في وداع شهر رمضان

ألقى سماحة العلامة السيد علي فضل الله ، خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عددٍ من الشخصيّات العلمائيّة والسياسيّة والاجتماعيّة، وحشدٍ من المؤمنين، ومما جاء في خطبتيه:

 

قال جابر بن عبد الله الأنصاري دخلتُ على رسول الله(ص) في آخر جمعة من شهر رمضان، فلما بَصُر بي قال لي: يا جابر هذه آخر جمعة من شهر رمضان فودعه وقل: اللهم لا تجعله آخر العهد من صيامنا إياه، فإن جعلته فاجعلني مرحوماً ولا تجعلني محروماً".

 

ساعات ويفارقنا هذا الشهر بعد أن صحبناه لثمانية وعشرين يوماً ونسأل الله أن يتمّه لنا وأن يعيده علينا فلا يكون هذا الشهر آخر شهر صمناه له.. شهر نعمنا فيه بخيراته وعطاءاته وهو يستحق الصفة التي ارتبطت به عندما يقال عنه رمضان كريم.. فليس هناك شهر هو أكرم علينا منه يكفينا منه أننا حظينا فيه بضيافة الله وكانت أنفاسنا فيه تسبيحا ونومنا فيه عبادة ودعاؤنا فيه مستجابا والأجر فيه مضاعفا أضعافاً كبيرة.. وفيه ليلة القدر.. ليلة هي سلام حتى مطلع الفجر.

 

هو الشهر الذي شعرنا فيه بحريتنا.. بقرارنا الحر.. وإننا قادرون على امتلاك زمام أنفسنا.. أن نقول لها لا عندما نريد ذلك ونقول لها نعم عندما نقرر ذلك.. شهر انتشلنا من أنانيتنا من الاستغراق في الدنيا، وأخرجنا إلى فضاء الإنسانية الواسع عندما ملأ وبتربيته قلوبنا بالمحبة والرحمة على الفقراء والمساكين والأيتام والمغمومين والمهمومين وكل من قست عليه ظروف الحياة.. فشعر هؤلاء منا بالاحتضان والرعاية والاهتمام وأحسوا بنعم لم يذوقوها في بقية الشهور.. شهر الشقي فيه هو من حرم من غفران الله فيه.. فقد ورد في الحديث: "فمن لم يغفر له في شهر رمضان ففي أي شهر يغفر له".

 

لقد غادرنا هذا الشهر سريعاً هكذا هو العمر يمر سريعاً..

 

ومن الطبيعي أن كل عاقل وواع يغادره هذا الشهر لن يكون مسروراً بل سيشعر بالأسى كما يشعر الإنسان عندما يغادره عزيز ومن له أثر في نفسه وحياته.. هذا إن كان لا يدري هل يتجدد اللقاء بعد ذلك أم لا وقد لا يتجدد..

وهنا يستحضرنا قول الشاعر:

بكتِ القلوبُ على وداعك حرقةً  *** كيف العيونُ إذا رحلتَ ستفعلُ

 ها قد رحلت أيا حبيبُ، وعمرنا  *** يمضي ومن يدري أَأَنتَ ستقبلُ

 فعساكَ ربي قد قبلت صيامنا  *** وعساكَ كُلَّ قيامنا تتقبَّلُ

بكت المساجدُ تشتكي عُمَّارها *** كم قَلَّ فيها قارئٌ ومُرتِّلُ

 إن كانَ هذا العامَ أعطى مهلةً *** هل يا تُرى في كُلِّ عامٍ يُمهِلُ؟

 لا يستوي من كان يعملُ مخلصاً *** هوَ والذي في شهره لا يعملُ

 رمضانُ لا تمضي وفينا غافلٌ *** ما كان يرجو الله أو يتذلَّلُ

 رمضانُ لا أدري أعمري ينقضي *** في قادم الأيامِ أم نتقابلُ!!

فالقلبُ غايةَ سعدِهِ سيعيشُها *** والعين في لقياكَ سوف أُكحِّلُ

 

ولذلك توجه الإمام زين العابدين (ع) إلى الله سبحانه بمشاعر حزنه عند فراقه في دعائه في وداع شهر رمضان:

" أللهم وَقَدْ أَقَامَ فِينَا هَذَا الشَّهْرُ مَقَامَ حَمْد وَصَحِبَنَا صُحْبَةَ مَبْرُور، وَأَرْبَحَنَا أَفْضَلَ أَرْبَاحِ الْعَالَمِينَ، ثُمَّ قَدْ فَارَقَنَا عِنْدَ تَمَامِ وَقْتِهِ وَانْقِطَاعِ مُدَّتِهِ وَوَفَاءِ عَدَدِهِ، فَنَحْنُ مُوَدِّعُوهُ وِدَاعَ مَنْ عَزَّ فِرَاقُهُ عَلَيْنَا وَغَمَّنَا وَأَوْحَشَنَا انْصِرَافُهُ عَنَّا…" الى أن يقول "السَّلاَمُ عَلَيْكَ مِنْ قَرِين جَلَّ قَدْرُهُ مَوْجُوداً، وَأَفْجَعَ فَقْدُهُ مَفْقُوداً، وَمَرْجُوٍّ آلَمَ فِرَاقُهُ.."..

 

طبعاً هذا الشعور العميق بالأسى لن يدركه إلا من عرف قدر هذا الشهر وأهميته ولن يشعر به إلا الذين لم يروا في الصيام جوعاً وعطشاً وتعباً وسهراً.. هؤلاء سيرونه كابوساً انزاح عن صدورهم…

 

وبعد ذلك يطرح السؤال الذي ينبغي أن نطرحه بعد أدائنا لأية عبادة.. وهذا ما ينبغي أن نسأله الآن ولم يبق سوى ساعات على انقضاء هذا الشهر.. ماذا بقي لنا من شهر رمضان.. أي تغيير أو أثر تركه في حياتنا أو لنقل أي إرث سيتركه فينا بعد أن يغادرنا.. وهذا السؤال هو الذي ينبغي أن نطرحه بعد كل عبادة فلا قيمة لأية عبادة إن لم تترك أثراً..

 

إن إرثنا من شهر رمضان ينبغي أن يكون بأن نحافظ على مكتسباته وعلى أجوائه الروحية والعبادية والقيم التي زرعها فينا.. أن لا نقطع تواصلنا مع القرآن الذي حرصنا في هذا الشهر على أن نختمه مرات عديدة.. أن لا نهجره ولا نقليه.. بل أن نستمر وكما كنا في شهر رمضان في تلاوته وحفظه وفهمه وتدارسه.. وإن لم يكن بالقدر ذاته.. وميراث آخر في شهر رمضان في أن نحافظ على الأجواء الروحية والإيمانية التي حرصنا عليها في شهر رمضان، بأن نذكر الله في السر والعلن وفي أناء الليل وأطراف النهار وفي الدعاء وأداء الصلوات بأوقاتها والاهتمام بصلاة الليل وأداء النوافل..

 

ميراث شهر رمضان بأن نستمر ببسط أيدينا بالعطاء والصدقات لعباد الله.. بأن نبحث عنهم فلا ننتظر أن يأتوا إلينا ليبذلوا ماء وجوههم حتى نغدق عليهم من عطائنا.. فمن صام لا بد من أن يتعالى عن أنانيته ويخرج من شرنقة ذاته ليصبح عبداً باراً ولا يوجد بر بلا تواصل.. بلا تراحم.. ويبقى في ميراث شهر رمضان أن نصوم بعده لكنه ليس صيام الطعام والشراب بل عن كل حرام ونترك كل قبيح من القول والفعل عن كل خلق سيئ.. فبعد شهر رمضان نعود للطعام والشراب ليبدأ هذا الصيام.. وأن نتابع تواصلنا مع أرحامنا ومع جيراننا..

 

إذاً لا بد أن نتابع ما بدأناه في بقية الشهور.. فشهر رمضان لم يرده الله سبحانه أن يكون شهراً من الشهور وهو ليس طارئاً فيها بل هو سيد الشهور وسيد الأيام والليالي ولا بد أن تنعكس قيمه على بقية الشهور والأيام..

وبعد ذلك أن ندرس مدى انسجامنا مع الهدف الذي من أجله كان رمضان، فشهر رمضان هو شهر التغيير هو شهر إعادة صياغة شخصيتنا على الصورة التي يريدها الله سبحانه..

 

لقد كان القرآن واضحاً في دلالته عندما بيّن الصورة التي لا بد أن نتصف بها حتى نكتب عنده من الصائمين.. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}..  أما كيف يعرف الإنسان نفسه هل بلغ درجة التقوى أم لا، فهو يتحقق بطريقتين..

 

الطريقة الأولى هي بأن يعرض نفسه على الآيات والأحاديث التي تحدثت عن المتقين وبينت صفاتهم للتأكد من اشتماله على هذه الصفات..

من هذه الآيات الكريمة: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * آَخِذِينَ مَا آَتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ * كَانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ * وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ}..

 

ومن الأحاديث الشريفة: "لا يكون العبد مؤمناً حتى يحاسب نفسه أشدّ من محاسبة الشريك شريكه..".. لا يكون الرجل تقياً حتى يعلم من أين مطعمه وشربه ومن أين ملبسه أمن حل أو حرام.

 

ومن الحديث: "أن أهل التقوى أيسر أهل الدنيا مؤونة وأكثرهم لك معونة، تذكر فيعينونك وإن نسيت ذكروك، قوالون بأمر الله قوامون على أمر الله، قطعوا محبتهم بمحبة ربهم ووحشوا الدنيا لطاعة مليكهم ونظروا إلى الله عز وجل وإلى محبته بقلوبهم وعلموا أن ذلك هو المنظور إليه، لعظيم شأنه".

 

وهذه طريقة والطريقة الأخرى لتأكيد آثار شهر رمضان في نفوسنا هو قياس مدى قربنا أو بعدنا عن الصفة التي تقابل التقوى أي الفجور.. وقد ورد: "فإنّ الناس اثنان: برٌّ تقي، وآخر فاجر شقي".

 

الفاجر هذه الصفة تصدق على من لا يستحي أن يراه الله وهو يعصيه.. هو لا يبالي بذلك.. والصوم هدفه هو أن يعزز فينا الإحساس برقابة الله في كل مكان وزمان وفي السر والعلن..

 

ثم وبعد أن نحرص على بلوغ الإنجازات لا بد من توقي أن نضيع ما كسبناه في هذا الشهر، ونُحرم من ما عشناه من حالات التقوى بغيبة هنا أو بكذبة هناك، أو بظلم إنسان أو بأكل باطل أو إساءة إلى عرض أو غير ذلك مما يوسوس به الشيطان أو أنفسنا الأمارة بالسوء أو عصبياتنا أو انفعالاتنا بحيث يعود الإنسان مفلساً كالذين تحدث عنه الحديث الوارد عن رسول الله(ص) حين قال: "أَتَدْرُونَ مَا الْمُفْلِسُ قَالُوا: الْمُفْلِسُ فِينَا مَنْ لا دِرْهَمَ لَهُ وَلا مَتَاعَ ، فَقَالَ: إِنَّ الْمُفْلِسَ مِنْ أُمَّتِي يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلاةٍ وَصِيَامٍ وَزَكَاةٍ وَيَأْتِي قَدْ شَتَمَ هَذَا وَقَذَفَ هَذَا وَأَكَلَ مَالَ هَذَا وَسَفَكَ دَمَ هَذَا وَضَرَبَ هَذَا فَيُعْطَى هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يُقْضَى مَا عَلَيْهِ أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ"، ويكون حاله في ذلك كالتي تحدث الله سبحانه عنها إنها كانت تغزل غزلها وتبقى في ذلك إلى الصباح.. وبعد أن صار كاملاً ويستفاد منه تعود فتنفضه.. {وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثاً}.. والكثيرون قد يكونون كذلك يضيعون ما كسبوه سريعاً وهذا هو الخسران المبين..

 

ويبقى علينا وفي هذه الساعات القليلة من هذا الشهر أن نستدرك تقصيرنا فيه، وأن نطمئن أن أعمالنا بلغت موقعها عند الله.. وأنه قد قبل عملنا.. أن نتوجه إلى الله لنقول له:

"أَللّـهُمَّ أَدِّ عَنّا حَقَّ ما مَضى مِنْ شَهْرِ رَمَضانَ، وَاغْفِرْ لَنا تَقْصيرَنا فيهِ، وَتَسَلَّمْهُ مِنّا مَقْبُولاً وَلا تُؤاخِذْنا بِإِسْرافِنا عَلى أَنْفُسِنا، وَاجْعَلْنا مِنَ الْمَرْحُومينَ وَلا تَجْعَلْنا مِنَ الْمحْرُومينَ".

 

فنسأل الله سبحانه أن يجعلنا من المقبولين الذين يستحقون التهنئة ولسنا من المحرومين الذين يستحقون التعزية كما كان علي(ع) يخرج في آخر شهر رمضان ليقول: "يا ليت شعري من هذا المقبول فنهنيه ومن هذا المحروم فنعزيه".

وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين..

 

الخطبة الثانية

 

عباد الله، أوصيكم وأوصي نفسي بوصية الله لنا عندما قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ * وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}، {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}.

 

هي دعوة من الله للمؤمنين الَّذين قد يدبّ بينهم الخلاف لأيِّ سبب كان، كي لا يدعوا الفتنة تدخل إلى ساحتهم، ولا ينزلقوا في مهاويها، ولا يسمحوا للمصطادين بمائها العكر أن يجدوا إلى ذلك سبيلاً.. أن تبقى التقوى حاضرة في ردود أفعالهم، كي لا يفشلوا وتذهب ريحهم. ففي الفتنة، سيكون الجميع خاسرين. طبعاً، هذا لا يعني التنكّر للأخطاء، فالأخطاء، إن وجدت، تُعالج بالحكمة، والجدال بالتي هي أحسن، والابتعاد عن التجريح، والحرص على العدالة. ومتى تربينا على ذلك، لن نسمح للساعين إلى الفتنة بأن يجدوا أرضاً خصبة لهم.. وبذلك نواجه التحديات.

 

يوم القدس العالمي

والبداية من يوم القدس العالمي؛ هذا اليوم الذي دعا إليه الإمام الخميني (رض) في آخر جمعة من شهر رمضان، والّذي يهدف إلى تذكير المسلمين بضرورة تضافر جهودهم وتكتيل طاقاتهم، من أجل رفع كاهل الاحتلال عن قبلتهم الأولى، عن القدس، وعن كل فلسطين.. فلا تُنسى هذه القضية، كما يراد لها أن تُنسى، ولا تضيع أو تصبح على الهامش، بفعل تأجج الصراعات التي يرزح تحتها كلّ بلد، بفعل الأزمات ذات البعد الطائفي أو المذهبي أو القومي.

 

إننا أحوج ما نكون في هذه المرحلة، وأكثر من أي وقت مضى، إلى إعادة الاعتبار إلى هذه القضية كأولوية، وإلى أن تكون بوصلة الصراع، بعدما تغيّرت البوصلة لدى البعض إلى مواقع أخرى، نظراً إلى مكانة القدس في وجدان المسلمين، كما أبناء الأديان الأخرى، فهي مهبط أنبياء الله، وقبلة المسلمين الأولى، وثالث الحرمين، والأرض التي باركها الله وبارك ما حولها.. فالويل لأمة تسكت على انتهاك مقدساتها، هي أمة ذليلة لن تحترمها بقية الأمم.

 

إننا في يوم القدس، نشدّ على أيدي كل الذين يصرون على الحفاظ على القدس كأساس وأولوية، ولا يزالون يبذلون الجهود، ويمهدون الأرض لإزالة الاحتلال، فلا بدّ من أن نكون مع الشعب الفلسطيني الذي يتصدى للاحتلال بكلّ ما يستطيع، في ظلّ كلّ محاولاته الساعية إلى تهويد القدس وفلسطين، والذي يقدم لذلك التضحيات الجسام، رغم كل الضغوط القاسية التي يعانيها، من قتل وحصار وتضييق وأسر، وسط السعي المستمر لتيئيسه.

 

إنّنا في هذا اليوم؛ يوم القدس، ندعو الشعوب العربية والإسلامية وكل الأحرار في العالم إلى الوعي والتكاتف لمواجهة أي تطبيع مع هذا العدو، والتصدي لأي محاولة لإدخاله في جسم هذا العالم، وإلى التضامن مع الشعب الفلسطيني ومساعدته، ليبقى صامداً في ساحة التحدي مع هذا العدو.. ومنع العمل للإجهاز على كلّ مواقع القوة المتبقية، وحمايتها من كيد الكائدين.

 

لقد أثبتت الوقائع السابقة أنَّ هذه الأمة قادرة على تحقيق النصر، وهي تملك خياراتها إن قررت ذلك، وخرجت من بين براثن الذين يريدون لها أن تكون صدى للفتن التي تصنع في واقعها. ولذلك، لا بد للجميع من أن يتحدوا لمواجهة العدو الرئيسي، لا أن يتجهوا إلى الوجهة غير الصحيحة.

 

لبنان

ونعود إلى لبنان، الذي دخل في مرحلة أكثر هدوءاً على الصعيد السياسي، بعد الاحتقان الذي طبع المشهد السياسي طوال الفترة الماضية التي سبقت التفاهم على القانون الانتخابي. وهنا، نأمل ألا يكون هذا الاسترخاء هدنة يُفتح بعدها ملف القانون الانتخابي من جديد، لا لتطوير هذا القانون، بل للحصول على مكتسبات إضافية، في الوقت الذي يعرف الجميع مدى الحاجة إلى تعزيز الاستقرار السياسي، والتفرغ لمعالجة الملفات الكثيرة المنتظرة، التي تتصل بالواقع الاقتصادي والاجتماعي والمعيشي للمواطنين، حيث يتفاقم هذا الوضع، وينتظر مبادرات جادة وحقيقية لحلّه.

 

إننا نأمل أن يساهم اللقاء الذي حصل بالأمس بين القوى والأحزاب الممثلة بالحكومة، برعاية رئيس الجمهورية، في التأسيس لمرحلة جديدة من النهوض في المجالات كافة، وفي إزالة العقد والحواجز التي تعترض تفعيل عمل الحكومة وتأدية دورها المطلوب في العديد من الملفات، بدءاً بملف سلسلة الرتب والرواتب وإنجاز الموازنة، مروراً بملف الماء والنفايات والكهرباء، ما يعيد قدراً من الثقة للبنانيين الذين جعلتهم التجارب السابقة واللقاءات المتعددة غير متفائلين.. ولذلك، قلنا سابقاً ونقول الآن: قدموا للناس ما هو واقعي، ولا تشبعوهم أحلاماً سيجدون أن لا إمكانية لتحقيقها في المستقبل المنظور.

 

إننا سنبقى نراهن على الشّعب الذي عليه أن يؤكّد للمسؤولين أن خياراتهم ومواقفهم لن تبنى على أساس الوعود أو التمنيات، بل على النتائج الحقيقية.

 

ونبقى في الداخل، لننوه بجهود القوى الأمنية في حماية البلد من الإرهاب الذي يسعى في الليل والنهار للنفاذ إلى الساحة الداخلية، ومساعيها لمواجهة آفة المخدرات ومروجيها وعصابات القتل والسرقة.. وندعو الجميع إلى دعم الدولة في هذه الجهود.

 

مواجهة الفتنة

وأخيراً، ثمة كلمة في مواجهة الفتنة التي عصفت بساحتنا، والتي كنا نأمل أن نتفادى أسبابها ونتائجها، لنعيد التأكيد على البقاء على ثوابتنا التي انطلقنا منها، وهي إبقاء الساحة موحدة، ومنع الأسباب التي تؤدي إلى تفتيتها وشرذمتها، لقطع الطريق على كلّ المصطادين في الماء العكر.

 

إنَّ من الطبيعي أن يحدث اختلاف أو أخطاء، وجلَّ من لا يُخطئ، ولكن هذا لا يعني أن نتبادل الاتهامات، بحيث نحتاج إلى أن نثبت الثابت في إيماننا برسول الله، وهو من هو في الموقع العالي في الجنة، وأكثر من ذلك، أنه شفيعنا إليها، أو نخرج عن قيمنا التي دعتنا إلى أن نقول التي هي أحسن، وأن ندفع بالتي هي أحسن، وأن نحاور بالتي أحسن، وهذا هو نهجنا الذي نريد لجميع الذين يقفون معنا أو الذين يختلفون معنا، وجميعهم أخوتنا وأبناؤنا، الالتزام به في الحوار، وبذلك يغتني الفكر، ويفتح أكثر من أفق للاقتراب من الحقيقة.. لنُبقي الأمور في دائرتها، ونعالجها بكل حكمة ومسؤولية.

 

أيها الأحبة، لم نبرر الأخطاء، ولن نبررها، فهذا ليس مبدأنا، وهو ليس ما ندعو إليه، فنحن دعاة عدل في التعامل مع الأصدقاء والأعداء. ومن العدالة أن لا يكون خطأ مغفوراً، وآخر غير مغفور، وأن لا يكون خطأ مبرراً وآخر غير مبرر، وبذلك، نمنع كل من يريد العبث بساحتنا من تحقيق غاياته، ونكون أقوى..

 

إننا على ثقة بأن أمتنا الواعية التي واجهت الاحتلال ودحرته، وتواجه الإرهاب، لن تسمح لكلِّ مثيري الفتنة أن يضعفوا ساحتها ويوهنوا قوتها. {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ}..

 

Leave A Reply