الاستعدادُ لاستقبالِ شهرِ رمضانَ المباركِ

السيد علي محمد حسين فضل الله

بسم الله الرّحمن الرّحيم

الخطبة الدينية

قال الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآَنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ الله بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا الله عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}. صدق الله العظيم.

أيّام معدودات ويبلّغنا الله شهر رمضان؛ هذا الشَّهر الذي أشار الله إلى فضله وعظيم شرفه، عندما أنزل فيه القرآن ليكون هدى للنَّاس وبيّنات من الهدى والفرقان، وأودع فيه ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر. وكان رسول الله (ص) ينتظره بفارغ الصَّبر، ويدعو أصحابه إلى استقباله بالفرح والسّرور. فمع قدوم شهر رجب، كان يردّد على مسامعهم: “اللّهمّ بلّغنا شهر شعبان”، وعندما يبدأ شهر شعبان، كان يكرِّر هذا الدّعاء: “اللّهمّ بلّغنا شهر رمضان”.

وعندما يبدأ شهر شعبان بالأفول، كان يقف خطيباً في أصحابه ليبيّن لهم أهميّة ما سيقدم عليهم، فكان يقول: “أيُّها الناس، جاءكم شهر رمضان شهر بركة، يغشاكم الله فيه، فينزل الرّحمة، ويحطّ الخطايا، ويستجيب الدّعاء، ينظر الله إلى تنافسكم فيه…”.

علامة زمنيّة فارقة

شهر رمضان، أيّها الأحبّة، ليس شهراً عاديّاً في حسابات السّنة، هو علامة فارقه فيه: أيّامه أفضل الأيّام، وساعاته أفضل السّاعات، ولياليه أفضل اللّيالي، وأيّ بركات هي أعلى حين تتحوَّل الأنفاس فيه إلى تسابيح، والنَّوم إلى عبادة، ويكون فيه الدّعاء مستجاباً، والعمل فيه مقبولاً، والأجر فيه مضاعفاً، فيكفي أن تفطر فيه صائماً حتّى تحصل على مغفرة لما مضى من ذنوبك، وأن تخفِّف عن عمّالك وموظّفيك ومَن تحت إدارتك، حتى يخفِّف الله عليك حسابه، وأن تكفَّ فيه غضبك حتّى يكفّ الله عنك غضبه لو توفّرت أسبابه، وإن أنت أكرمت فيه يتيماً أو فقيراً فسيكرمك الله، ولو قرأت فيه آيةً، فكأنما ختمت القرآن كلّه في بقيّة الشّهور، أمّا لو تواصلت فيه مع أرحامك، فسيظلّك الله برحمته يوم تحتاج إليها.

لذلك، ليس هناك من مبرِّر لأحدٍ أن لا يحظى برحمة الله، فالشّقيّ الشّقيّ هو من حرم غفران الله في هذا الشّهر. لكنَّ هذا العطاء وهذا التَّكريم لن يكون بالمجّان، هو للّذين تهيّأوا لهذا الشَّهر، وأعدّوا له عدَّته، ووفَّروا في أنفسهم الشّروط التي تجعلهم مؤهَّلين للاستفادة من بركاته.

من شروط الاستفادة

وهنا، ننقل نصّين وردا في هذا اليوم يشيران إلى هذه الشّروط:

النصُّ الأوَّل، وهو ما ورد عن أحد أصحاب الإمام الرّضا (ع)، حين دخل عليه في مثل هذا اليوم من آخر جمعة من شهر شعبان، فقال له الإمام (ع): “يا أبا صلت، إنَّ شعبان قد مضى أكثره، وهذه آخر جمعة فيه، فتدارك فيما بقي منه تقصيرك فيما مضى منه، وعليك بالإقبال على ما يعنيك وترك ما لا يعنيك، وأكثر من الدّعاء والاستغفار وتلاوة القرآن، وتب إلى الله من ذنوبك، ليقبل شهر رمضان إليك وأنت مخلص لله عزّ وجلّ. ولا تدعنَّ أمانة في عنقك إلّا أدَّيتها، وفي قلبك حقداً على مؤمن إلّا نزعته، ولا ذنباً أنت مرتكبه إلّا أقلعت عنه… وأكثر من أن تقول فيما بقي من هذا الشَّهر: أللّـهُمَّ إِنْ لَمْ تَكُنْ غَفَرْتَ لَنا فيما مَضى مِنْ شَعْبانَ، فَاغْفِرْ لَنا فيما بَقِيَ مِنْهُ، فإنَّ الله تبارك وتعالى يعتق في هذا الشَّهر رقاباً من النّار لحرمة شهر رمضان”.

لقد أوضح الإمام (ع) أنَّ الباب لدخول شهر رمضان والحصول على ضيافة الله فيه، تحصل بتعزيز علاقة الإنسان بربّه، وهذا يحصل بقراءة القرآن والدّعاء والذّكر والاستغفار، وأن يطهِّر قلبه من كلّ حقدٍ وعداوةٍ، وأن لا يدع أمانةً للنّاس إلا ويؤدّيها ويعوّضهم عن أيّ تقصير حصل تجاههم.

أمّا النّصّ الثّاني، فهو ما أشار إليه رسول الله (ص) في خطبته في آخر جمعة من شهر شعبان، فهو بعدما بيَّن أهميّة هذا الشَّهر، أشار إلى المسؤوليّات فيه، فقال: “فسلوا الله ربّكم بنيّات صادقة، وقلُوب طاهرة – فهذا يحتاج إلى إرادة وإعانة من الله، لأنَّ الإنسان في شهر رمضان يحبّ الخلود إلى الرّاحة – أن يوفّقكم لصيامه، وتلاوة كتابه، واذكروا بجوعكم وعطشكم فيه جوع يوم القيامة وعطشه، وتصدّقوا على فقرائكم ومساكينكم، ووقّروا كباركم، وارحموا صغاركم، واحفظوا ألسنتكم، وغضّوا عمّا لا يحلّ النَّظر إليه أبصاركم، وعمَّا لا يحلّ الاستماع إليه أسماعكم، وتحنَّنوا على أيتام النّاس يُتحنَّن على أيتامكم، وتوبوا إليه من ذنوبكم، وارفعوا إليه أيديكم بالدّعاء في أوقات صلواتكم، فإنّها أفضل السَّاعات، ينظر الله عزّ وجلّ فيها بالرّحمة إلى عباده؛ يجيبهم إذا ناجوه، ويلبّيهم إذا نادوه”.

فقد دعا رسول الله (ص) من خلال خطبته هذه، أن يعدّ كلّ إنسان برنامجه لهذا الشَّهر من الآن، وهذا البرنامج أراده أن لا يقف عند حدود الصّيام والامتناع عن الطّعام والشَّراب وبقيّة المفطّرات كما يعتقد البعض، بل يتعدّى ذلك إلى الامتناع عن الحرام، وأن يكون شهر القيام وقراءة القرآن، وبذل الخير للفقراء والمساكين وذوي الحاجة، وإكرام الأيتام والتحنّن عليهم، وتوقير الكبار، والرّحمة بالصّغار، وإصلاح النّفس وتطهيرها من كلّ ما علق فيها من أدران.

لا تهاون في المسؤوليّات

أيّها الأحبّة: إنّنا مدعوّون إلى أن ندخل شهر رمضان دخول المستعدّين له، العارفين بفضله، السّاعين لنيل ما أعدّه الله لعباده من رحمة ولطف وبركات وعطاءات.

أيّها الأحبَّة: رغم أنّ هذا الشّهر يعود إلينا في هذه السّنة ونحن لا نزال في ظلّ الواقع الصّعب الّذي نعانيه على كلّ الصّعد، ولا سيَّما على صعيد جائحة كورونا، ورغم كلّ ذلك، لن نتهاون في أداء مسؤوليّاتنا فيه، بل يزيدنا ذلك إصراراً على المزيد من العمل فيه والاستفادة منه، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين.

الخطبة السياسية

عباد الله، أوصيكم وأوصي نفسي بما دعانا إليه الله سبحانه وتعالى عندما قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}. صدق الله العظيم.

فقد دعانا الله في هذه الآية إلى فريضة الصّيام، ولكنَّه أشار إلى هدفها عندما قال: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}، وهو بذلك جعل المقياس الّذي يقيس به مدى صدق أدائنا لهذه الفريضة، أن نمتلك التَّقوى التي تجعلنا نقف عند حدوده تعالى ولا نتجاوزها، بل لا نطلق كلمةً أو نتصرّف تصرفاً أو نتّخذ قراراً أو موقفاً، أو نؤيّد أو نعارض إلّا بعد أن نعلم أنّ لله في ذلك رضا، فقد ورد في الحديث الشّريف عن التّقوى: “أن لا يفقدك الله حيث أمرك، ولا يراك حيث نهاك”.

لذلك أيّها الأحبّة، نمسك قرار أنفسنا، ولا نعود أسرى لشهوة أو نزوة أو لأيّ أحد سوى الله، ومتى حصل ذلك، فنكون من الأقوياء، لأنّ القويّ حقاً هو من قوي على نفسه، ونصبح أكثر قدرةً على مواجهة التحدّيات.

استمرار التّعثّر

والبداية من لبنان الّذي يستمرّ فيه التعثّر في ولادة الحكومة التي ينتظرها اللّبنانيّون بفارغ الصّبر لإخراجهم مما يعانون منه على كلّ الصّعد، رغم مرور أكثر من ستّة أشهر على التّكليف، ولم تفلح كلّ الجهود التي تبذل في الدّاخل والوفود التي أتت من الخارج، ولا حتى التهديد بالعقوبات لمن يعتبرون سبباً في هذا التعثّر، في حلحلة العقد التي لا تزال تقف حجر عثرة أمام هذا التّأليف، حيث لا يزال المعنيّون في تأليف الحكومة على مواقفهم، يتقاذفون المسؤوليّات، وتزداد الهوَّة فيما بينهم، ما يجعل اللّبنانيّين يتساءلون عن السّبب في كلّ هذا؛ هل هو خارجيّ ممن لا يريد حلاً للبنان إلا في إطار الحلول التي يراد لها أن تجري في المنطقة أو بناءً عليها، أو يدخل في إطار التّنازع حول الصلاحيّات وتثبيت كلّ موقع لصلاحياته، أو سعياً لمصلحة خاصّة طائفية أو مذهبية، أو لتحسين موقع هذا الفريق أو ذاك، في هذه المرحلة أو للاستحقاقات القادمة؟!

في هذا الوقت، تزداد معاناة اللّبنانيين على الصّعيد المعيشي والحياتيّ والإذلال لهم، حتى باتوا ينتظرون إعاشةً من هنا وهناك، أو مساعدات ومعونات، أو يتسكّعون على أبواب المصارف للحصول على نذر يسير من ودائعهم التي يبشّر المسؤولون بأنها قد تبخّرت أو في طريق التبخّر…

إنّنا أمام هذا الواقع، وأمام هذه المراوحة القاتلة، وهذا العجز الدّاخليّ عن إيجاد حلّ مؤقّت للتّخفيف من معاناة اللّبنانيّين، نعيد دعوة المسؤولين ليخرجوا من سجن ذواتهم ولعبة مصالحهم، إلى فضاء النّاس الذين أودعوهم مواقعهم، وأن يفتحوا أبواب الحوار فيما بينهم، وأن يسارعوا في تقديم التّنازلات قبل فوات الأوان وارتطام البلد بقعر الانهيار.

إنّه من المخجل حقّاً أن تقفل أبواب الحوار الدّاخليّ، أو أن نكون أمام حوار طرشان، أو أن يقف كلّ فريق عند قراره لا يريد التّنازل حتّى يتنازل الآخر.

إننا نعيد التّأكيد أنّ الخارج لن ينتج حلولاً للّبنانيّين ما لم يُقدّم اللّبنانيون أنفسهم على إنجازها، بل نخشى من أن يعمل على تعقيدها عندما تدخل حساباته ومصالحه وصراعاته على الساحة اللبنانيّة في بازار ما هو مطروح من حلول.

مصير التَّدقيق الجنائيّ!

في هذا الوقت، عاد التدقيق الجنائي إلى الواجهة في ظلّ الحديث عن المماطلة في تقديم المستندات والتسهيلات التي طلبتها الشرّكة المعنيّة بهذا التّدقيق، والذي إن استمرّ، سيؤدّي إلى تيئيس الشرّكة التي تتولّاه، ودفعها إلى الاعتذار من الاستمرار بهذا العمل وتمييع هذا التّدقيق.

إنّنا في هذا الإطار، وقفنا ونقف مع كلّ الدّعوات التي تدعو إلى إزالة كلّ العقبات من أمام هذا التّدقيق والإسراع به، وأن يشمل كلّ مؤسّسات الدولة، ليعرف اللّبنانيّون أين ذهبت أموالهم وأموال الدولة، وليحاسب بعد ذلك من أهدر المال العام وأوصل البلد إلى هذه المديونيّة التي جعلته يستجدي صندوق النقد الدوليّ، أو هذه الدولة أو تلك، والتي لها شروطها، وهي لا تعطي إلّا لتأخذ من كرامة النّاس وعزتهم وحاجاتهم الأساسيّة.

ولكن يبقى السّؤال عند الحديث عن فتح ملفّات الفساد: هل هناك جدّيّة في فتحها، أم باتت أداةً من أدوات الصّراع السياسيّ؟ ثم لو فتحت هذه الملفّات، هل سيحاسَب المسؤولون عنها، أم أنها ستقف عند أبواب التعقيدات الطائفية والحسابات السياسية والفيتوات والخوف من وقوع الفتنة في هذا البلد؟!

الوضع المعيشيّ المتأزّم!

ونبقى في ظلّ الارتفاع المتزايد في أسعار السِّلع والموادّ الغذائيّة، ومع بداية موسم شهر رمضان المبارك، ندعو التجّار إلى الرأفة بالنّاس وبحاجاتهم، وأن يأخذوا بالاعتبار ما يعانيه اللّبنانيّون على الصّعيد الحياتي والمعيشي بتخفيض الأسعار إلى أقلّ حدّ ممكن، والكفّ عن الاحتكار.

وفي الوقت نفسه، ندعو وزارة الاقتصاد ومصلحة حماية المستهلك إلى تفعيل دورها على هذا الصّعيد، لمنع الجشعين والمحتكرين والمتلاعبين بلقمة عيش النّاس وحياتهم.

وهنا ننوّه بالمبادرات التي يقوم بها الأفراد والجمعيّات والمؤسّسات لتأمين حاجات النّاس أو التّخفيف عنهم ما أمكن ذلك، أو تقديمها لهم بأسعار متهاودة.

ذكرى استشهاد الصّدر

ونستذكر في هذه الأيّام مناسبةً آلمت القلوب والعقول والوجدان؛ ذكرى استشهاد الشّهيد السّعيد السيّد محمد باقر الصّدر وأخته بنت الهدى على يد النّظام البائد في العراق.

إنّنا، ونحن نستعيد هذه الذّكرى، نعيد التّأكيد على الأمّة بضرورة الاستهداء بهذا الفكر التجديديّ المنفتح والواعي الذي كان الشّهيد الصّدر أحد أبرز رموزه، والتمسّك به، لنقدم الصورة الناصعة عن الإسلام في فكره وعقائده وتشريعاته ومفاهيمه، ونخترق به كلّ الحواجز الطائفيّة والمذهبيّة والعرقيّة، ليصل إلى كلّ مكان.

الثّلاثاء أوّل رمضان

وأخيراً، نهنّئ المسلمين بحلول شهر رمضان المبارك الّذي سيصادف نهار الثلاثاء القادم، بناءً على المبنى الفقهي لسماحة السيد فضل الله (رض) الّذي يأخذ بالحسابات الفلكية الدقيقة، سائلين الله تعالى أن يجعله شهر خير وبركة وعافية وأمل بمستقبل أفضل للّبنانيّين.