد في التعامل مع هذا الكيان الذي استباح في السابق طويلاً سيادة هذا البلد، وهو من الآن وصاعداً سيحسب الكثير من الحسابات قبل أن يقوم بأيّ مغامرة جديدة مماثلة.

 

إنّنا نحيي إرادة الصمود والتحدي في الجيش السّوري، وهذا ما كنا ننتظره منه، فقد ساهم، ولا زال، في استعادة الأمة لثقتها، وتوحيد الشعب السوري، لتبقى البوصلة في مواجهة هذا العدو، ورفض العبث باستقرار البلد، أو جعله في مهب رياح الدول الكبرى أو غير الكبرى، التي تسعى إلى تقاسم جبنته.

 

ذكرى شهداء المقاومة

ونحن في أجواء ذكرى قادة شهداء المقاومة الإسلامية الذين بعثوا في الأمة عزتها وحريتها وكرامتها، في وقت عزت القوة والحرية والكرامة، وقدموا أنموذجاً يحتذى في ذلك.. نرى أن من حق هؤلاء على أمتهم أن تحفظ جهادهم وتضحياتهم، فلا تضيع في ظل الحرتقات والتناقضات الداخلية أو الاستجابة للضغوطات الخارجية أو بتشويه صورتها.

 

تداعي مبنى برج البراجنة 

وأخيراً، وأمام الكارثة الجديدة التي تمثلت بتداعي مبنى في برج البراجنة، أدى إلى سقوط العديد من الضحايا، ندعو إلى إجراء تحقيق عادل وشفاف لمعرفة الأسباب التي أدت إلى ما حصل، ليتحمّل كلٌ مسؤوليته، وحتى لا تتكرر هذه المأساة في مبان أخرى قديمة.

إنَّ ما جرى ينبغي أن يدعو البلديات، ومن ورائها الدولة، إلى أن يلتفتوا أكثر إلى حاجات الناس ومتطلباتهم وأمنهم الاجتماعي في مثل هذه القضايا أو أية قضايا أخرى.

 

المكتب الإعلامي لسماحة العلامة السيد علي فضل الله

التاريخ:30 جمادي الاولى 1439هـ الموافق:16 شباط 2018م

Leave A Reply