شهر رمضان : دروس وعبر لا تنتهي

بسم الله الرّحمن الرّحيم

ألقى سماحة العلامة السيّد علي فضل الله، خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عددٍ من الشخصيّات العلمائيّة والسياسيّة والاجتماعيّة، وحشدٍ من المؤمنين، ومما جاء في خطبتيه:

 

الخطبة الأولى

 

ونحن في نهاية شهر رمضان  ما زلنا نتلقف دروسه  القيمة وهي دروس لا تنتهي  ونستعيد محطاته المنيرة وذكريات الانتصارات فيه .في السابع عشر كانت ذكرى بدر وانتصار بدر ودروس بدر و في الرابع والعشرين منه ذكرى الفتح العظيم فتح مكة .  وهذا انما يدل على التلازم بين الصيام وبين العمل والجهاد  التلازم بين جهاد النفس وجهاد العدو  بين الجهاد الاكبر والاصغر .

 

ونقف عند معاني فتح مكة لعلنا نستلهم منها المدد والروح والعزيمة والأمل والتفاؤل.

  يومها خرج رسول الله(ص) مهاجراً من مكة الى المدينة بأمر من الله تعالى، بلغ الجحفة وهي لا تبعد كثيرا ًعن مكة، فهاج به الشوق والحنين الى مكة حرم الله، وظهر الحزن على وجهه الشريف، فنزل عليه أمين الوحي جبريل(ع) يبلغه بأنه عائد  اليها فاتحا ومعه الاية: {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ قُل رَّبِّي أَعْلَمُ مَن جَاءَ بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُّبِينٍ} (القصص/85)

ومنذ خروج رسول الله من مكة لم يستكن لمنطق الغلبة التي كانت عليه قريش بل عمل وبكل جهده ليقلب الموازين وليرجح الكفة لأصحاب الحق، لأولئك الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق. {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ*الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ….}  ولهذا عاش الرسول(ص) والمهاجرون امر عودتهم الى مكة باعتباره وعداً الهياً، وعدا ًبالنصر والفتح.

 

   وما بين الوعد والفتح انجز المسلمون الكثير الكثير، خاضوا حروباً، وسيروا سرايا وغزوات، وانفتحوا على محيطها لتوسيع الدعوة محلياً واقليمياً، فعقدوا تحالفات، وحصنوا الجبهة الداخلية، واهتموا بالإنماء والتعليم.

 

ايها الاحبة :

إن هجرة الرسول وبقية المسلمين من مكة إلى المدينة   لم تكن فقط خروجاً من المكان والنجاة بل كانت أيضا خروجا من سلطة الباطل الى سلطة الحق، ومن سلطة الطغاة الى سلطة العادلين، ومن سلطة الضعف والخوف الى سلطة صناعة القوة والعزة، وهذا كله  ما أسس للعودة.

 لقد كانت يثرب النقطة التي انطلق منها مشروع الرسالة الى العالمية، ومكة كانت القلب الذي ينبض، والحق الذي يجب ان يُستعاد.

  صحيح ان الرسول(ص) أرسى واسس قواعد الحكم الإسلامي في يثرب، لكنه لم يكن يرسي قواعد مُلك او امبراطورية. محمد(ص) لم يكن فاتحاً لا هو فاتح ولا هو غاز همّه ما في مكة من ذهب مكدس في بيوت رجالات قريش وأسيادها.

ومن يتأمل كيف دخل الرسول بعد أن استتب له الامر في مكة وتحقق النصر، يدرك تماما أن الرسول كان فاتحا من نوع آخر لا مثيل له حيث اقترنت صورة الفاتحين بالقسوة والغلظة والثأر والانتقام .. أما رسول الله  فدخلها وذقنه على راحلته متخشّعاً، يردد عبارات التسبيح والشكر والثناء لله سبحانه. وحين يتقدّم منه رجل ليكلمه تأخذه الرعدة، ويتلجلج لسانه، فيقول له الرسول(ص): هوّن عليك لست بملك، إنما انا بان امرأة كانت تأكل القديد.

 

   لقد دخل الرسول(ص) المسجد الحرام، وكان حول فناء الكعبة 360 صنماً، فراح يحطّمها الواحد تلو الآخر وهو يقول: {..رَّبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَل لِّي مِن لَّدُنكَ سُلْطَانًا نَّصِيرًا} {…جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} (الإسراء /81)

  اذا، لم يفتح الرسول مكة لاستعادة دار نهبها طغاة قريش، ولا لتخليص أموال سرقوها، كان الحق واستعادة الحق هو البوصلة، هو الهدف.  والرسول يريد أن يعلم أمته أن الحق يؤخذ ولا يُستجدى وما أخذ بالقوة لا يسترد الا بالقوة

   كان هدف فتح مكة تطهيرها من الشرك، ومن الباطل الذي حاصرها به المشركون، واعادتها الى سيرتها الأولى التي أسسها ابراهيم(ع) كما أمره الله تعالى: {وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَن لّا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} (الحج/26)

 

   وبصرف النظر عن مكانة مكة وموقعيتها الدينية فإن المسلمين أخرجوا من ديارهم بغير حق، وعودتهم إليها باتت قضية محقة بحد ذاتها، ولا يمكن ان تطوى او يُصرف النظر عنها تحت أي اعتبار. وهذا ما نجد ترجمة له في أهم قضية معاصرة، هي قضية فلسطين، بكل تفاصيلها وتداعياتها.

 

   أيها الأحبة، إن الدفاع عن الحق والمطالبة به، فريضة فرضها الله على الناس، لإن التخلي عن هذه الفريضة وعدم أدائها في إطار الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يعني ببساطة ان المجتمع سلّم قراره وارادته لمن هو أكثر قوة وسطوة وجبروتاً، والنتيجة… كما   قال الإمام علي(ع) : "ما ترك الحق عزيز إلا ذلّ، ولا أخذ به ذليل إلا عز. وما ضاع حق وراءه مطالب."

 

  إن التفريط بعزتنا ليس أمراً متروكاً لنا، فالله سبحانه لم يفوّض للمؤمنين ان يكونوا أذلاء، ويحنوا هاماتهم للباطل، لذلك يقول القرآن: { ..وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ.. } (المنافقون /8)

و قد ورد في الحديث: "إن الله فوض إلى المؤمن أموره كلها و لم يفوض إليه أن يكون ذليلا"

 

   ممارسة العزة، والتمسّك بها جزء من إيماننا، وهي الطريق والبوصلة والمحفّز كي نتمسك بحقنا، والقرآن يؤسس لنا القاعدة: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ }.  وممارسة العزة والتمسك بالحق هي سلاح الضعفاء الأمضى والافعل وسلاح يجعل مقولة العين تقاوم المحرز صحيحة، فمن الضعف تصنع القوة .

   أيها الأحبة،

 مادامت الحياة قائمة على الأرض فإن الصراع بين الحق والباطل قائم، و دائما الوعد الإلهي حاضر: {وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ} (القصص/5) {وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ}

   وفي كل مرة يندلع هذا الصراع، يكون هناك دائماً جبهتان: جبهة مستكبرين تجعل من أهوائها أصناماً تتعبد لها، وجبهة حق ترفض الذل والخنوع والاستكانة، والنموذج: كربلاء.

   لماذا ثار الإمام الحسين(ع)؟

   ألا ترون ان الحق لا يُعمل به والباطل لا يُتناهى عنه.

 مادام لكل جبهة أنصارها وجنودها، فعلى المؤمن ان يحدد موقفه.

 في قضايا الحق والعدل لا مجال للحياد في الإسلام، الحياد ممنوع، لأن الحياد في مثل هذه الحالات هو كذب ونفاق، او هروب وادارة ظهر، وتنصّل من حمل المسؤولية التي يفرضها الإيمان.

 

 لقد علمنا الإسلام ان المؤمن لا يكون مؤمناً إلا إذا وقف مع الحق ولو كان على نفسه والإمام علي(ع) كان القدوة، كان خياره دائماً مع الحق، لهذا كانت وصيته للحسنين(ع): كونا للظالم خصماً وللمظلوم عوناً.

   هذا الخيار وهذا الموقف هو الذي يصنع عزة المؤمن.

   ان ما يجري اليوم في غزة خصوصاً وفي فلسطين عموماً هو كربلاء أخرى بمقياس من المقاييس. فهل ردة فعل المسلمين والعرب خصوصاً هي على مستوى مسؤولياتهم التي يحملهم إياها انتماؤهم ودينهم؟

 

ايها الاحبة:

   لأكثر من نصف قرن ظل الكيان الصهيوني يحتل قلوب العرب والمسلمين وعقولهم أكثر مما يحتل أرض فسلطينهم وأقصاهم.

   نعم، عاشوا وهم القوة التي لا تُقهر والباطل الذي لا يهزم، واكتشفوا متأخرين ان العلة ليس في السلاح ولا العتاد، ولا التقنيات المعقدة، ولا الكفاءات الحربية العالية، بل في اليد التي تحمل السلاح، والقلوب التي تقف خلف السلاح، وهذا ما تبيّنه ملحمة غزة اليوم.

وهذا ما تركه لنا أهل الحق في معركة بدر. فما الذي غيّر في كفاءة فئة قليلة كانت مستضعفة في بدر، حتى استطاعت ان تمرّغ كبرياء قريش بوحل الهزيمة؟

  ان الذي تغير هو الإيمان، وهو الذي صنع المعجزة.

  ان الباطل وهم، هو شيء مصنوع ومزور، ولا اساس ولا جذور تجعله ثابتاً في الأرض، لذلك شتان ما بين أهل الحق وبين الدائرين في فلك الباطل.

   ان انصار الحق سلاحهم الإيمان قبل ان يكون سيفاً او صاروخاً.

   أنصار الحق ينصرون قضاياهم لأن دينهم الوفاء والتضحية والصدق، ولا يخافون الا الله تعالى، اما انصار الباطل فإن أول ما يخشونه هو ضياع المصالح والمكاسب والباطل اذا استمر فبالقوة والظلم، وشراء الضمائر وسحق الإرادات المناوئة.

 

   اسرائيل كيان معتد، ظالم، مستكبر، سلبت الفلسطينيين كل شيء: الأرض، والوطن والحق في البقاء في الوطن وحتى الانتماء الى وطن اسمه فلسطين.

   اسرائيل عدوان مستمر على الإنسان الفلسطيني حتى ولو كان خارج أرضه، فهي باطل قائم مادام هذا الكيان قائماً. ومن كان مسلماً أفلسطينياً كان أم غير فلسطيني فقانون الله واضح وصريح: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ…} (البقرة /194).

ان جوهر القضية في مسألة فلسطين والقدس وبعيدا عن كل الحسابات هي  مسألة حق وغصب الديار، لا يساوم عليه.

 

أيها الأحبة

يغادرنا شهر رمضان  بعد أن نعمنا بتربيته لنا على التقوى والتقوى تعني أن نقف مع الحق ضد الباطل ومع العدل ضد الظلم ومع الحرية ضد الاستعباد ..

أن نصغي لآلام المقهورين والمظلومين والمعذبين الذين استبيحت أرضهم وسفكت دماؤهم وشردوا من أماكن تهجيرهم .. دكت البيوت  و استُهدف الرضع والاطفال على مرأى من كل العالم ..

  ومن هنا كانت دعوة الامام الخميني لاعتبار آخر جمعة من شهر رمضان يوما للقدس ولفلسطين.. يوما لتجديد الهمم ولإعادة الحق السليب إلى أهله 

في حسابات التقوى لا مكان لليائسين ولا للمحبطين ولا للقاعدين بل للمجاهدين والعاملين

ويكفينا وعد الله :{ وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا* فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَّنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُواْ خِلالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَّفْعُولاً }

 والحمدلله رب العالمين 

 

الخطبة الثانية

 

عباد الله، أوصيكم وأوصي نفسي بتقوى الله، فهي الزاد الَّذي نتزوّد منه في شهر رمضان لكلّ السنة، فالتقوى التي عشناها بأجمل معانيها طوال شهر رمضان، والَّتي عبّرنا عنها بتركنا الطَّعام والشّراب وبقية المفطرات، رغم حاجتنا إليها، إحساساً برقابة الله، ورغبةً برضاه، هي الَّتي ينبغي أن نعبِّر عنها في بقية أيامنا، ولكن بطريقة أخرى، بالصّيام عن الحرام، وعدم ترك الواجب.

ولذلك، سنبقى نردّد طوال السّنة الكلمة التي طالما ردَّدناها في شهر رمضان: اللهم إني صائم؛ صائم عن الغيبة، والنّميمة، والنّظر إلى الحرام، والاستماع إلى الحرام، والأكل الحرام؛ صائم عن الكذب، وإيذاء الناس من حولنا، والظلم، فالربّ الَّذي حرصنا على رضاه، ولأجله صمنا شهر رمضان، لأجله سنصوم العمر عن كل ما حرّم علينا. وعندما يحصل ذلك، سنجعل حياتنا أفضل، وكذلك حياة الآخرين، وسنكون أكثر قدرةً على مواجهة التَّحديات.

 

غزّة

والبداية من غزة، الّتي لا تزال تقدّم في كلّ يوم أنموذجاً متقدّماً في الثّبات، والتّضحية، والعنفوان، والمقاومة، وتحدي عدوانيَّة العدو وجبروته وطائراته وآلاته العسكريَّة، وذلك في ظلّ صمتٍ مريب من العالم، يصل إلى حدّ تبرير العدوان، والقول بالفم الملآن: "إنَّ لإسرائيل الحق في الدفاع عن نفسها". وبذلك، يُعطى هذا الكيان صكّ براءة حيال كلّ ما يفعله ويقوم به، من جرائم ومجازر ومذابح، وقد كنا نتمنَّى في ظلّ كلّ ما يجري من استباحة للحجر والبشر والطفولة البريئة، أن تتحرك دول العالم العربي والإسلامي، انطلاقاً من وحدة الدّم وأخوة الدين، لتقف مع هذا الشّعب، وتمارس الضّغط على العدو، ومن يقف خلفه.

ولكنَّ المشهد يتكرَّر، حيث يُترك هذا الشَّعب لمصيره، ويتمّ الاكتفاء ببيانات خجولة، ومبادرات غير مكتملة، حتى ممّن كنا ننتظر منه أن يكون السَّند الحقيقي للشَّعب الفلسطينيّ، إذ بنا نراه لا يأبه لمطالب هذا الشَّعب، الَّذي لا يريد سوى حقوقه الطبيعية في رفع الحصار عنه، وإطلاق سراح أسراه.

وهنا، نأسف أن تنطلق التَّظاهرات والتحركات المؤيّدة للشّعب الفلسطيني في لندن وباريس وواشنطن، فيما لا نراها في عواصم العالم العربي والإسلامي، ولكننا ننتظرها اليوم، وفي أجواء يوم القدس، لعلّ ذلك يعوّض ما فات.

إننا، وانطلاقاً مما يجري، نعيد القول للفلسطينيين: راهنوا على صمودكم وثباتكم ومقاومتكم وصبركم في مواجهة هذا العدو، لأنَّ هناك من يراهن على أن تقولوا كلمة "آخ"، حتى يتم الإجهاز على كلّ المكتسبات التي وصلتم إليها، لمنعكم من أن تحصلوا على حياة كريمة، فهذا الخيار هو الخيار الوحيد في عالم لا يصغي إلى الجراح وكل مشاهد الدمار التي أصبتم بها، وهو لا يفهم إلا بلغة القوة.

إنَّ من حقّ مقاومتكم عليكم، أن تقفوا معها، وأن تؤيّدوها، فهي لم تخذلكم، بل كانت خير معبِّر عن طموحاتكم، عندما أعدّت العدّة للعدو، برغم ظروفها الصّعبة، وها هي تسطّر الملاحم، وتربك العدو، وستحقّق النصر بعون الله.

وهنا، لا بدَّ من أن نحيّي تلاحم الشَّعب الفلسطينيّ، وتلاحم المجاهدين، وتلاحم الضفة الغربية وقطاع غزة والقدس، ما يقطع الطريق على المصطادين بالماء العكِر، لأن يجدوا أرضاً خصبة لهم، من خلال الاستفادة من التناقضات الفلسطينية وتسعيرها.

ونأمل في ظلّ كلّ هذا الواقع، أن تنطلق الفتاوى من المرجعيات الدينيَّة نحو موقعها الصَّحيح، فتدعو إلى وجوب نصرة هذا الشَّعب بالمال والسلاح والرجال، وألا تقف الفتاوى، كما اعتدنا، عند حدود الصّراعات الداخليَّة.

ولا بدَّ لنا في هذا الإطار من أن نحيي المبادرة التي انطلقت من وسائل الإعلام اللبنانية في نشرة أخبار واحدة، قدّمت من خلالها أنموذجاً رائداً جمع كلّ القوى السياسيَّة والطّوائف والمذاهب مع أهل غزة، ليتم تجاوز كلّ الخلافات التي تغرق فيها الساحة اللبنانيّة، ونقدّر الخطوة التي سيُقدم عليها المجلس النيابي في الدعوة إلى جلسة للمجلس، لمساندة غزة والعراق.

 

العراق

ونصل إلى العراق، حيث نأمل أن تساهم الخطوة المتمثّلة بانتخاب رئيس للجمهورية، في تعزيز الاستقرار الداخلي، وتشكيل حكومة جامعة، تقف في وجه كلّ دعوات التقسيم والفتنة والتشظي، وفي مواجهة التّفجيرات الَّتي حصدت الكثير من أبناء الشعب العراقي، ولا تزال تحصد المزيد.

وأمام ما جرى أخيراً في الموصل من تهديد للوجود المسيحي والتنوّع الذي شهدته هذه المدينة العريقة في تاريخها، والتي لطالما مثّلت عنواناً للوحدة، في ظل كلّ هذا التنوّع، ندعو إلى الوقوف في وجه الحملة التي تقوم بها فئات لا تعبّر عن حقيقة الإسلام في نظرته إلى الآخر، سواء من أهل الكتاب أو من غيرهم، لتهجير المسيحيين، ومن يختلف معها، والضغط على حريتهم ومعتقداتهم.

وإذا كان البعض يتحدَّث عن وجود نظام أهل الذمّة في الإسلام، وبالتالي الجزية، فهو ليس النظام الوحيد المعتمد في الواقع المتنوع، كما أنَّ ما يحصل ليس هو التعبير الحقيقي عن هذا النظام، فضلاً عن أن ذلك قد لا يكون عملياً في هذه المرحلة، حيث بُنيَت العلاقة وتُبنى بين المسلمين والمسيحيين على أساس الشراكة المبنية على الاحترام المتبادل، والمواطنة، واحترام حرية كل دين بالتعبير عن نفسه. وفي الوقت نفسه، فإننا ندين تفجير مقامات الأنبياء والأولياء، والذي يعبّر عن ضيق أفق في التعامل مع هذه المقامات ومدلولاتها الدينية والتاريخية.

 

لبنان

ونصل إلى لبنان، حيث لا يزال السياسيون غارقين في سجالاتهم حول القضايا المطروحة، فيما يبقى البلد رهين ما يجري في محيطه، ويزداد الخوف من تفجير الوضع في السلسلة الشرقية من الحدود، بعد تمدّد المسلّحين، ووصولهم إلى مقربة من الحدود اللبنانيَّة، واستهدافهم الأراضي اللبنانية مجدداً بالصَّواريخ، هذا إلى جانب الاستهداف المتكرر للجيش اللبناني وقواه الأمنية. وتبقى الملفات السياسيَّة والاجتماعيَّة والمعيشيَّة عالقة، وإن كنا ننوّه بقيام الحكومة بحلّ أزمة الجامعة اللبنانيّة.

 

كما لا بدّ من أن نقف أمام فاجعة الطائرة الجزائريّة التي ذهب ضحيتها عدد من اللبنانيين، ممن هاجروا إلى بلاد الاغتراب لأجل تحصيل لقمة عيشٍ كريمة. ونحن أمام هذه الفاجعة، نتوجَّه إلى أهل الضَّحايا بالعزاء، سائلين المولى أن يلهمهم الصَّبر وعظيم الأجر، وأن يتغمّد مَن فُجِعنا بهم برحمته الواسعة، ويكفيهم قول الله تعالى: {وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا}.

 

عيد الفطر

وأخيراً، لا بدَّ من أن نشير إلى أنَّ عيد الفطر المبارك سيكون يوم الإثنين المقبل، بناء على المبنى الفقهيّ لسماحة السيّد(رض)، علماً أن الهلال قد لا يرى في أفق بيروت والبلدان العربية والإسلامية، فيما يمكن رؤيته في جنوب أفريقيا وأميركا الوسطى والجنوبية.

ونسأل المولى أن يهلّ هلال العيد، وقد حلّت النعمة على هذه الأمة بوحدتها وانتصارها على أعدائها، وسقطت الفتن، إنه سميعٌ مجيب الدعاء.

 

المكتب الإعلامي لسماحة العلامة السيد علي فضل الله

التاريخ : 28رمضان 1435هـ الموافق : 25 تموز 2014م

Leave A Reply