مبدأ التقية قرآني وإسلامي إنساني

ألقى سماحة العلامة السيّد علي فضل الله، خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عددٍ من الشخصيّات العلمائيّة والسياسيّة والاجتماعيّة، وحشدٍ من المؤمنين، ومما جاء في خطبتيه:

 

الخطبة الأولى

 

قال الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز: {لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ} صدق الله العظيم.

 

ورد في الحديث عن رسول الله(ص) وهو يبين مقتضى الإيمان: "ليس الإيمان بالتحلي ولا بالتمني، ولكن الإيمان ما خلص في القلوب وصدقته الأعمال".. "الإيمان والعمل أخوان شريكان، لا يقبل الله أحدهما إلا بصاحبه"..

 

هذا هو مقتضى الإيمان، فالإيمان لا يتم ويكتمل ولا يترك أثره في الحياة إلا إذا نفذ إلى القلب وتمظهر بالعمل والسلوك وعبر عنه باللسان.. فلا إيمان من دون الإقرار القلبي، والإيمان يفرغ من مضمونه إن لم يقرن بالعمل والسلوك ولا يكتمل أثره على المجتمع من دون القول والجهر به.

 

ولكن وفي ما خص التعبير عن الإيمان باللسان أو العمل بشكل تحديدي فذلك مطلوب في الظروف الطبيعية، عندما يكون الإنسان حراً وقادراً على التعبير عما يعتقده ويؤمن به.. أما لو تعرض الإنسان لضغوط وتحديات أوصلته إلى أن لا يملك معها إظهار قناعاته بلسانه، أو قد تضطره  إلى التعبير عما يخالف قناعاته وما يؤمن به، حتى يحمي نفسه من سطوة وطغيان من يملكون قوة وتأثيراً ولا يقبلون من يخالفهم الفكر والرأي والعقيدة. ففي تلك الظروف لا شك أن الأمر يحتاج إلى دراسة نوعية الخيار الذي لا بد من أخذه.. هل ينطق بما يقتنع به ويتحمل الأخطار نتيجة السكوت أو القيام بما يخالف قناعاته حفظاً لحياته…

 

ومن يستقرأ التاريخ يجد النموذجين نموذج من يصر على قول الحق والعمل به ولو كان في ذلك هلاكه من جانب وبين الذين إيمانهم راسخ في قلوبهم وجوارحهم ولكنهم يكتمون هذه القناعات في لحظة معينة لدرء القتل والتشريد عن أنفسهم.

 

والقرآن الكريم أشار إلى النموذجين بإيجابية، فمن جانب خلد القرآن الكريم قصة أصحاب الأخدود الذين فضلوا أن يحرقوا بالنار على أن يتنكروا لدينهم ويلتزموا بما لا يؤمنون به، وخلدت السيرة قصة ياسر وسمية الذين فضلا الشهادة والموت تحت سياط قريش على التراجع عن إيمانهما.. وقد أشار التاريخ الإسلامي أن حجر بن عدي وأصحابه الذين فضلوا الموت والشهادة على الركون لمعاوية في البراءة من علي(ع) والتنكر له والشواهد في هذا المقام كثيرة لا يتسع لها المقام.

 

وقد أكدت ذلك الأحاديث عندما قالت: "قل الحق ولو على نفسك"، "أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر"، "قل الحق ولو كان مراً".

 

وبمقابل هذه الشواهد نجد في القران الكريم إشارة إلى عمار بن ياسر (رض) عندما اضطر عمار حتى إلى أن يسب رسول الله(ص) ويمتدح الأصنام تحت وطأة سياط قريش، فجاء حينها عمار إلى رسول الله(ص).. فقال يا رسول الله هلكت، فقال النبي(ص): ما وراءك.. قال شرّ يا رسول الله، فما تركني هؤلاء حتى نلت منك وذكرت آلهتهم بخير.. فقال له رسول الله(ص): كيف تجد قلبك؟ قال عمّار: مطمئن بالإيمان.. فجعل رسول الله(ص) يمسح عينيه ويقول: فإن عادوا فعد.. وعندها نزلت الآية القرآنية: {إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ * مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ}..

 

وقد بين إقرار رسول الله(ص) لما قام به عمار ونزول الآية في القرآن الكريم لتبين إمكانية أن يعلن الإنسان خلاف ما يؤمن به عندما يتعرض للإكراه.. وهذا هو الذي أشارت إليه الآية التي تلوناها في بداية الحديث عندما قالت: {لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً…}. فهي بينت أن بالإمكان أن يوالي المؤمن الكافرين لحماية نفسه من بطشهم.. ومن هذه الآية وردت كلمة التقية.. والتقية الواردة في الآية تعني إخفاء الإنسان حقيقة إيمانه عند الخوف على النفس أو الاضطرار.. لكن مع رسوخ الإيمان في القلب وهذا ما يبعد التقية عن النفاق التي تعني رسوخ الكفر في القلب مع إظهار الإيمان لهدف تخريب المجتمع الإسلامي أو الإساءة إلى الدين وقيمه.

 

وقد أشار القرآن الكريم في آيات أخرى إلى جواز التقية عندما تحدث عن مؤمن آل فرعون الذي كتم إيمانه حماية لنفسه، وليساعد النبي موسى(ع) في موقفه ويحميه حين تقتضي الظروف.. لذلك عبر القرآن الكريم عنه عندما قال: {وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آَلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إيمانهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ}.

وقد أيدت الأحاديث هذا المبدأ.. فقد ورد عنه(ص): "رفع عن أمتي.. ما أكرهوا عليه، وما لا يعلمون، وما لا يطيقون، وما اضطروا إليه"، "التقية ترس الله بينه وبين خلقه"، "التقية حرز المؤمن".

 

والمواءمة بين كل هذه الأحاديث والروايات التي تبدو متناقضة يمكن تحقيقه بالقول أن الإسلام اعتبر القاعدة هي التعبير عن الإيمان والعمل به وهو لذلك ثمن مواقف أولئك الذين يضحون ويقدمون الغالي والنفيس من أجل قول كلمة الحق والنطق بها، ولكنه في الوقت نفسه كان واقعياً عندما فتح باب التقية وأجاز العمل به كرخصة لا كقاعدة.. فيجوز للمؤمنين الأخذ بها عند ما تقتضي ظروفهم على أن لا يفقدوا معها القناعة بما يؤمنون به.. فلا بد من بقاء الاطمئنان بالإيمان.

وهذا ما عنته الآية: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإيمان}.

 

إذاً التقية أيها الأحبة هي مبدأ قرآني وإسلامي بل وإنساني، هي لا تختص بمذهب دون آخر كما يفتري البعض فالتقية نجدها في روايات المسلمين جميعاً على تنوع مذاهبهم، ويمارسها كل المسلمين.. وحتى غير المسلمين حين تشتد عليهم الضغوط، ويصبح التعبير عن فكرهم وآرائهم ومعتقداتهم سواء الدينية منها أو السياسية مصدر ضرر وخطر على حياتهم.

 

نعم، برز استخدام هذا المفهوم لدى الشيعة أكثر، وأصبح لصيقاً بهم لا لأن هذا المبدأ هو خاص، حتى راح البعض يعيرهم به، بل هو نتيجة للضغوط التي تعرضوا لها، خلال فترة الحكم الأموي والعباسي.. حتى ورد عن الصادق(ع): " إنّ التقيّة ديني ودين آبائي وأجدادي، ولا دين لمن لا تقيّة له". ومن المهم الإشارة أيها الأحبة أن هذه الأحاديث يجب أن تدرس وتؤخذ لا من جانب السند والمتن فحسب بل من خلال السياق التاريخي والمجتمعي التي قيلت فيها، فالتقية عند أتباع أهل البيت جواز ورخصة ضمن سياق الظلم والاضطهاد والقتل وهي محدودة.

 

وأما في عصرنا الحالي، فإن هذه الرخصة تقل الحاجة اليها مع ازدياد مساحات الحرية (رغم بعض الإستثناءات) والفضاءات الإفتراضية وغير الإفتراضية باتت واسعة ومتاحة للجميع أو للكثيرين بالأحرى.

 

لكن، ومع الأسف لا زال المسلمون الشيعة إلى الآن يضطرون في بعض الدول إلى ذلك نظراً للتعقيدات التي لا زالت لدى هذا البعض، بحيث يضطر الملتزم بخط أهل البيت(ع) أن لا يجهر بكل أفكاره أو لا يظهر عقائده، أو لا يعبر عن قناعاته فيما يتعلق بأفعال الصلاة أو غير ذلك مما يؤمن به.. ومع الأسف هذا يحصل داخل المجتمع الإسلامي، فيما نجد الحرية كل الحرية في البلاد أو المجتمعات غير الإسلامية..

 

لكي تبقى الإشارة أن الرخصة التي أعطيت في الأخذ بالتقية ليست مفتوحة وبدون حدود، فقد تصبح غير جائزة إن كانت بنية غير سليمة بأن يداهن المرء وينافق طمعاً بالمنصب أو المكانة أو الاعتبار أو إرضاء الآخر وهي غير جائزة إن أصبحت قاعدة بأن يصبح للفرد المؤمن شخصيتان مع كل الناس ظاهرة وباطنة، فالمعيار نية المرء وصفاء قلبه….

 

 والتقية أيضا قد تصبح غير جائزة أيضاً إن كان لها أثر على كل المجتمع بما يهدد وجود الدين أو استقامته وحفظه من الانحراف، أو أدت إلى تفاقم تسلط الظالم وطغيانه.. ولا ينبغي أن تقف عائقاً إذا اقتضت المصالح الإسلامية العليا، فالإنسان في المحافل العامة يجب أن يتجنب أي مجافاة للحق لأن موقفه يأخذ بعداً اجتماعياً واسعاً.. عندها تصبح التقية محرمة حتى لو أدت إلى ضرر جسدي.

 

ولهذا لم يمارس الأنبياء والأولياء والصالحين التقية والذين قد تنعكس مواقفهم على كل الواقع الإسلامي، عندما تعرضوا للاضطهاد الذي وصل إلى حد القتل، لأن السكوت أو التراجع يعرض الرسالة للخطر أو الانحراف، صبروا على ذلك وأصروا على التمسك بإيمانهم.. وهي لم تقف عائقاً أمام الإمام الحسين(ع) عندما انطلق بثورته رغم كل ما يمكن أن ينتج عنها من تهديد لحياته وحياة الذين كانوا معه، وسبي نسائه مما كان واضحاً لديه أنه سيحصل وفق مقتضيات تلك الظروف.

 

لقد وقف(ع) في كربلاء ليقول:"ألا وإنّ الدّعـي بـن الدّعي قـدْ ركـز بــين اثــنتــين، بـين السـّلة والذّلة، وهـيهات مـنّا الذّلــة.. واللّه لا أعطيكم بيدي إعطاء الذليل، ولا أقر لكم إقرار العبيد"

 

أيها الأحبة:

إن هناك خيطاً رفيعاً فاصلاً بين التقية والانسحاق أمام الآخر.. فتشريع التقية لا ينبغي أن يكون مبرراً للضعف أمام الآخر والرغبة بكسب وده أو لميوعة الإيمان، فلا بد أن تبقى عند حدودها وبضوابطها التي لا بد أن تكون دقيقة.

 

فالمؤمن لا بد أن يكون قوياً راسخاً مهما كبرت التحديات وعظمت.. هذه هي القاعدة وهو الأساس وعنوانه: {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ}.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين…

 

الخطبة الثانية

 

عباد الله، أوصيكم وأوصي نفسي باستحضار معاني مناسبة دحو الأرض، الّتي نستذكرها في الخامس والعشرين من شهر ذي القعدة، وهي الذكرى الَّتي انبسطت فيها اليابسة تحت الأرض الَّتي بُنِيَت عليها الكعبة.

 

ونحن نريد من هذه المناسبة، أن نستحضر القيمة الّتي تمثّلها الكعبة، لأنها بيتٌ وُضِعَ للعبادة، وهي تمثل التعبير العملي عن وحدة المسلمين، فإليها يتوجَّهون في صلاتهم، أينما كانوا، وحولها يتحلّقون بكلّ مذاهبهم خلال العمرة وعند الحجّ.

 

ما أحوجنا إلى استذكار هذه القيمة في عصر الفتن التي تعصف بالمسلمين! لعلّهم يلتفتون إلى أنّ الله وحّدهم عندما دعاهم إلى قبلة واحدة، وإلى التواجد معاً في بيتٍ واحد بكلّ تنوّعاتهم المذهبيّة، فلماذا يتفرقون شِيَعاً بعد ذلك؟ بهذا الوعي، نستطيع أن نستعيد وحدتنا، ونواجه التّحدّيات…

 

لبنان

والبداية من لبنان، حيث يشتدّ الصراع بين القوى السّياسيّة فيه، والّذي وصل إلى حد تهديد ما تبقى من مؤسسات الدولة، وهي الحكومة، في ظلِّ احتدام الصّراع السّياسيّ حول أسلوب إدارة شؤون البلد، ومعالجة الشوائب الموجودة فيه، وسعي كلّ طائفة لتثبيت حقوقها ورفض كلّ ما تعتبره غبناً أو ظلماً يضرّ بمصالحها.

 

ونحن في ذلك مع كلّ ما يساهم في رفع مستوى الأداء السياسيّ، وإخراجه من الركود، وإزالة الغبن عن أي طائفة، لأنّ الغبن هو مشروع حرب. كما أن الصراع ينبغي أن يبقى محكوماً بالظروف التي يمرّ بها البلد، وحجم التحديات التي تواجهه، فقد تقتضي ظروف المرحلة تجميد الخلافات والعضّ على جراح التنازل، انطلاقاً من القاعدة التي أرساها أمير المؤمنين عندما قال: "لأسلمنّ ما سلمت أمور المسلمين"، بأن نسالم لحساب الوطن والنّهوض به.

 

من هنا، وفي ظلّ التجاذب الجاري على كلّ شيء، بدءاً من رئاسة الجمهورية إلى القانون الانتخابي، وصولاً إلى موضوع النفايات التي يبدو أنها ستعود إلى الطرقات، وملف التعيينات العسكرية والأمنية التي نشهد صراعاً حولها الآن، وغير ذلك الكثير، فإنّنا نقف مع كلّ الأصوات التي تقول: رأفة باللبنانيين، أديروا كلّ هذه الصّراعات بما لا يتسبب بتداعي أركان البلد، وتفاقم مشاكله، وزيادة معاناة إنسانه، فالمرحلة، كما نراها، ينبغي أن تكون مرحلة تهدئة وتعزيز لاستقرار البلد، والباب بعد ذلك واسع للجدل والصراع السياسي وتعزيز النفوذ.

 

إننا مع كل الأصوات التي تدعو إلى الخروج من المراوحة السياسية، وإزالة الفساد المستشري، ورفع الغبن عمن انتقصت حقوق طوائفهم، لكن ذلك لا بدّ من أن يكون في إطار مصلحة الوطن، لا أن يكون على حسابه.

 

ولا بد لنا هنا، ونحن نستعيد ذكرى مرور السنة الأولى على الحراك الشعبي، وعلى الرغم من تحفّظنا على بعض أساليب القائمين به من جهة، أو على الخطاب الذي وضع جمهور الحراك ورموزه في خانة الاتهام من جهة أخرى، فإننا استبشرنا خيراً بما جرى، ورأيناه بادرة إيجابية تساهم في إزالة الترهّل السياسي، ومعالجة الفساد والهدر الذي يفتك بمؤسسات الدولة..

 

ومن هنا، فإننا نعيد الدعوة إلى استمرار هذا الحراك بأشكال أخرى أكثر فاعليّة وأقل ضرراً، لإبقاء رقابة المجتمع الأهلي حاضرة، ولا سيما في هذه المرحلة، حيث نفتقد الحضور الفاعل لأجهزة التّفتيش والرقابة، على أن لا يكون ذلك سبباً في زيادة مشاكل البلد، ولا يجعله مشرعاً على رياح من يستغلّون هذه التحركات ويأخذونها إلى ما يريدون، بعيداً عن الأهداف الّتي انطلقت من أجلها.

 

فلسطين

وإلى فلسطين، التي عاد العدو الصهيوني إلى استهدافها هذه المرة عبر الغارات العدوانيّة على غزة، والّتي ترافقت مع تهديدات من وزير حربه (ليبرمان)، بأن لا إعمار لقطاع غزة الّذي لا يزال الكثير من أبنائه يعيشون على أنقاض منازلهم التي دمرتها الحروب الصهيونية الأخيرة، إلا بعد نزع سلاح فصائل المقاومة، في محاولة منه لفرض معادلة جديدة، قوامها السلاح مقابل الإعمار، ضارباً بعرض الحائط كل تعهداته بإدخال المواد الضرورية للإعمار إلى غزة..

 

إننا إزاء ما جرى، ورغبةً في كسر المعادلة الجديدة التي يعمل لها العدو، نتوجّه إلى فصائل المقاومة الفلسطينية، وندعوها إلى توحيد جهودها في مواجهة هذا المسعى الصهيوني، وإزالة التوترات الداخلية، ومنع كل اللاعبين على الخلافات من أن يجدوا أرضاً خصبة لهم، ولا سيما في أجواء الانتخابات الجارية.

 

وهنا، لا بدَّ من التوقّف عند ذكرى إحراق المسجد الأقصى، الّتي حلّت في العشرين من شهر آب سنة 1969، حيث أقدم الصهاينة، وعن سابق تصور وتصميم، على إحراق المسجد، رغبةً في إزالته، لإقامة هيكل سليمان المزعوم على أنقاضه.

وفي هذه المناسبة، فإننا نحتاج إلى استعادة هذه الذكرى، لا لنذكّر بتاريخٍ مضى فقط، بل لنشير إلى أنّ المشروع الصهيوني لتهويد الأقصى وهدمه لا زال مستمراً، وإن بشكلٍ آخر، من خلال العمل على بقاء الحفريات التي تجري تحت المسجد، ما قد تجعله آيلاً للسقوط في أي لحظة، أو بتطويقه بالمستوطنات، والتضييق على المقدسيين وعلى حماة المسجد والمصلّين.

إننا نريد لهذه الذكرى أن تكون حافزاً لدى كل المسلمين جميعاً، للتنبّه إلى خطورة ما يجري، والعمل على حماية أولى القبلتين وثالث الحرمين.

 

ذكرى تغييب الإمام الصدر

 

 وأخيراً، وفي الذكرى الثامنة والثلاثين لتغييب الإمام موسى الصدر ورفيقيه، نستذكر هذه الشخصية التي تركت آثاراً كبيرة في الواقع اللبناني والعربي والإسلامي، وساهمت في تقديم صورة الإسلام الأصيل المنفتح على قضايا العصر والحياة، فلم تقف حركة الإمام الصدر عند حدود أبناء طائفته أو مذهبه، ولكنّه سعى لتوثيق روابط الوحدة الإسلامية والوطنية، والتلاقي بين الأديان، وتعزيز العلاقات بين الدول العربية، وإزالة التوترات. وقد كانت رحلته الأخيرة إلى ليبيا، التي اختُطِف خلالها، تتمحور حول هذا الأمر.

 

 لقد أراد سماحته للبنان أن يكون أنموذجاً في التلاقي الإسلامي المسيحي، والإسلامي الإسلامي، وفي تلاقي الحضارات، في ظلّ التنوع الموجود، الذي كان يراه غنًى وثروةً ينبغي عدم التفريط فيها.

 

وقد سعى إلى قيام دولة قوية في لبنان، من خلال تعزيز روح المشاركة بين الطوائف والمذاهب، وإزالة الحرمان الذي كان يراه باباً قد ينفذ منه لإثارة الفتن والحروب الأهليّة… فوقف إلى جانب المحرومين من كل الطوائف، في مواجهة الزعامات والسلطات التي تقف وراء هذا الحرمان، ونادى بوحدة المحرومين، ودعاهم إلى أن يعملوا معاً على مواجهة واقعهم ورفع الغبن عنهم.

 

لقد حمل السيد موسى الصدر همّ القضية الفلسطينية، ورأى أن القدس لا تتحرر إلا بأيدي المؤمنين، وكان له دوره في تأسيس المقاومة وبناء مقوِّماتها، لضمان قوة لبنان ومواجهة التحدي الصهيوني المستمر له.

 

 إننا بحاجة ماسة في هذه المناسبة إلى استحضار هذه الشخصية الرائدة وكلّ الشّخصيات المماثلة، التي لم تبخل بتقديم كل التضحيات من أجل النهوض بالوطن والأمة، والتزود من معينها، والاقتداء بتوجهاتها، لمواجهة التحديات التي تعصف بأمتنا ومجتمعنا من كل جانب.

 

ندعو الله سبحانه وتعالى أن تحمل الأيام القادمة أخباراً تكشف عن مصير الإمام ورفيقيه، إنه مجيب الدعاء.

 

المكتب الإعلامي لسماحة العلامة السيد علي فضل الله

التاريخ : 23ذو القعدة 1437هـ الموافق : 26آب2016م
 

Leave A Reply