الإمام الحسن: حليم أهل البيت (ع)

الخطبة الأولى

قال الله سبحانه: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً}[الأحزاب: 33]. صدق الله العظيم.

استعدنا في السابع من شهر صفر، ذكرى وفاة واحدٍ من أهل هذا البيت الذين أذهب الله عنهم الرّجس وطهَّرهم تطهيراً، وجعله صمَّام أمان من الضّلال والانحراف والوقوع في الفتن، وهو الإمام الحسن بن عليّ (ع)، سبط رسول الله، وسيّد شباب أهل الجنّة.

هذا الإمام الذي حظي منذ نعومة أظفاره برعاية رسول الله (ص) وتربيته، فانطبعت شخصيّته بشخصيّة النبيّ (ص)، فكان أشبه النّاس به خَلْقاً وخُلُقاً وهَدياً وسؤدداً.

وقد بلغ من الشّأن والموقع عنده أن يقول عنه: “حسن منّي وأنا من حسن”، وأن يشهد الله على حبّه له ويدعو لمن يحبّه: “اللّهمّ إنّك تعلم أني أحبه، فأحبّه وأحبّ من يحبّه”.

حليم أهل البيت (ع)

ونحن عندما نستعيد هذه الذّكرى، نتوقّف عند واحدة من الخصال التي تميّز بها هذا الإمام (ع)، والتي قرنت به، وهي صفة الحلم، فقد كان يوصف بأنّه حليم أهل البيت، وهذا يعود إلى أنّ المرحلة التي عاشها كانت تقتضي منه أن يواجهها بحلم.

وهذه الصّفة شهد له بها واحد من ألدّ أعدائه وأعداء أبيه، وهو مروان بن الحكم، حيث يُذكَر أنّه لما توفي الإمام الحسن (ع) وأخرجت جنازته، أصرّ “مروان بن الحكم” على المشاركة في حملها، فقال له الإمام الحسين (ع): “تحمل اليوم جنازته، وكنت بالأمس تجرّعه الغيظ؟”، فقال مروان: “نعم، كنت أفعل ذلك بمن يوازن حلمه الجبال”.

والحلم، أيّها الأحبّة، يعني أن يملك الإنسان نفسه ويضبط أعصابه عندما يتعرّض لإساءات الآخرين، فلا يتحرّك بوحي غضبه وانفعاله وتوتره… وهذا ما يمنح الإنسان فرصة للتّفكير الهادئ والتّقدير السّديد لكيفيّة الردّ على هذه الإساءات، فيعفو إن اقتضى الأمر العفو، ويردّ إن كانت الحكمة تقتضي أن يردَّ بالمثل.

وهذا ما عبَّر عنه الإمام الحسن (ع) عندما سُئل عن معنى الحلم، فقال: “أفضَلُ الحِلمِ كَظْمُ الغَيظِ ومِلْكُ النّفْسِ”.

من سيرته (ع)

وقد ورد في سيرته (ع) أنّه مرّ عليه يوماً رجل من الشّام، ممن كان معاوية قد غذَّاهم بالحقد والكراهية لأهل البيت (ع)، والإمام آنذاك كان جالساً بين أصحابه. وبدون أيّ مقدّمات، راح الرّجل يكيل للإمام (ع) السّباب والشّتائم، فلم يردّ الإمام بالمثل، رغم أنّه كان قادرا على ذلك، حتى فرغ الرّجل من كلامه. عندها أقبل عليه بابتسامته المعهودة وقال له: “أيّها الشّيخ، أظنّك غريباً، ولعلّك شبّهت، فلو استعتبتنا أعتبناك، ولو سألتنا أعطيناك، ولو استرشدتنا أرشدناك، ولو استحملتنا أحملناك، وإن كنت جائعاً أشبعناك، وإن كنت عرياناً كسوناك، وإن كنت محتاجاً أغنيناك، وإن كنت طريداً آويناك…”. بعدها، دعاه الإمام (ع) إلى بيته، حيث حظي بالتّكريم والرّعاية وحسن التّعامل، فخرج من عنده وهو يقول: أشهد أنّك خليفة الله في أرضه، الله أعلم حيث يجعل رسالته. كنت أنت وأبوك أبغض خلق الله إليّ، والآن أنت أحبّ خلق الله إليّ.

وموقف ثانٍ، هو حلمه مع بعض أصحابه الّذين اعترضوا على صلحه مع معاوية، لأنهم لم يفهموا منطلقاته في هذا الصّلح، ولا الأهداف التي كان يسعى إليها، وقد وصل الأمر ببعضهم أن راح يخاطب الإمام: “السَّلام عليك يا مذلَّ المؤمنين”، وهناك من قال: “لوددت أنّك متَّ في ذلك اليوم ومتنا معك”. وكان الإمام (ع) يواجه كلّ ذلك بسعة صدره، لم يعنّفهم، بل بقي يناقشهم ويحدّثهم بالأسباب التي حملته على قبول الصّلح الذي كان يبتغي منه صون الإسلام والمجتمع الإسلاميّ، ويحاول إفهامهم بالّتي هي أحسن أنّ الصلح إنما كان ضرورة من أجل سلامتهم، حتى عادوا عن إساءاتهم بعدما فهموا حقيقة موقف الإمام (ع).

موقف ثالث من مواقف حلمه، وهو ما أوصى به الحسين (ع) قبل استشهاده، عندما أوصاه بأن يدفنه قرب قبر جدّه رسول الله (ص)، وإن أبى بنو أميّة ذلك، فدعهم ولا تقاتلهم على ذلك، فلا أريد أن تهريق فيّ محجمة من دم، وأدفن في البقيع… وهذا الذي حصل، فقد دفن هناك إلى جانب جدّته فاطمة بنت أسد.

كيف نقتدي به (ع)؟!

أيّها الأحبّة: لقد كان الإمام (ع) قادراً في كلّ هذه المواقف على أن يبادل الإساءات التي حصلت معه بمثلها، وأن يردّ عليهم بالقسوة التي تعاملوا بها معه، ولديه كلّ القدرة والشّجاعة على ذلك، ولكنه لم يتصرّف بهذا الأسلوب على الإساءة إليه، بل بمنطق الرساليّين الذين يفكّرون في كيفيّة اكتساب من يسيئون إليهم، لا زيادة تشنّجهم وعداوتهم.

إنّنا أحوج ما نكون إلى الاقتداء بهذا الإمام (ع) في كلّ خصاله، وخصوصاً في حلمه، لنعالج التوتّرات التي تحصل من إساءات الآخرين، سواء في الواقع الاجتماعي أو السياسي أو المذهبي أو العائلي، فلا نستعجل في ردود الفعل، بل نتأنى ونعدّ إلى العشرة، بل إلى المئة، قبل أن نطلق موقفاً وقراراً أو نصدر حكماً، ليأتي بعد ذلك أيّ موقف أو قرار بناءً على دراسة ووعي وحكمة، فكلّنا يعرف أيّ تداعيات قد تحصل عندما يترك العنان للانفعال والتوتّر أو ليستحكم في النفوس.

فقد ورد في الأحاديث أنّ: “الغضب مفتاح كلّ شرّ”، وأنّ “الحدّة ضرب من الجنون”. فكم من غضبٍ أفسد حجّة صاحب حقّ وحوّل المظلوم إلى ظالم.

ولذلك، عزَّزت الأحاديث الشّريفة والآيات القرآنيّة موقع الحلم، فقد ورد في الحديث: “كاد الحليم أن يكون نبيّاً”، “الحلم عند شدّة الغضب يؤمن غضب الجبّار”.

وهو ما دعانا الله سبحانه وتعالى إلى المسارعة إليه: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}[آل عمران: 133 ـ 134]..

لكن هذا لن يحصل عليه إلا الصّابرون، وهذا ما أشار إليه تعالى بقوله: {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ}[فصّلت: 34 _ 35]، ولا يصل إليه إلا أصحاب العقول، فقد ورد في الحديث: “بوفور العقل يتوفّر الحلم”.

 جعلنا الله منهم، لنكون حسنيّين قولاً وفعلاً.

وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين.

بسم الله الرَّحمن الرَّحيم

الخطبة الثانية

عباد الله، أوصيكم وأوصي نفسي بوصايا الإمام الحسن (ع) لنا، عندما قال: “يا بن آدم، عفّ عن محارم الله تكن عابداً، وارض بما قسم الله سبحانه تكن غنيّاً، وأحسن جوار من جاورك تكن مسلماً، وصاحب النّاس بمثل ما تحبّ أن يصاحبوك به تكن عدلاً، إنّه كان بين أيديكم أقوام يجمعون كثيراً، ويبنون مشيداً، ويأملون بعيداً، أصبح جمعهم بوراً، وعملهم غروراً، ومساكنهم قبوراً. يا بن آدم، إنّك لم تزل في هدم عمرك منذ سقطت من بطن أمّك، فخذ مما في يديك لما بين يديك، فإنَّ المؤمن يتزوَّد، والكافر يتمتّع”.

إنّنا أحوج ما نكون إلى أن نتزوّد بهذه الوصايا وأن نعمل بها، لنعبِّر عن حبّنا لهذا الإمام وأهل بيته. وهذا ما أوضحه عندما جاء إليه رجل قال له: إني من شيعتكم. فقال الحسن بن عليّ (ع): “يا عبد الله، إن كنت لنا في أوامرنا وزواجرنا مطيعاً، فقد صدقت، وإن كنت بخلاف ذلك، فلا تزد في ذنوبك بدعواك مرتبة شريفة لست من أهلها”.

ومتى وعينا ذلك، نصبح أكثر وعياً ومسؤوليّةً وقدرةً على مواجهة التحدّيات.

لبنان: تفاقم الأزمات

والبداية من لبنان، حيث لا يزال اللّبنانيّون يعانون الأزمات التي تتفاقم يوماً بعد يوم، على الصعيد الصحي والاقتصادي والمالي والمعيشي والخدماتي، وهم يخشون من المصير الّذي حذَّر منه أعلى موقع رسميّ في البلاد إن بقيت الأمور على حالها، وإن لم تقم القوى السياسيّة بمسؤوليّتها في إصلاح ما أفسدته، وجبر ما كسرته، واستنفاد كلّ السّبل في ذلك.

في هذا الوقت، وعلى الصعيد الحكومي، لا تزال التعقيدات الداخليّة، والتي تتغذَّى من تعقيدات ومصالح خارجيّة، تقف حائلاً أمام ولادة حكومة ينتظرها الجميع لإخراج البلد من هذه الأزمة المتفاقمة.

ونحن في هذا المجال، نعيد دعوة كلّ القوى المعنيّة بتأليف الحكومة، إلى العمل على إزالة كلّ العقبات التي لا تزال تعترض هذا التّأليف، من خلال الحوار العقلانيّ البنّاء الذي يهدف إلى مصلحة إنسان هذا البلد، على أن يكون بعيداً كلّ البعد من منطق الغلبة والاستقواء بالخارج، ومنطق التفرّد والاستئثار واعتماد سياسة الإقصاء.

فقد أصبح واضحاً أنّ أيّ حكومة لا تراعي التوازن، وتدير ظهرها للهواجس التي تشعر بها الطوائف والمذاهب والمواقع السياسيّة الفاعلة والمؤثّرة، لن تتمكّن من الاستمرار أو إنقاذ البلد من أزماته، أو السّير في طريق الإصلاح وستشرّع أبواب البلد أمام التدخّلات الخارجيّة.

 ونحن في هذا المجال، ننبّه من خطورة استخدام الخطاب الطائفي في الصّراع السياسيّ، لتداعيات ذلك على علاقة الطوائف فيما بينها وعلى السِّلم الأهليّ، ولأنّه يسمح للنّافخين في نار الفتنة الطائفيّة والمذهبيّة أن يجدوا مجالاً رحباً لهم.

إننا نريد لكل الذين يعملون في الواقع السياسي أن ينأوا بأنفسهم عن هذا الاستخدام الذي لن يستفيد منه أحد بل الكل فيه خاسر، وسيحرق البلد ويعقد الأمور.

في الوقت نفسه، نريد للقيادات الدينيّة أن تكون واعيةً لما يراد لها، وأن لا تسمح لأحدٍ بأن يحوِّل الدِّين الذي جاء لمصلحة النَّاس جميعاً إلى أداة في حسابات المصالح الخاصّة للقوى السياسيّة.. وهنا ننوّه بكلّ المبادرات الساعية إلى تخفيف التشنّج الطائفيّ والمذهبيّ، وندعو إلى المزيد من العمل في هذا المجال..

وفي الوقت نفسه، ندعو وسائل الإعلام ووسائط التّواصل الاجتماعيّ، إلى أن يكون دورها إطفائياً عقلانياً موحِّداً، ولا يصبّ الزّيت على النّار.

خطر كورونا يتصاعد

في هذا الجوّ المتأزّم، تتصاعد أعداد الإصابات بفيروس كورونا، والذي بلغ مرحلة الخطورة، ما يستدعي مزيداً من الوعي والحذر، بعدما أصبح واضحاً أن لا قدرة على إغلاق البلد، لصعوبة الواقع الاقتصادي وعدم قدرة المواطنين على تحمّل تبعاته.

ونحن في هذا المجال، نعيد التّأكيد على ضرورة التقيّد بأعلى درجات السَّلامة والوقاية، واستنفار المستشفيات الخاصّة ومساعدتها في تحمّل مسؤوليّتها في هذا المجال، وهي التي تعاني عدم قيام الدولة بسداد المتوجّبات عليها.

وهنا، لا بدّ من الالتفات جيّداً إلى الوضع الإنسانيّ للسجناء، ولا سيّما في سجن رومية المكتظّ، وضرورة الإصغاء إلى أصوات المساجين وأصوات أهاليهم، ودراسة سبل الوقاية والعلاج لهم، فهو حقّ لهم على الدّولة وعلى الوطن.

السّلاح لحماية البلد

وأخيراً، تتصاعد الأصوات من الدّاخل والخارج لتطالب بسحب سلاح المقاومة الّذي حرَّر الوطن، وشكّل ـ  ولا يزال ـ موقعاً من مواقع ردع العدوّ، بحجج لا نراها تصبّ في مصلحة الوطن، حيث لم يكفّ هذا العدو عن العبث ببرّه وجوّه وبحره.

 إنّنا ندعو اللّبنانيّين إلى الوعي، وأن لا يخلطوا بين الصّراع السياسي الدّائر في الداخل، فمن حقّ الجميع أن يكون لهم رأيهم، وبين مسؤوليّة الحفاظ على قوَّة لبنان التي نحن أحوج ما نكون إليها، إلى أن تتوافر القوّة للجيش اللّبناني الّذي هو المعنيّ الأساس بالدفاع عن لبنان.