السيد علي فضل الله في ذكرى رحيل والده العلامة المرجع: أناشد الإعلام الدّينيّ بخاصَّة أن يحترم مسؤوليَّة الكلمة بتسليط الضَّوء على ما يجمعنا
على مالكي القرار السياسي أن يتذكروا وصيته… بأن يخرجوا من زنازين الطائفية والمذهبيّة والعشائريّة إلى رحاب إنسانيّتهم..
خاص – اللواء الإسلامي:
غدا في الخامس من شهر تموز.. تمر علينا ذكرى رحيل سماحة العلامة السيد محمد حسين فضل الله رحمه الله تعالى..
ذلك العالم المجتهد الكبير الذي أثبت رحيله بكل قوة… أنه باقٍ..!!
والحديث عنه هو حديث من نوع خاص ومميز،
حديث عن عالم وفقيه ومبدع ومجدد.. برع في دراسة ماضي الأمة فأيقظ حاضرها ودعا إلى حسن صياغة مستقبلها…
فالسيد محمد حسين فضل الله.. هو الذي قضى حياته كلها يدعو إلى الإيمان والعمل مرددا (إن أمةً محمد رسولها وقائدها ونبيها.. هي أمة تحمل المسؤولية وتحمل على أكتافها الكثير من الأثقال لا أمة تعيش الإتكال)…
وهو الذي رأى التناقض بين ما يقال و بين ما يفعل فتحدث بلسان الناصح المحب لأمته (إنَّ على أي داعية لأي خط أو منهج أو فكرة أنْ يكون أول السائرين في الطريق الذي يدعو إليه)..
وهو أيضا الوحدوي الكبير الذي قضى عمره كله يدعو إلى الوحدة بين المسلمين مرددا بكلمات الصدق (الكتاب أولاً والسنة معه ثانياً.. وعندها تتكامل ثقافتنا وينفتح إسلامنا الذي يرتكز على قاعدتين: كتاب الله وسنة نبيه)…
واليوم.. وبمناسبة ذكرى رحيل كبير من كبراء العالم الإسلامي والعربي، نلتقي مع سماحة العلامة السيد علي فضل الله في هذا الحوار الذي نجول من خلاله في رحاب الذكرى مستذكرين بعضا من «الكلام السيد»…
الفتنة لن تكون
* بدايةً، في أجواء الذّكرى السنويّة لرحيل سماحة العلامة السيّد محمد حسين فضل الله، ما هي الكلمة الّتي تتوجّهون بها إلى الشّعب اللّبنانيّ عامّة، في ظلّ الظّروف الّتي يمرّ بها لبنان؟
– لن يقع لبنان الرّسالة والعيش المشترك في أيّ فتنة دينيّة، ولكنّ الخوف على لبنان ومصيره ناجم باستمرار من زعامات الفتن السياسيّة الّتي تتخندق وراء طوائفها، وتستغلّ العواطف الدّينيّة لتبرير صراعاتها في الدّاخل لحساب الخارج وتدخّلاته، ومن هنا كانت مناداتي في الماضي كما في الحاضر، لإنقاذ لبنان واللّبنانيّين من لعبة الصّراع الإقليميّ والدّوليّ. صحيح أنّ لبنان يتأثّر بارتدادات محيطه، إلا أنَّ هذه الارتدادات ما كانت لتحصل لولا استجابة اللّبنانيّين الطوعيّة لها. ولقد شهدنا في المراحل السّابقة، محاولات حثيثة وواعية من قبل المخلصين لإخماد الفتن المستوردة من خارج لبنان، ولكنّ السّؤال التحدّي هو: هل بوسع لبنان بنظامه السياسي والاجتماعي المرتبك، وبكل القوى الداخلية التي تختلف الأولويات عندها، أن يكون حيادياً عما يجري في المنطقة والعالم؟
وقد كشفت تطوّرات التغيير المتسارعة في المنطقة، والأحداث المؤلمة في سورية، أن سياسة النأي بالنفس لم تكن فاعلة، ذلك أنّ لبنان الأحزاب والتيّارات السياسيّة المختلفة، لم يكن حياديّاً، ولن يسعه أن يكون كذلك في المستقبل.
ومن هنا كنّا نقول للّبنانيّين ولا نزال، إنَّ من حقّ كلّ فريق أن يكون له رأيه السياسيّ، أو علاقاته مع هذه الدّولة أو تلك، أو هذا المحور الإقليمي أو ذاك، ولكن ليس من حقّ أحد أن يسيء إلى وحدة بلده وسلمه الدّاخليّ.
لتكن القاعدة الّتي تحكمنا في هذا البلد، هي ما قاله أمير المؤمنين (ع): «لأسلمنّ ما سلمت أمور المسلمين»… ولنقل: «لأسلمنّ ما سلمت أمور اللّبنانيّين»، فلا نقدم على أيّ خطوة تجعل هذا البلد في مهبّ رياح الفتن، أو تجعله لا يملك القدرة على الصّمود أمام التحدّي الكبير في مواجهة العدوّ الصّهيونيّ الّذي لا يزال يحتلّ أرضنا ويشكّل تهديداً لنا…
أعود وأقول… فليكن العمل لتلاقي الّذين يملكون القرار السياسيّ في هذا البلد على القواسم المشتركة، بعد أن يخرجوا من زنازين الطائفية والمذهبيّة والعشائريّة إلى رحاب إنسانيّتهم، كما كان يقول سماحة السيّد. ومن هنا كان قوله: «إذا أردنا للواقع أن يتغيّر.. فإنّ علينا أن نخرج أفكارنا وعواطفنا ومشاعرنا من هذه الزّنزانة الضيّقة الّتي تضجّ بعصبيّاتنا وذاتيّاتنا».
الوحدة الإسلامية
* نعلم أنّ من أشهر وصايا سماحة العلامة السيّد محمد حسين فضل الله، أن لا يغلِّب المسلمون المذهب على حساب الإسلام. فما كلمتكم في هذا الأمر، في عصرنا المليء بالفتن المذهبيّة؟
– من الشّرك الخفيّ، أن تصبح المذاهب أصناماً نتعبَّد بها بديلاً من الإسلام كدين، الّذي هو العنوان الجامع، علماً أنّ المذاهب الفقهيّة والاجتهاديّة، لم تكن في يوم من الأيّام ظاهرةً سلبيّة في حياة المسلمين، وقد أنجز المسلمون حضارتهم الكبرى ومنجزاتهم العلميّة المضيئة في ظلّ تلك المذاهب وأئمّتها، ولم يسجّل التاريخ الإسلامي أنّ المذاهب الإسلاميّة المتنوّعة كانت سبباً أو عاملاً في الانحطاط أو الهزيمة أو الفتن ، وما يجري اليوم، لا يصحّ تسميته بالفتن المذهبيّة، لأنها فتن سياسيّة تتزيّا بالتديّن المذهبيّ الّذي جرى توظيف عصبيّاته وجهالاته لأغراض لا تمتّ إلى الإسلام ولا إلى مذاهبه بأيّة صلة، وشاهدي على ذلك، أنّ حركات العنف والتطرّف الدّينيّ لم تترعرع في داخل المدارس الفقهيّة لمذاهبنا، بل إنَّ بعضها ترعرع في أوكار الجهل والعصبيَّة والبطالة الّتي سمحت بتناميها وتغذيتها، لتبدو كأنّها محسوبة على هذا المذهب أو ذاك. كما أنّ اعترافات المتطرّفين أنفسهم، تفيد بأنّ الّذي دفعهم إلى ارتكاب جرائمهم، تعود إلى حالات نفسيّة تتَّصل بوضعيّة اليأس الّتي بلغت ذروتها بفعل حالات التشوّه الديني والأخلاقي، واستشراء البؤس والأميّة والمظالم، وسواها من الحالات الّتي باتت مرتعاً لتشكيل الخلايا المتطرّفة والمعقّدة، من مشرق العالم الإسلاميّ إلى مغربه.
وكلمتي إلى المسلمين في ذكرى السيِّد(رض)، أن نحمي مذاهبنا من الدّخلاء، وأن نردَّ الاعتبار إلى أدبيَّات الكلمة المسؤولة، والموقف العاقل، والدَّعوة إلى الله سبحانه بالحكمة والموعظة الحسنة.. ولقد سئل السيِّد(رض) ذات يوم عن شرارة الفتنة من أين تبدأ، فقال: «مشكلتنا أنّنا في لبنان شعب يحبّ الكلام ولا يتحفّظ فيه… هذه هي المسألة الّتي لا بدّ من أن نواجهها. وقد ورد في كلام الإمام عليّ(ع): قلب الأحمق وراء لسانه، ولسان العاقل وراء قلبه… فكونوا العقلاء الّذين يتدبّرون الكلمة في كلّ سلبيّاتها وإيجابيَّاتها».
وفي ضوء هذه الوصيَّة، أناشد الإعلام، والإعلام الدّينيّ بخاصَّة، أن يحترم مسؤوليَّة الكلمة الإعلاميّة، بتسليط الضَّوء على ما يجمعنا، وهو أكثر بكثير مما نختلف عليه، وخصوصاً أنَّ لبنان لا يحتمل تصدير الفتن إليه. وحتّى لا تكون فتنة، سيكون مؤتمرنا الأوَّل في الذّكرى السنويّة الثّالثة لرحيل السيّد(رض) عن السيّد بصفته رائداً للوحدة والحوار .
أحسنوا استقبال رمضان
* نحن على أبواب شهر رمضان المبارك، فكيف ترون استعداد اللّبنانيّين بعامّة، والمسلمين بخاصّة، لاستقبال هذا الضّيف الكريم؟
– في إيماننا الإسلاميّ، أنَّ أبواب الرَّحمة يفتحها الله لعباده في شهر رمضان المبارك، ومن بركات هذه الرَّحمة، استجابة الدّعاء، ولا شرط لهبوط الرَّحمة واستجابة الدّعاء إلا التَّقوى، الّتي جعلها الله غاية الصّيام وفلسفته، وهو ما قاله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:183]. والتّقوى في مفهومها التّربويّ العميق، تعني مناعة الشخصيَّة المؤمنة من الانحراف والفساد، وهي قلعة الصَّائم الّتي تحميه من السّقوط في الاختبارات الدّنيوية.
ومن هنا تمحورت عبادة الصّيام في إرادة الامتناع الطّوعيّ عن الطّعام والشّراب وسواهما من المفطّرات، ليتربّى الصّائم على الجهاد الأكبر، أي مجاهدة النّفس وتزكيتها، بحسب الحديث النّبويّ الشّريف. والحكمة من هذا الامتناع، أن يواجه الصّائم رغباته وشهواته الدّنيويّة بهدف ترويضها لهدف أعلى وأسمى، هو هدف الاتّصال بدنياه الأخرى ونعيمها الأبديّ.
وما نرجوه من رحمة هذا الشّهر المبارك، أن نعود إلى تقاليدنا الإسلاميّة في لبنان، فنجعل من صيامنا فرصةً للتّسامح والغفران وصلة الأرحام ونبذ العداوات والفتن، ذلك أنَّ أفضل الأعمال في الشَّهر الكريم الورع عن محارم الله، وأفضل الأعمال في الشَّهر الإلهيّ، هو أن يتحسَّس الأغنياء جوع الفقراء وغربة الأيتام.
ولكنَّ الأمر المؤسف، أن نرى في لبنان وغير لبنان من عواصمنا العربيَّة والإسلاميَّة، من يعمل على تشويه هذه العبادة الاجتماعيَّة، واختطاف أنبل ما في دعوتها الأخلاقيَّة والإنسانيَّة، حيث يجري استقبال هذا الشَّهر الّذي ندعى فيه إلى ضيافة الله، بغير ما يجدر بنا أن نستقبله، من استعدادٍ للتطهّر والتَّوبة، وإصلاح ما فسد من أمور ديننا ودنيانا. ويا ليتنا نفتح عقولنا وقلوبنا على وصيَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم في استقبال شهر رمضان، لكي لا تتحوَّل فريضة الصّوم من عام إلى عام إلى مجرّد طقوس بلا معنى وبلا رسالة. وما نريد أن نتعلّمه من معنى الصّيام ورسالته، هو أن نصوم بألسنتنا عن الكذب، وأعيننا عن الخيانة، وأسماعنا عن اللّهو والباطل، وقلوبنا عن النّفاق والرّياء، ومواقفنا كلّها عن البغي والظّلم والعدوان.
* ما هي، في رأيكم، أبرز العوائق الّتي تقف في وجه نشر إسلام جامع بدلاً من الإسلام المذهبيّ والمناطقيّ الّذين نراه في مجتمعنا؟
– من الواضح أنَّ أزمة القطيعة بين المسلمين قد تركت تأثيرها الواضح على الخطاب المذهبيّ، وقد استمرّت هذه القطيعة بفعل الصّور النّمطيّة المتبادلة الّتي شكّلها المسلمون عن بعضهم البعض عبر تاريخهم السياسيّ والدّينيّ، ونحن نعلم أنَّ جانباً كبيراً من تلك الصّور، لم تكن سوى حالات شاذَّة عمل الاستعمار والاستشراق القديم على تظهيرها كما لو أنّها الواقع الّذي يمثّل رأي هذا المذهب أو ذاك. ومن أمثلة ذلك، ونحن نستقبل شهر القرآن، أن تثار على قنوات الفتنة وفضائيّات التّفريق بين المسلمين، مقولات تروّج لنظريّات باطلة، كالقول إنّ للمسلمين الشّيعة قرآناً يختلف عن قرآن المسلمين السنّة، وغير ذلك من المقولات. ومن هنا أقول، إنّ من أبرز العوائق الّتي تقف في وجه نشر الإسلام الجامع، هو جهل المسلمين، لا بعقائد بعضهم بعضاً وتمايزاتها الاجتهاديّة فحسب، بل بالجوهر العميق من أصول الإسلام وقيمه ورسالته الّتي جرى اختزالها طائفيّاً في كثير من موسوعات الفقه والحديث والتّفسير.
ولعلّ من أخطر تلك العوائق، أن يتحوّل التنوّع الفقهيّ والمذهبيّ إلى خنادق وجزر متنائية، بذريعة أنّ هذا الفريق أو ذاك هو الممثّل الشّرعيّ الوحيد للإسلام، وإذا كان الإسلام يقوم على التّوحيد، والأمّة الإسلاميّة هي أمّة التوحيد، فإنّ المطلوب قرآنياً ونبوياً، أن نجتمع تحت هذه العقيدة الجامعة، ولا سيّما أن جميع المذاهب الإسلامية تواجه اليوم الأخطار المشتركة والتحديات المشتركة من جميع الجهات الّتي تقضّ مضاجع الأسرة المسلمة ومستقبل أطفالها وأجيالها.
إنَّنا نعتقد أنَّ المسلمين لو انفتح كلّ منهم على داخله، بحيث ناقش ما عنده بكلّ موضوعيّة، وبعيداً عن العصبيّات، فسوف تتَّسع القواسم المشتركة، وقد نصل إلى الإسلام الجامع، وعند الاختلاف، نعود إلى ما دعانا إليه الله تعالى، عندما قال: {إِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً}[النّساء: 59].
ومن هنا، نوجِّه نداءنا إلى علماء الأمَّة في شهر رمضان، شهر القرآن، أن يعيدوا الأمَّة إلى قرآنها الجامع، ومع القرآن، نستطيع تصحيح العلاقات المتوتّرة بين المسلمين، وإصلاح ذات البين، ومجانبة التّنازع والفتن، ومن دون ذلك، فإنّ الجميع خاسرون، فيما نراه من تشويه علنيّ لصورة الإسلام وسمعته العالميّة.
إنّا ندعو إلى أن يكون شهر رمضان في هذه السّنة شهراً يتخفَّف فيه المسلمون من أحقادهم، ويعودون فيه إلى صفائهم، ويزيلون التوتّرات الّتي يراد لها أن تعصف بواقعهم.. أن يستذكروا في هذا الزّمن كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم: «المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه… لا ترجعنّ بعدي كفّاراً يضرب بعدكم رقاب بعض».
فضاء التّواصل مع الآخرين
* ما هي كلمتكم الأخيرة؟
– إنّنا نبتهل إلى المولى سبحانه، أن يفتح عقولنا على الحكمة، وقلوبنا على المحبّة، فنحمل المسؤوليّة الملقاة على كواهلنا جميعاً؛ كلّ من خلال موقعه، ووسيلتنا إلى ذلك، أن نردَّ الاعتبار إلى قيمنا الإسلاميَّة، وأوّلها الأخلاق، وشهر رمضان المبارك هو شهر الأخلاق، والأخلاق في فلسفتها الرّوحيّة والاجتماعيّة العميقة، أن نخرج من دوائرنا الضيّقة إلى فضاء التّواصل والتّراحم مع الآخرين، لنبحث عن آمالنا المشتركة بمستقبل واعد، وغد أفضل، لا مكان فيه للكراهية أو البغضاء: {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ} [الحشر: 10].