الإمام المهدي : العدل المنتظر

بسم الله الرّحمن الرّحيم

ألقى سماحة العلامة السيّد علي فضل الله، خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عددٍ من الشخصيّات العلمائيّة والسياسيّة والاجتماعيّة، وحشدٍ من المؤمنين، ومما جاء في خطبتيه:

 

الخطبة الأولى

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}.

 

في مثل هذا اليوم، كانت الولادة المباركة لمتمّ سلسلة الأئمة(ع) الإثني عشر، والمتمّم لدورهم، الإمام محمد بن الحسن العسكري؛ صاحب العصر والزمان، أرواحنا له الفداء؛ هذا الإمام الَّذي حباه الله برعايته وحمايته، قبل أن يولد وبعد أن ولد، وسيبقى في رعايته إلى أن يأذن الله له بالخروج، بعد أن تتوفّر الظّروف المناسبة لتحقيق مشروعه، فهو الإمام الّذي اجتباه ليملأ الأرض قسطاً وعدلاً بعدما ملئت ظلماً وجوراً، وعلى يديه ستتحقّق على الأرض حكومة العدل الإلهي التي أُرسل الرسل والأنبياء للدعوة إليها وتحقيقها، والتي أشار إليها سبحانه وتعالى عندما قال: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ}، فهو الوعد الحتمي الذي قطعه سبحانه لعباده المؤمنين الصالحين، عندما قال: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً}(النور: 55). 

 

ومن هنا ــ أيها الأحبة ــ ولأهمية الدور الذي سيقوم به هذا الإمام مع أنصاره وأعوانه، كان ذلك الكم الكبير من الأحاديث التي بشّرت به، ودعت إلى انتظاره وترقّب خروجه، حتى أن رسول الله قال: "لو لم يبقَ من الدنيا إلا يوم، لطوّل الله ذلك اليوم حتى يبعث فيه رجلاً من أهل بيتي… يملأ الأرض قِسطاً وعدلاً، كما ملئت ظلماً وجَوراً"، وفي ذلك إشارة واضحة إلى معنى الحياة على هذه الأرض، ومسيرة التكامل الإنساني، لا يمكن أن تكتمل إلا بخروجه.

وفي إشارة إلى الموقع الكبير لهذا الإمام، يتحدّث رسول الله عنه في خطبة له لأصحابه، ويشير فيها إلى ما سيحدث في آخر الزمان، فيقول: "وإمامهم رجل صالح… فبينما إمامهم قد تقدم يصلي بهم الصبح، إذ نزل عليهم عيسى ابن مريم حين كبّر للصبح، فرجع ذلك الإمام ينكص (أي يمشي القهقرى) ليتقدم عيسى يصلي بالناس، فيضع عيسى يده بين كتفيه ثم يقول له تقدم فصلِّ، فإنها لك أقيمت".

 

أيها الأحبة، إنّ التزامنا بالإمام المهدي(عج) هو التزام بحقيقة دينية واقعية وليس مجرد وهم كما يظن البعض، وهم اخترعه الفقراء والضعفاء لتعزية النفس اليائسة.

إنّ إيماننا بالإمام المهدي ينطلق من إيمان واقعيّ بولادته وبخروجه، وهي حقيقة نصّت عليها كلّ الرسالات السماويّة، وسجّلتها الكتب السماوية، ويشير الله إلى ذلك: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ}، وهي بالتالي ليست عقيدة شيعية كما يتصور البعض بل هي عقيدة إسلامية ورد الحديث عنها في كل كتب المسلمين ولم تكن مورد شكّ عندهم.

 

نعم، هم اختلفوا في كونه ولد أم لم يولد؛ فالمسلمون السنّة يرون أنه لم يولد بعد وسيولد في آخر الزمان، وهو من ولد فاطمة(ع)، فيما المسلمون الشيعة، يرون أنه ولد وما زال حياً، وهو آخر السلسلة المباركة لأهل البيت(ع)، عاش في ظلّ أبيه خمس سنوات، وغاب بعد وفاته غيبة صغرى، امتدت لأربع وسبعين سنة، كان يلتقي خلالها سفراء أربعاً نصّ عليهم، وكانوا ينقلون إليه رسائل شيعته، ومن خلالهم، كان يتولّى توجيههم وإرشادهم ونصحهم والردّ على رسائلهم ممهورة بتوقيعه. وبوفاة السفير الرابع، بدأت الغيبة الكبرى التي لا تزال مستمرة إلى أن يأذن الله له بالظهور.

 

أما وقت الظهور، فلا يوجد خبر أو حديث يشير إليه، فقد ورد في الحديث: "كذّب الوقاتون.. كذّب الوقاتون.. كذّب الوقاتون"، ونحن مع الأسف، نبتلى في هذه الأيام بالوقاتين الذين يجزمون بخروجه في هذه الفترة أو تلك وهناك من يعدد  من الأحداث المعاصرة أنها علامة جازمة بخروجه، وهذا ما ابتلى به المسلمون سابقاً، وقد يبتلون به لاحقاً.

 

نعم، أشارت الأحاديث إلى عدد من علامات الظهور، الكثير منها يحتاج إلى بحث وتدقيق، ومن هنا، ندعو كل الذين يتحدثون عن علامة هنا أو هناك، إلى التدقيق فيما يُتداول به من أحاديث. فحتى لو ثبتت صحّة هذه الأحاديث، فمن يستطيع الجزم بأنها تنطبق على هذا الزمن أو ذاك.

ومع ذلك فإننا نتمنى انطباق هذه العلامات على هذه المرحلة، وندعو الله من كل قلوبنا أن يرينا طلعته البهية، وأن نحظى بمصاحبته، وأن نكون ممن يمن الله عليهم بأن نكون من أنصاره وأعوانه، وفي الوقت نفسه ندعو بدل الاستغراق في البحث عن علامات الظهور، أن نشغل أنفسنا بتهيئة الأرضية لظهوره، حتى نسرّع هذا الظهور، فكما نحن ننتظره هو ينتظر جهودنا وينتظر أن نكون جاهزين لحمل أعباء المسؤولية معه.

 

أيها الأحبة، عندما غاب الإمام، لم يرد لأمته أن تعيش الحيرة والفراغ، فلديها كتاب الله والأحاديث الكافية مما ورد عن رسول الله(ص) وأهل بيته، وهناك سيرة رسول الله وأهل بيته، مما يمكّن المسلمين من أن يعرفوا أحكام دينهم ووظائفهم مهما كانت الأحوال والظروف لذلك يوصينا: "وأمّا الحوادث الواقعة، فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا، فإنّهم حجّتي عليكم، وأنا حجّة الله عليهم"، فما بين أيديكم كاف.

 

إن زمن الانتظار هو زمن تحمّل المسؤوليات، مسؤولية العلماء الواعظين الذين عليهم أن يبيّنوا للناس أحكامهم، انطلاقاً من كتاب الله وسنة رسوله، ومسؤولية أن لا يجاملوا، ولا يداروا لحساب دنيا أو جاه أو عصبية، و مسؤولية أن يجعلوا الإسلام قادراً على مواكبة العصر، ولذلك، حدَّد مواصفاتهم: "وأما من كان من الفقهاء صائناً لنفسه، حافظاً لدينه، مخالفاً لهواه، مطيعاً لأمر مولاه، فللعوام أن يقلدوه..".

فالإمام(عج) لم يرد لأمته أن تتنصّل من مسؤوليتها أيضاً خلال غيابه في موجهة الظلم، ونشر العدل وصوت الإسلام ويتحدث البعض أنّ على الأمة خلال غيبة الإمام المهدي(عج)، أن تترك الظلم يستشري، حتى يسرّع الله في خروجه ليقوم هو بعد ذلك بمواجهة الانحراف فأي انتظار هذا الذي يبرر اسقاط التكليف بمواجهة ظلم، أو انحراف.

إن الإسلام رسالة الحياة حتى تقوم الساعة.

 

أيها الأحبة:

إنّ ذكرى ولادة الإمام المهدي(عج)، تدعونا إلى أن نطرح السؤال على أنفسنا: ماذا لو خرج الإمام فجأة؟ فهل نحن جاهزون ومستعدون لاستقباله، وتحمّل كل الأعباء التي يفرضها وجوده عندما يدعو للعدل والحق ومواجهة الظلم والتضحية لأجل ذلك بالمال والنفس.

 ألا يكون خروجه عندها مشكلة لنا، ويكون حالنا كحال ذلك الرجل الذي كان الشوق يملأ قلبه للقاء الإمام، فقام بالأعمال التي تهيئ له فرصة اللقاء به(عج) في مسجد السهلة في العراق، وتحقّق اللقاء الموعود ـ وهذا على عهدة الرواي ـ ولكن ما إن بدأ اللقاء، وبعد كل كلمات الإجلال والثناء على الإمام(ع)، حتى بادره الإمام: عليك أن تخرج من مالك، لأن مالك حرام، وأن تترك زوجتك، فهي أختك في الرضاعة، وأن تعيد البيت الذي تسكنه إلى وارثيه، هنا، يصمت الرجل، ويشعر بمدى ورطته، فهو، وإن أطاع الإمام، فسيكون بلا بيت ولا مال ولا زوجة.. ولذلك يسارع إلى إخراج الإمام من بيته وحتى التنكر له.

 

أيها الأحبة:

أتعرفون كيف هم أصحاب الإمام. تقول الآية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ…}.

هؤلاء هم أصحاب الإمام المهدي وجنوده والمنتموسن إليه، ومن منا لا يأمل بأن يكون واحداً منهم، هم الذين أحبوا الله، هم الرحماء بالمؤمنين، المتواضعون لهم، الأشداء الأقوياء أمام الظالمين، يجاهدون في سبيل الله، لا في سبيل هوى أو عصبية أو مال، الجريئون في الحق، يعدلون حتى لو كان العدل على حسابهم ويقفون مع العادلين، حتى ولو كانوا من غير دينهم، فيما يرفضون الظالمين حتى لو كانوا من دينهم ومذهبهم، هم الذين تتجاوز اهتماماتهم حدود حواجز الطوائف والمذاهب والبلدان، هؤلاء شعارهم شعار علي(ع) الذي قال عن الناس: "فإنهم صنفان؛ إما أخ لك في الدين، وإما نظير لك في الخلق "، على شاكلة هؤلاء يريدنا الإمام أن نكون في زمن انتظاره.

 

أيها الأحبة:

في هذه المرحلة، يواجه الإسلام أصعب التحديات فكراً وعقيدة ومفاهيم، ويواجه المسلمون أصعب الظروف في داخلهم وخارجهم، وكم نحن بحاجة إلى تلمس هذا الأمل الذي يرونه بعيداً ونراه قريباً.

في ذكرى الولادة المباركة، لنتوجّه بقلوبنا وأرواحنا، وندعو الله سبحانه، ومن أعماق قلوبنا، أن يعجّل فرجه، وأن يوفقنا لنكون إلى جانبه وتحت قيادته، ولنجدد له البيعة، ونتوجّه إلى الله بالدعاء:

اللهم أرنا الطّلعة الرشيدة، والغرّة الحميدة، واكحل ناظرنا بنظرة منا إليه، وعجّل فرجه، وسهّل مخرجه، وأوسع منهجه، واسلك بنا محجّته، وأنفذ أمره، واشدد أزره، وأعمر اللهم به بلادك، وأحيي به عبادك".

 

الخطبة الثانية

 

 

عباد الله، أوصيكم وأوصي نفسي بتقوى الله. ولبلوغ التقوى، علينا أن نأخذ بكلام أمير المؤمنين(ع) حين وقف يتأمّل الدّنيا كيف تمرّ سريعاً، فلا يجد الإنسان نفسه إلا وهو يقف أمام الحقيقة الّتي طالما غفل عنها، ولم يعرها بالاً؛ فقد قال(ع): "أما بعد، فإن الدنيا أدبرت وآذنت بوداع (أعلمت بانقضائها)، وإن الآخرة قد أقبلت وأشرفت باطلاع (أتت فجأة)، ألا وإن اليوم المضمار (تأهيل الخيل للسباق)، وغداً السّباق، والسّبقة الجنّة (الغاية)، والغاية النّار.

 

أفلا تائب من خطيئته قبل منيّته، ألا عامل لنفسه قبل يوم بؤسه، ألا وإنّكم في أيام أمل (بقاء) من ورائه أجل، فمن عمل في أيام أمله قبل حضور أجله، فقد نفعه عمله، ولم يضرّه أجله، ومن قصر في أيام أمله قبل حضور أجله، فقد خسر عمله وضرّه أجله. ألا وإني لم أر كالجنة نام طالبها، ولا كالنار نام هاربها. ألا وإنكم قد أمرتم بالظعن، ودللتم على الزاد، وإن أخوف ما أخاف عليكم اثنتان؛ اتباع الهوى وطول الأمل، فتزودوا في الدنيا من الدنيا ما تحرزون به أنفسكم غداً" (تحفظونها من الهلاك الأبدي).

أيها الأحبّة، هذه الدنيا غرَّت الكثيرين، وأنستهم أن يأخذوا منها ما يستعينون به على موقفهم بين يدي ربهم، فخرجوا منها بلا زاد، فلا تغرّنا كما غرَّت غيرنا، وهذا هو سبيل الواعين ومن يحسنون العمل ويقدرون على مواجهة تحديات الحياة.

 

 

والبداية من لبنان، الذي، وبحمد الله، خرج طلاب الشهادات الرسمية فيه من أسر من جعلوهم رهائن لتحقيق مطالبهم، أرادوا ذلك أو لم يريدوا، أو من كونهم ضحيّة المناكفات السياسيّة وغير السياسيّة.

وهنا، لا بدّ من أن نقدّر كلّ الّذين بذلوا جهوداً في هذا المجال، للوصول إلى الحلّ، رغم كونه جزئياً، وندعوهم إلى استكمال السعي لمتابعة أمر التّصحيح وإصدار النتائج، التي لا تزال معلّقة مع الأسف، حرصاً على مستقبل الطلاب، وعدم وقوعهم مجدداً في التوتر الذي عاشوه في الفترة الماضية قبل الامتحانات.

وفي الوقت نفسه، نعيد مناشدة المجلس النّيابي للقيام بمسؤوليّته في إنهاء ملفّ سلسلة الرّتب والرواتب، ضمن صيغة تراعي حاجات هذه الفئة الكبيرة من المجتمع، والّتي من حقّها أن تحصل على العيش الكريم، من دون الإخلال بالواقع الاقتصاديّ في البلد.

إنّ الدولة معنيَّة بتأمين حاجات موظفيها ومواطنيها، ولو بالحد الأدنى، ونحن نعتقد أنه لو صفت النيّات، وخرج الجميع من مصالحهم واعتباراتهم الخاصة، وفكروا بمسؤولية وطنية، لوجدوا سبيلاً إلى ذلك، ويكفي أن توقف صناديق الهدر، ويعاد النظر في الأملاك البحرية، وتفرض الضرائب على الكماليات، وعلى من يُعتبرون حيتان المال، ويعاد النظر في الرواتب العالية، حتى تلك التي يتقاضاها المسؤولون، لكي تؤمّن السلسلة من دون أن تحدث انعكاسات سلبية على الاقتصاد الوطني.

وفي الوقت نفسه، نكرر الدعوة للمسؤولين لعدم الاستكانة للفراغ وسياسة التعطيل التي قد تصل إلى كل مواقع الدولة، بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، وخصوصاً أننا لا نلمس خطوات جادة لتحقيق التوافق على شخص الرئيس، ونحن نرى أن العامل الداخلي لا يزال عاملاً أساسياً في حصول هذا التوافق، وليس هناك سعي لتسريع عجلة بقية المؤسسات، إذ لا حل إلا به. كما نعتقد أنه لو توافقت الكتل النيابية على اسم معين، فستبارك القوى الإقليمية والدولية ذلك، وستشكرها على هذا الإجراء.

إننا نهيب بالجميع أن يكونوا على مستوى المسؤولية في هذا البلد، الذي تشتعل الحرائق من حوله وتشتد، وحسناً فعل مجلس الوزراء عندما درس مفاعيل ما يجري في العراق، والتي لا شك في أنها ستترك تداعياتها على هذا البلد، فلا نخدع أنفسنا باستقرار بلد لا يزال يمثل الرئة التي تتنفّس مشاكل المنطقة، فكيف بسمومها؟!

 

ولا بد هنا من أن نتوقف جيداً عند الجريمة التي حصلت أخيراً، وتمثلت في قتل طفل يبلغ من العمر خمس سنوات بعد اغتصابه، هذا إلى جانب العديد من حوادث العنف التي تجري، ما يشير إلى مدى الانحدار الذي وصل إليه واقعنا على المستوى الأخلاقي والإيماني، والذي بات يهدد أجيالنا، ما يستدعي استنفاراً من جميع المسؤولين السياسيين والتربويين وعلماء الدين والنفس والاجتماع، لدراسة كل الوسائل التي تقي المجتمع مما بات يعانيه.

وهنا، وعلى الهامش، نتساءل: أين هو دور المرجعيات الدينية في كل هذه المشكلات الاجتماعية والأخلاقية؟ إننا نخشى أنها غرقت في الجانب السياسي، ونسيت دورها التربوي والأخلاقي والتوعية والتوجيه!

 

ونصل إلى العراق، الذي دخل في مرحلة خطيرة وحساسة نخشى تداعياتها، لا على مستقبل هذا البلد ووحدته فحسب، بل على المنطقة بأكملها، ولا سيما عندما يأخذ هذا التطور العسكري الخطير بعداً طائفياً ومذهبياً.

إننا نعرف أن ما حصل يدخل في إطار سعي محاور دولية وإقليمية لإبقاء العراق في دائرة الاهتزاز، مستفيدة من الانقسام السياسي الحاد بين مختلف مكوناته. ومن هنا، وتفويتاً للفرصة على كل الذين يريدون للعراق الاكتواء مجدداً بنار الفتنة الطائفية والمذهبية، وعلى الذين يحلمون بتقسيم هذا البلد، وحتى لا يكون ساحة صراع دولي وإقليمي، ولا يقع في قبضة من لا يريدون خيراً بالسنة والشيعة والمسيحيين والعرب والكرد والتركمان، فإننا ندعو كل العراقيين إلى الخروج من كل الحسابات التي يتم الانقسام على أساسها، والوقوف صفاً واحداً من أجل مواجهة كل ما يجري، فما نراه لن يخدم أحداً، وإن خيّل للبعض أنه قادر على الاستفادة منه.

إنّ أمن العراق ومستقبله مرهونان بوعي العراقيين لما يتهدّد بلدهم من مخاطر، ولذلك، فإننا نجدّد الدّعوة لمعالجة جادّة لكلّ القضايا المطروحة على بساط البحث بين كل مكونات هذا الشعب، من مسألة الفساد، إلى تركيبة الحكم، وإلى المسائل الأخرى التي قد يشعر فيها هذا المكون الطائفي أو ذاك المذهبي، بأنه يعيش حالة قهر معين أو غبن، ليشعر الجميع بأنهم مواطنون من درجة واحدة. إن المرحلة تحتاج من الجميع اتخاذ قرارات حكيمة، ومواقف مدروسة تساهم في درء الفتنة، لا في صب الزيت على نارها.

إننا نثق بأن الشعب العراقي الذي خرج من معاناته السابقة، بدءاً من نظام الطاغية صدام، مروراً بالاحتلال الأميركي، سيخرج من هذه الأزمة، وسيحوّل ما جرى إلى فرصة تساهم في تعزيز وحدة العراق والعراقيين، وإيقاف مسلسل الدم في هذا البلد العزيز.

 

 

وأخيراً، وفي ظل انطلاق كأس العالم، الذي كنا نأمل أن يحاط فيه لبنان برعاية خاصة، وأن لا يقع الفقراء في أزمة عدم القدرة على مشاهدة هذه المباراة العالمية، والتي تعتبر لعبة الفقراء، فإننا ندعو جميع المتابعين لهذا الحدث، إلى التعامل معه بروح رياضية، بعيداً عن التوترات التي تحصل عادة عندما نختلف، وعندما يشجّع أحد هذا الفريق أو ذاك، ولا سيما إذا كان ذلك في البيت الواحد، وأن لا يكون هذا الأمر سبباً لإزعاج الناس في الليالي أو خلال النهار، حيث لا ينبغي أن يغيب عن بالنا أن هناك من يزعجهم الرصاص والمفرقعات وهدير السيارات وأبواقها. والحكم الشرعي واضح في هذا المجال، فلا يجوز ذلك، حتى لو كان تحت عنوان كأس العالم.

 

المكتب الإعلامي لسماحة العلامة السيد علي فضل الله

التاريخ : 15 شعبان 1435هـ الموافق : 13 حزيران 2014م 

 

 

 

Leave A Reply