في عصر الإعلام والتأثير.. مسؤوليَّة تقصّي الحقيقة
قال الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً} صدق الله العظيم.
تنقل إلينا وسائل الإعلام والتّواصل الاجتماعي الكثيرَ من الأخبار والمعلومات والتّقارير والأفلام المصوَّرة والتعليقات والتحليلات عمّا يجري من أحداث أو ما قد يجري، وهذا أمرٌ طبيعيّ بعد انتشار هذه الوسائل وتطوّرها، فهي لم تعد بأيدي الجهات الرسميَّة أو فئة من النَّاس، بل أصبحت بمتناول النّاس جميعاً، فكلٌّ يمتلك وسيلةً ينشر بها ما يسمع أو يقرأ، أو يقدّم تعليقه ونظرته إلى الأحداث، والتي تتأثّر بفهمه أو مصالحه.
ولكنّ هذا رغم إيجابيّاته، باعتبار أنّه يسمح بالتنوّع وتعدّد مصادر الخبر والرأي، إلا أنَّ القدرة على التَّلاعب بما تحمله هذه الوسائل، بات يعيق المتلقّي من الوصول إلى المعلومة الدّقيقة والخبر الصّادق والرأي الصّحيح.
معايير وضوابط
ومن هنا، تدعو الحاجة، ومنعاً لتشويه الحقائق والتّلاعب بالعقول، إلى اعتماد المعايير والضّوابط التي تساهم في الوصول إلى المعلومة الصّحيحة والخبر الصّادق.
وهذا ما حرص عليه الإسلام من خلال توجيهاته، عندما دعا الإنسان أوّلاً إلى التأنّي، وعدم الاستعجال في الأخذ بكلّ ما يقرأه أو يسمعه أو يشاهده والبناء عليه، وهذا ما دعا إليه الله سبحانه عندما قال: {خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آَيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ}.
وقد ورد في الأحاديث التّحذير من العجلة، ففي الحديث: «إِنّما أهلك الناس العجلة، ولو أنَّ النّاس تثبّتوا لم يهلك أحد».
وفي الحديث: «مع التثبّت تكون السّلامة، ومع العجلة تكون النّدامة».
وفي الحديث أيضاً: «إِنَّ الأناة مِن الله، والعجلة مِن الشّيطان».
وقد أشار القرآن الكريم إلى أنّ التّأني هو الذي اعتمده النبيّ سليمان (ع)، عندما جاءه الهدهد ليخبره عن وجود قوم يعبدون الشّمس من دون الله، فهو لم يتسرّع بتصديق قوله والبناء عليه، رغم ثقته به، بل قال: {سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ}. ولم يتّخذ موقفاً إلّا بعد أن تثبّت وتأكّد من صدقه.
الخطوات المطلوبة
أما التثبّت المطلوب، فيكون أوّلاً: بدراسة جادّة لشخصيّة مطلق الخبر والمعلومة وخلفيّاته، سواء كان هذا فرداً أو جهة أو مؤسّسة إعلاميّة؛ أن يدرس تاريخه وحاضره ومنطلقاته والأهداف التي يسعى إليها من وراء خبره، ومدى وعيه ودقّته في نقل الأخبار والمعلومات وصدقه فيها، فلا يؤخذ بمن لا يوثق به أو بدقّته في النّقل، وفي ذلك، جاء قوله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ}.
والفاسق هنا هو من لا يخاف الله في نفسه وفي النّاس في الكلمة التي يطلقها أو يكتبها، فلا يكون صادقاً وأميناً في نقل الخبر أو المعلومة، بل يدخل فيها حساباته الخاصّة ومصالحه وعصبيّاته وأحقاده.
وثانياً: بدراسة دقيقة للخبر والمعلومة، في ضوء معايير العقل والمنطق والعلم والواقع، وقد دعا الله من لا تتوفَّر له إمكانات التَّدقيق والبحث، إلى سؤال من يملكون الخبرة في تنقية المعلومات والتَّدقيق فيها، وتبيان صحّتها من زيفها، بعد أن تحوّل بثّ الخبر والمعلومة والصّورة علماً وفنّاً يدرَّس في المعاهد والجامعات، ولا يستطيع أيّ كان اكتشاف صدق الخبر من عدمه.. وهذا ما قاله الله تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ}.
وقد ندَّد الله بالذين يسارعون إلى تلقّي الأخبار وإشاعتها وعدم الرّجوع إلى الرّسول آنذاك، أو إلى أهل الاختصاص في كلّ مرحلة، ممن يملك المعرفة لتمييز الصّحيح من الفاسد، والحقّ من الباطل في ما يرد من أخبار ومواقف، فقال: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلاً}.
أما ثالثاً: فهو عدم خضوع الإنسان في الأخبار والمعلومات إلى الهوى، فيأخذ ما يتناسب مع هواه، سواء كان الهوى لشخص أو عائلة أو طائفة أو مذهب أو جهة سياسيّة، ويدع ما لا يتناسب معه، لأنّ الهوى يعمي العقل والقلب، ويبعد الإنسان عن الوصول إلى الحقيقة.
وأن لا يخضع أيضاً لتأثيرات من يتقنون فنّ الكلام، ويملكون القدرة على التّأثير من خلال التقنيّات التي يمتلكونها، أو من خلال القدرات الذاتيّة، والذي أشار إليهم الله سبحانه عندما قال: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ}، أو أن يخضع للمزاج الشّعبيّ أو الجوّ السائد الذي قد يجعل الإنسان لا يملك القدرة على التّفكير السّليم، وهو ما حرص الله سبحانه أن يبيّنه للنبيّ (صلى الله عليه وسلم)، عندما كان يواجه من كان يقول إنّه مجنون، فهو دعاه إلى أن يقول لهم اخرجوا من الجوّ الضاغط الذي تعيشون فيه، والذي يسلبكم حرية التفكير، وفكروا بعد ذلك بحريّة، وستصلون عندها إلى الحقيقة بأنّ هذا الكلام لا أساس له: {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا للهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ}.
هذه قواعد وتوجيهات ضروريّة لا بدَّ من اتّباعها، حتى لا يُسمَح للمتلاعبين بالكلام، والّذين يتقنون التَّأثير في الناس، أن يثيروا الفساد والفتن، أو يسيئوا إلى صورة الناس الذين لهم دورهم في المجتمع وفي تقدّمه وازدهاره.
حرب التّلاعب بالعقول
إنّنا نخوض في هذه الأيّام حرباً لم يعد السّلاح العسكريّ هو اللاعب الأساس فيها، إنما السّلاح الفعّال هو العمل على تغيير العقول والسّيطرة عليها، واللعب على الغرائز وإثارة العصبيّات.
إنّ مسؤوليتنا أن نستفيد من كلّ الوسائل والإمكانات التي لدينا، لتحريك عناصر الوعي والعلم والخير في المجتمع، وأن نحذر من كلّ الذين يكيدون للحقيقة، ممن يتأنقّون خلف الشّاشات والفضائيات ومواقع التواصل، أو خلف الكلمات المزخرفة والعناوين البراقة والشّعارات الرنّانة، ويبدون حريصين على النّاس، ولكنّهم يخفون غاياتهم الشرّيرة ونيّاتهم السيّئة خلف كلّ ذلك.
عندما يكون العصر عصر تزييف الحقائق وإشاعة الأخبار الكاذبة، نحتاج إلى المؤمن؛ المؤمن الّذي له عينان في الرأس، وعينان في القلب، المؤمن الكيِّس الفطن، المؤمن القويّ لا الضّعيف، الذي يملك الأذن الواعية والبصر المستند إلى البصيرة، والتفكير الهادئ البعيد من ضجيج ما حوله، ودائماً، نحتاج أن نستحضر الموقف بين يدي الله تعالى عندما قال: {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً…}.