الإسلام دين المرحمة لا دين استباحة الدّماء

بسم الله الرّحمن الرّحيم

ألقى سماحة العلامة السيّد علي فضل الله، خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عددٍ من الشخصيّات العلمائيّة والسياسيّة والاجتماعيّة، وحشدٍ من المؤمنين، ومما جاء في خطبته السياسية:

الخطبة الاولى

في حديثٍ لرسول الله(ص)، أجاب فيه عن سؤالٍ طرحه أحد الصَّحابة حين سأل: يا رسول الله، من هم أوَّل النَّاس حساباً يوم القيامة؟ فقال (ص): "أوَّل ما يحكم الله فيه يوم القيامة الدّماء، فيوقف ابني آدم هابيل وقابيل، فيفصل بينهما، ثم الّذين يلونهما من أصحاب الدّماء، حتّى لا يبقى منهم أحد، فيأتي المقتول بقاتله فيقول: يا ربّ، يا عدل، هذا قتلني، فيقول الله عزّ وجلّ: أنت قتلته؟ تجرّأت عليّ، فسلبته الحياة الّتي منحتها له.. فلا يستطيع القاتل أن يكتم الله حديثاً. ثم بعد ذلك يؤمر به إلى النّار".

حكم استباحة الدّماء

أيّها الأحبّة: لم يحذّر الإسلام من ذنب بعد الشّرك كتحذيره من استباحة الدّماء أو القتل بغير حقّ: {مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً}[المائدة: 32].

وموضوع استباحة الدّم والقتل موضوع حسَّاس جدّاً من منظور الإسلام، فالأحكام لم تقف عند الأسباب المباشرة للقتل، بل تجاوزتها إلى النّظر في الأسباب غير المباشرة أيضاً.

ماذا يعني هذا؟ يعني أنّه إذا تسبّب الإنسان بالقتل مباشرةً، أو كان له علاقة بذلك من قريب أو بعيد ولو بكلمة تحريض، فحسابه حساب القاتل.

ففي الحديث: "من شرك في دم حرام بشطر كلمة، جاء يوم القيامة مكتوب بين عينيه: آيس من رحمة الله".

وفي الحديث أيضاً، أنّه يؤتى للإنسان يوم القيامة بقارورةٍ من دم، فيقال: هذا نصيبك من دم فلان، فيقول: يا ربّ، أنا لم أقتل ولم أجرح، فيُقال له صحيح أنّك لم تفعل ذلك، ولكن أطلقت العنان لكلماتك ومواقفك وتصريحاتك الّتي التقت مع كلمة من هذا وكلمة من ذاك، فتراكمت وأدّت إلى فتنة قتلت وجرحت, فأنت تتحمّل مسؤوليّة ما حصل.                                        

القانون قد لا يلحظ هذه الأمور  بهذه الدقّة، لكنّ قوانين الله أكثر دقّةً، وكلّه محسوب عنده، تصوّروا أنّ مجرّد السّكوت عن قول كلمة حقّ تمنع قتل إنسان، هو ذنب سيحاسب الله عليه. نعم، سيحاسب الله على الصّمت أو على الهروب وعدم التدخّل، في حين كان التدخّل يحلّ المشكلة أو يمنع دماً.

إذاً، ليس من يحمل سلاحاً حديديّاً هو من يقتل فقط، الكلمات تقتل أيضاً، وهي متوفّرة ومباحة، ولا تحتاج إلى أموال لشرائها، هذا ما تفعله الوشاية أو الفتنة أو الإشاعة أو الاتهام أو التّحريض، لذلك فإنَّ السّكوت عن قول كلمة حقّ ما هو إلا سلاح سلبيّ، ومفعوله لا يقلّ عن خطر التّحريض في مرّات كثيرة…

تنقل لنا السّيرة، أنّه في أيّام رسول الله(ص)، وُجِد رجل مقتول من قبيلة جهينة، إحدى قبائل المدينة، ولم يُعلم قاتله، وسكت النّاس، إذ اعتبروا أنفسهم غير معنيّين…

يومها غضب رسول الله غضباً شديداً لم يُعهد عنه أنّه غضب مثله، وسارع لدعوة المسلمين إلى الاجتماع في المسجد. لقد أراد أن يحمّل كلّ المسلمين المسؤوليّة.. كيف لا والأمر جلل؛ إنّها نفس بشريّة قتلت وأزهقت روحها. فقال لهم: "أيقتل رجل وأنا بين أظهركم ولا يُعلم من قتله! لو أنّ أهل السّماء والأرض اشتركوا في دم مسلم، لكان حقّاً على الله أن يكبّهم جميعاً على مناخرهم". ولم لا، والله قد توعّد كلّ من ينحرف ويستبيح الدّم عمداً بقوله: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً}[النّساء: 93].

وقد حذّر سبحانه وتعالى أيضاً: {وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}[الأنعام: 151].

ولكن، ما هو  هذا الحقّ الّذي قد يوسعه البعض إلى درجة مخيفة، وأيّ هامش أباحه الإسلام للقتل؟ وستتفاجأون كم ضيّق الإسلام هذا الهامش وحصره وقنّنه، وهو خلاف التّهمة الّتي يحاول أعداء الإسلام إلصاقها به كدين للقتل والدّم، والّتي فيها ظلم وتجنّ كبيران من المفترين والحاقدين من جهة، ومن المغالين في العُنفِ من بعض المسلمين أنفسهم من جهة أخرى.

حالتان تبيحان القتل

فالإسلام لم يبح حقّ القتل إلا في حالتين:

الحالة الأولى: جواز القتال دفاعاً عن النفس: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا…}[البقرة: 190].

والحالة الثّانية: لدرء الفتنة، أي لإزالة الضّغوط الّتي قد يتعرّض لها المسلمون، بمنعهم من ممارسة حريّة معتقدهم والتّعبير عن دينهم، أو الدّعوة إليه، كما أشار إلى ذلك الله سبحانه: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ…}[البقرة: 193].

إذاً هي قاعدة: الحياة ثمنها الحياة، عبر درء اعتداء المعتدين وإساءاتهم إلى الكرامات والأنفس والمال والعرض، وعبر الحفاظ على حرّية الدّين والمعتقد، وهذا هو الحياة بعينها.

وما أودّ التّركيز عليه، أنّه حتّى في الحالات الّتي رخّص الإسلام فيها هذا القتل أو وجوبه في كثير من المرّات، فإنّ الإسلام حرص كثيراً على التّفاصيل عند التّطبيق، فقد يختبئ الشّيطان في التّفاصيل، لهذا حرص الإسلام على إحاطة إقامة الحدود بقيود على مستوى الإثبات والشّهود، لتبقى هذه الأحكام في إطار الدقّة والعدالة. والشّريعة احتاطت إلى حدّ كبير في موضوع الدّماء؛ فمثلاً، أجاز الإسلام قصاص القتل للقاتل، ولكن بعد أن تثبت إدانته، وليس على الشّبهة، ويكفي وجود الشّكّ حتّى لا ينفّذ الحكم، وكذلك الحكم بالارتداد. وأجاز عقاب فاحشة الزّنا بالرّجم، ولكن بعد التثبّت، والتثبّت بحدّ ذاته معقّد؛ ويتطلّب أربعة شهود على الفاحشة.

وحتّى القتال علينا أن نفهمه أنّه علاج وليس مزاجاً، لذلك كان التّشريع الإسلاميّ حريصاً على أخلاقيّات القتال ليخفّف من قسوته، ليس لأنّ الخصم، أي العدوّ، لا يستحقّ القسوة، بل لأنّ الحياة لا تحتمل القسوة إلا بمقدار الضّرورة، ولأنّ دينك وإيمانك لا يسمحان لك بأن تكون متوحّشاً وقاسياً. ومما ورد في وصيّة لأمير المؤمنين إلى المقاتلين: "…لا تقتلوا مدبراً، ولا تجهزوا على جريح، ولا تقتلوا شيخاً فانياً ولا امرأة… ولا تمثّلوا"…

جرائم باسم الإسلام؟!

وتروي لنا السّيرة، أنَّ الرّسول(ص) أنّب أسامة بن زيد تأنيباً شديداً على قتله أحد المشركين أثناء إحدى المعارك، كان قد نطق بالشّهادتين، رغم أنَّ هذا الرَّجل نطق بها في اللَّحظة الّتي استحكم فيها زيد عليه وغلبه، وكانت حجّة زيد أنَّ الرَّجل لم يكن صادقاً، وقالها خوفاً، هنا قال له النبيّ: هل دخلت قلبه فعرفت ما فيه؟ ونزلت في ذلك الآية: {وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِناً}[النّساء: 94].

البعض اليوم تراه أصبح خبيراً بالنّوايا ويصنّف المسلمين، بحيث يخرج قسماً منهم من الإسلام، ويتّهمهم بالكفر، مع أنّهم يصلّون ويصومون ويحجّون… لا لشيء إلا لأنّهم يختلفون معه في الشّأن السياسيّ؟ فهل لمجرّد اختلاف سياسيّ يُخرَّج النّاس من إسلامهم؟ هكذا وبكلّ بساطة؟ لقد باتت السياسة السّبب الرّئيس لهدر دماء المسلمين هذه الأيّام، والنّار الّتي تشعل الفتن المذهبيّة والطائفيّة والقوميّة.

المحزن، أيّها الأخوة، أنَّ هذه الصّورة هي الّتي نشهدها، الصّورة البشعة المقزّزة، هناك من يقتل تحت راية "لا إله إلا الله محمد رسول الله"، وتحت عنوان الإسلام دين الرّحمة، يستبيح دم مسلمين وغير مسلمين، لم يقاتلوهم على الدّين ولم يخرجوهم من ديارهم.. لماذا؟ لأنّهم يختلفون معهم في المذهب أو في الموقف السياسيّ.

المشهد اليوم مخيف ومجنون، حتّى على مستوى الأفراد، فإنّك بتّ ترى استسهالاً خطيراً لتناول السّلاح كلّما حدثت مشكلة: إن على عبور في طريق، أو خلاف على مال، أو اختلاف في العمل والمصالح،  وحتّى موضوع الثّأر وموضوع الشّرف، كلّها جرائم لا أسباب تخفيفيّة لها، ولا دخل للإسلام بها لا من قريب ولا من بعيد، ونحن نسمع بها كلّ يوم، وهي هاجس مجتمعاتنا الإسلاميّة.. ألهذه الدّرجة صار الدّم سهلاً؟

أين مجتمعات المسلمين من سنّة رسول الله، حين قال في إحدى مواعظه(ص): "إنّ امرأة دخلت النّار بسبب هرّة حبستها، حتّى ماتت عطشاً"، وأين هم منه، وهو الّذي نهى عن قتل كلّ ذي روح إلا أن يؤذي، وعن قطع الشّجر حتّى لا تحرم الطّيور من طعامها. أين هم من رسول الله وهو يدخل مكّة فاتحاً مطأطئاً رأسَهُ تواضعاً ورحمةً، وحين سمع حامل اللّواء يردّد:  اليوم يوم الملحمة، اليوم تسبى الحرمة، نحّاه جانباً ودعاه إلى القول: اليوم يوم المرحمة، اليوم تحمى الحرمة.

نسأل كلّ هؤلاء: ماذا يقولون في قول رسول الله(ص)  أمام الحجيج في حجّة الوداع: "إنّ دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا… كلّ المسلم على المسلم حرام: دمه، وماله، وعرضه.. فلا ترجعنّ بعدي كفّاراً يضرب بعضكم رقاب بعض".

المشكلة ليست في الإسلام، والإسلام بريء من كثير مما يحدث باسمه، ولكنّ المشكلة في من انتمى إلى الإسلام لكن لم يعش الإيمان.

هي دعوة ليعود كلّ من أسلم إلى الإيمان، وعند ذلك، سنلمس مدى قدرة هذا الإيمان على تنظيف القلوب من كلّ حقد وتوتّر.. {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آَيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ}[الأنفال: 2-3].

ترى، كم نحتاج من إنفاقٍ للمحبّة والرّحمة لنزيل الكثير الكثير من الدّماء، ولنكون ممن قال الله فيهم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ}[الحديد: 28] وبذلك نكون من المُنفقين؟

بسم الله الرَّحمن الرَّحيم

الخطبة الثّانية

عباد الله، أوصيكم وأوصي نفسي بتقوى الله. ومن التَّقوى، أن نعمل على إبقاء الصّورة النَّاصعة للإسلام، هذه الصّورة الّتي جعلت الفيلسوف الإنكليزيّ الشَّهير، برنارد شو، يتحدَّث عنها بكلّ إكبار وإجلال، عندما قال عن الإسلام: "إنَّ دين محمد هو الدّين الوحيد الحائز أهليّة الهضم لأطوار الحياة المختلفة لكلّ النّاس، والقادر على إيجاد الحلول لهم. إنَّ محمداً يجب أن يدعى منقذ الإنسانيّة، ولو تولّى مثله زعامة العالم الحديث، لنجح في حلّ مشكلاته، بطريقة تجلب إلى العالم السّلام والأمان. بهذه الرّوح، يجب أن نفهم محمّداً وما جاء به.. فهو أكمل البشر من الغابرين والحاضرين".

أيّها الأحبَّة، هذه الصّورة المشرقة عن الإسلام ورسوله، هي الّتي فرضت نفسها، لا على مفكّري المسلمين فحسب، بل على المفكّرين من غير المسلمين أيضاً. إنّنا نخشى أن تكون هذه الصّورة قد تبدّلت في أذهان الكثيرين، نتيجة ما يحدث في واقع المسلمين، سواء من أولئك الّذين يذبحون ويفجّرون ويقتلون بدم بارد، تحت عنوان إسلاميّ، أو تحت راية "لا إله إلا الله محمّد رسول الله"، أو من خلال الخطاب الإسلاميّ لبعض علماء المسلمين، أو بعض الفتاوى الّتي تصدر من هنا أو هناك، أو من خلال الممارسات الّتي تحصل من الّذين يتصدّرون الواقع السياسيّ، ومن الّذين يفترض بهم أن يقدّموا النّموذج الأرقى للحكم الإسلاميّ بحواريّته وانفتاحه ومشاركته وقدرته على إيجاد حلول النّاس ولو بشكل تدريجيّ، أو من خلال كلّ هذه الفتنة الّتي تعصف بالواقع الإسلاميّ، حيث يشعر العدوّ بارتياح كبير وبأمان لم يعهده من قبل، وبأمل لمستقبله بما يجري في العالم العربي والإسلاميّ من فتن وتوتّرات تضعف مواقع قوّته الّتي بدأت تقضّ مضاجعه في لبنان وفلسطين، وباتت مؤهّلة لتنتقل إلى مواقع أخرى.

ومن هنا، جاء كلام أحد معلّقي العدوّ السياسيّين وهو يتوجّه إلى الصّهاينة: "دعوا العرب ينتحرون"، وتمنّى آخر على حكومته البقاء على الحياد والتّصفيق من بعيد لما يسمّيه "الصّراع السنّي الشّيعي" في المنطقة.

انقسام سياسيّ يهدِّد العراق

ومع الأسف، فبدلاً من أن يدعو كلّ هذا الواقع، العرب والمسلمين إلى التّفكير جدّياً في كلّ السّبل الآيلة للخروج من هذا المأزق، نجد تمادياً في الإيغال في الفتن والتوتّرات، وهذا ما نشهده في العراق، حيث يستمرّ مسلسل التّفجيرات الدّامية في كلّ مدنه، حاصداً مزيداً من الأرواح، في ظلّ انقسام سياسيّ بعنوان مذهبيّ، يسمح للمصطادين في الماء العكر بأن يجدوا فرصة ذهبيّة للعبث بأمن هذا البلد.

 وفي إطار الحديث عن هذا البلد، فإنّنا نهنّئ الشعب العراقي والحكومة العراقيّة بقرار الأمم المتحدة الجديد، والقاضي بإخراج العراق من الفصل السّابع، ما يساهم في جعل العراق أكثر قدرةً على إدارة واقعه ولعب دوره الرّياديّ في المنطقة.

سوريا والتّسويات

وليس بعيداً من المشهد العراقيّ، نرى المشهد نفسه في سوريا، ولكن بوتيرة أشدّ، حيث تحوَّلت إلى ساحة مفتوحة للصّراعات الدوليّة والإقليميّة، ولتنفيس الأحقاد الطائفيّة والمذهبيّة، في الوقت الّذي تُستبعَدُ الحلول إلى أن تنضج التّسوية، والّتي  لن يكون الشعب السّوريّ في أولى أولويّاتها.

مصر في مواجهة الفتنة

كما نخشى أن تنتقل هذه الفتنة إلى السَّاحة المصريَّة، حيث تستنفر كلّ القوى السياسيَّة الفاعلة قدراتها وإمكاناتها في الثَّلاثين من هذا الشَّهر، لمواجهة داخليَّة قد تؤدِّي إلى إغراق هذا البلد في أتون فتنة داخليَّة كبرى، بدلاً من الحوار الجدّيّ الّذي من شأنه أن يفضي إلى بناء حكومة وحدة وطنيَّة أو أيّة صيغة مشاركة تؤمّن لهذا البلد الفاعل الاستقرار، وتجعله قادراً على مواجهة الاستحقاقات الدّاخليّة والخارجيّة، ولا سيّما العدوّ الصّهيونيّ، الّذي يعتبر المستفيد الأوّل من كلّ ما يجري.

هل تجاوز لبنان الفتنة؟!

أمّا لبنان، فقد تجاوز، بحمد الله، منعطفاً خطيراً، وخرج من أتون الفتنة الّتي كانت تُحضّر له انطلاقاً من صيدا؛ صيدا الوحدة الإسلاميّة والوطنيّة، وصيدا المقاومة، لتربك السّاحة الإسلاميّة وساحة المقاومة، وتودي بالعيش المشترك الّذي عرفته هذه المدينة طوال تاريخها الطّويل.

لقد آلمنا كثيراً مشهد الدّماء الّتي نزفت في هذه المدينة؛ دماء الجيش اللّبنانيّ الّذي قدّم أغلى ما عنده من ضبّاط وجنود لوأد الفتنة، ودماء أهلنا في صيدا الّذين عاشوا أصعب المعاناة خلال الأيّام الماضية، وكلّ الّذين بذلوا أرواحهم من أجل الحفاظ على العيش المشترك، فضلاً عن الدّمار والجراح، وآلمتنا أيضاً الصّورة التي أساءت إلى دور المسجد الّذي لا نراه إلا موقعاً للوحدة والألفة والمحبّة وتعزيز اللّقاء، لا منطلقاً للفتنة وتأجيج الصّراعات الداخليّة والعبث بأمن النّاس وحياتهم.

ولا يمكننا في هذا المجال إلا أن نقدّر كلّ الجهود الّتي بذلت لمنع امتداد الفتنة، والالتفاف الّذي جرى من كلّ اللّبنانيّين حول المؤسّسة العسكريّة، والوقوف معها لإعادة الأمور إلى نصابها في هذه المدينة، هذه المؤسّسة الّتي تبقى صمّام أمان هذا البلد واستقراره.

إنَّنا ندعو إلى اعتبار الجرح العابر الّذي حصل في هذه المدينة مناسبة، لا لزيادة الانقسام، بل للتّلاقي من أجل دراسة كلّ الأسباب الّتي أدّت إلى نشوء هذه الظّاهرة، ومنع تماديها وتكرارها، ومعالجة الهواجس الّتي يعيشها هذا الفريق أو ذاك، وبلسمة الجراح الّتي حصلت، والخروج من كلّ التوتّر الطّائفيّ والمذهبيّ والتشنّج الّذي عاشه هذا البلد، وإبعاده عن دائرة الاهتزاز وعدم الاستقرار.

إنّ الجميع في هذه المرحلة مدعوّون إلى الارتفاع إلى مستوى المسؤوليّة الإسلاميّة والوطنيّة، بأن يكونوا إطفائيّين، يطفئون غليان القلوب والعقول والكلمات، لا أن يصبّوا الزّيت على النّار، فالكلمة في هذه المرحلة مسؤوليّة، والتّصريح مسؤوليّة، والسّجال الّذي يدور على الشّاشات مسؤوليّة. ونقول ذلك للعلماء والفاعليّات، فلا يجوز في هذا الجوّ المتشنّج استنفار الغرائز والحساسيّات والعصبيّات لشدّ العصب الطّائفي والمذهبي، حيث لن ينتج ذلك سوى المزيد من نزف الدّماء. ونقول لهم أيضاً: ليكن الهمّ واحداً، وهو كيف نحفظ هذا البلد، لكي يبقى عزيزاً قويّاً قادراً على مواجهة التحدّيات في الدّاخل والخارج، وكيف نعمل جميعاً لمنع انعكاس ما يجري في محيطه عليه.

وأخيراً نستعيد، والألم يعتصر قلوبنا جميعاً، مناسبة الذّكرى الثّالثة لرحيل سماحة السيّد(رض)، الّذي ملأ حياتنا روحانيّة وعملاً ومقاومة وجهاداً ووحدة وانفتاحاً وحواراً، والّذي غادرنا في الوقت الّذي نشعر بأنّ الأمَّة في أمسّ الحاجة إلى فكره وتجديده وانفتاحه وصلابته وعنفوانه، ولكنّها مشيئة الله، ونحن على ثقة بأنّ الأمّة الّتي ساهم في بنائها بتعبه وسهره ومعاناته وتضحياته، والّتي كانت وفيّة له في حضوره، ستبقى وفيّة له بعد رحيله، تحمل نهجه الإسلاميّ الوحدويّ المنفتح على واقع العصر وقضاياه، وكلّ ما أودع من مسؤوليّات كبيرة جعلها أمانة على عاتقنا جميعاً، والّتي نسأل الله أن نتعاون جميعاً لأدائها بكلّ جدارة ومسؤوليّة.

Leave A Reply