التعصّب.. يخنق الحياة

ألقى سماحة العلامة السيد علي فضل الله ، خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عددٍ من الشخصيّات العلمائيّة والسياسيّة والاجتماعيّة، وحشدٍ من المؤمنين، ومما جاء في خطبتيه:

 

الخطبة الأولى

{إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا}

يواجه مجتمعنا اليوم حيث التنوع الديني والمذهبي والسياسي، خطرا يهدد وحدته وتماسكه ويضع هذا التماسك على المحك، انه مرض التعصب المرض العضال المعدي الذي ان اصيبت به الامة استفحل فيها وانتشر كالطاعون.

والتعصب في اللغة هو من مادة عصب والعصب هو الاربطة التي تشد العظام، وعصب الشيء أي شده، وتعصب لعائلته مثلاً، اي بالغ في حبها والدفاع عنها بصرف النظر أنها على حق او على باطل. ويستبطن التعصب كره الجهة التي تناوئ العائلة او ما يتعصب له  وهذا ما سماه القرآن الكريم بالحمية الجاهلية  وقرنها بالكفر {إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا} الفتح-26.

 

تلك الحمية حولت الناس في الجاهلية الى قبائل متناحرة متصارعة لا تعرف حقا، ولا عدلاً، استشرى معها الظلم وتحجرت فيها القلوب، وسدت منافذ العقول. وجاء رسول الله، جاء ليرسي قواعد جديدة في المجتمع وبين الناس عنوانها السكينة.

والبشرية عرفت التعصب في كل مراحلها على مستوى الأفراد والجماعات بين عائلة وعائلة أو مدينة ومدينة وبين دولة ودولة أو بين شعب وشعب او طائفة وطائفة. ومع ذلك فإن التعصب ليس من الفطرة بل هو صناعة شيطانية ومتى حلّ في وسط انساني غير كل العلاقات لمصلحة صانعه ابليس إمام المتعصبين في كل عصر.

لذلك لا يجتمع التعصب والدين تحت سقف واحد ولا التعصب وحسن الخلق ولا الحس الانساني والتعصب عند الانسان نفسه.

لأنك عندما تلجأ الى التعصب فأنت تتعصب لاعتبارات زائفة: جاه او حسب او زعامة او مصلحة او منفعة، وفوق ذلك تقيم بينك وبين من تظنهم أعداء ومنافسين حواجز من الكره وعدم القبول وعدم الاعتراف. وهذا ما فعله ابليس الذي" اعترته الحمية وغلبت عليه الشقوة وتعزز بخلقة النار واستوهن بخلق الصلصال" كما يحدثنا الامام علي(ع).

ودعامة التعصب لا يهدمها الا الانفتاح وقبول الآخر والتسامح والحرص على الكرامة الانسانية بغض النظر عن اي شيء آخر: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً} الاسراء 70

 وفي حياة الأئمة نماذج رائعة عن نبذ العصبيات ولطالما علموا الناس كيف يواجهون التعصب بالتسامح والاساءة بالعفو: أحد الخوارج يسب الامام علي اثناء القاء خطبة في المسجد اذ يقول: "قاتله الله ما افقهه من كافر" عندها يثب أصحاب الامام على الرجل ليقتلوه (تحركت فيهم الحمية). فيصيح بهم عليّ "هونوا عليكم وكفوا انما هو سب بسب او عفو عن ذنب وانا أهل لأن اعفو "

 

ومن النماذج، الامام الصادق الذي جسد منهج الحوار ونبذ التعصب حتى بات فعلاً امام الحوار مع مؤيدين ومعارضين ومؤمنين ومنافقين وزنادقة وساخرين من الاسلام ومتعصبين، لم يكن هم الامام الصادق التغلب على من يحاوره او يضع في حسابه ان يدمره او ان يفحمه ويظهره بمظهر العاجز المهزوم شأن ما يفعل المتعصب وضَيِّق الافق. كان هم الصادق أن يأخذ بيد الآخر كي يكتشف الحق والحقيقة..

أيها الاحبة ..

 إن الاسلام هو دعوة خير وبناء حياة: {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ…} وهو مشروع بناء حياة {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ…} والتعصب هو أداة تقويض لكل خير ومعول هدم في الحياة. ولهذا علينا أن نقف بكل حذر امام التعصب والمتعصبين نظل نرصد منطقهم ومنطلقاتهم. نتعلم منهم الدروس ونأخذ العبر والحذر كل الحذر كي لا ننجر الى أوحالهم ونارهم.

 

– إن أول الدروس التي يقدّمها لنا المتعصب، أنه يدعي احتكار الصواب، واحتكار رؤية الحق والحقيقة، وانه هو الوحيد الذي يملك اليقين والرؤية الواضحة. ويمثل الدين او المذهب والوطن. نعم، ما من إنسان إلا وعنده قناعات، ووجهات نظر وتوجهات ومصالح، ومبادئ، ويسعى إلى الدعوة لها، والدفاع عنها. وهنا يُطرح هذا السؤال: كيف أدافع عن رأيي وموقفي وتوجهاتي بدون أن اتورّط في التعصب؟

الجواب عند الرسول(ص) الذي يضع أمامنا قاعدة تجعلنا في مأمن من أي علاقة او موقف فيه ِشُبهة تعصب او ظلم: أحبَّ في الله وابغضْ في الله، ووالِ في الله، وعادِ في الله. عندها تقصي نفسك ولا تدعها تتحكم في اي من احكامك ومواقفك  فالحكم هو ما يأمر به لله.

 

– وثاني دروس المتعصب انه يُصنّف أنصاره، ومن معه وفي خطّه بأنهم قديسون ولو كانوا فاسقين فاسدين، فهو ينظر بعين هواه، ومن دون أن يكون عادلاً في ميزانه، فيما يأمرنا القرآن الكريم: {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَىٰ} (الأنعام، 152)، فحتى لو كان المخطئ أخاك فاحكم بالعدل. بل يذهب الإسلام إلى أبعد من ذلك، المسلم المؤمن لا ينظر الى من يختلف معه أنه شخص فقد أهليته الإنسانية،  بل مطلوب البر بهم ، يقول الله سبحانه: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِين} (الممتحنة/9)

   نعم، في مجتمعاتنا اليوم من تأخذه الحمية الجاهلية، فلان من حزبي، من جماعتي، من عشيرتي، وأنا معه ظالماً أو مظلوماً، ضد كل من يعاديهم، ماذا يعني هذا؟ ببساطة يعني ان الإنسان يتورط في التعصب عندما يعادي الشخص الذي يختلف معه بذاته، بصرف النظر عن كونه مؤمناً أو فاسقاً.

 

   إن معاداة الأشخاص لا الأخطاء هو نهج المتعصبين، وقلب المعادلة يُعيد الإنسان إلى الطريق المستقيم: عندما تتعصب للحق وليس لصاحب الحق، وتعادي الباطل وليس شخص من يمارس الباطل. أعادي فيك صفة كذا وأكره فيه صفة كذا، فكل هذا مانع من التورط في التعصب.

  – الدرس الثالث الذي لا بد منه هو أن المتعصب يعبر عن تعصبه بسلوكه، فتراه يسيء ويسب ويشتم ويهين…ويصل به الكره لحد الأذية والضرب والاعتداء. ونشاهده في المجتمع والجلسات الضيقة في المجتمع وصولا إلى الفضائيات علنا وتكرارا.

   ان منطق { وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} و{ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} لا يمكن لمتعصب أن  يمارسه او يفهمه و يتولاه إنما هو يسعى لإثبات عكس ذلك تماما.. عبر تأكيده منطقه بالقوة والقمع والاستهزاء .وهذا يوصلنا الى الدرس الرابع وهو الأهم : كيف ندير الاختلافات أو الخلافات.. ان تخالفني الرأي في السياسة وغير السياسة فهذا حقك، وهو حق مشروع، ولكن ما ليس مشروعاً أن يحول أحدنا هذا الحق إلى راجمة صواريخ، أو منصة لاطلاق الشتائم أو التصريحات النارية، أو التشكيك في وطنيتي او مصداقيتي. يجب أن نعترف ان هذه الظاهرة لم تعد غريبة عن اسواقنا الاعلامية والسياسية والشعبية، وخصوصاً عن مواقع التواصل الاجتماعية.

   اليوم، بعض وسائل الاعلام، وتحت ستار السبق الصحفي، تمرر الكثير الكثير من الرسائل التحريضية، تصب الزيت على نار الفتنة والانقاسامات السياسية والفئوية والطائفية، فيما المطلوب: كسر جليد القطيعة بين الناس، وتوسيع مساحة التسامح واعلاء ثقافة السلام والتصرف كإطفاءين لإسقاط ثقافة الكراهية، التي يروّج لها تجارها والتي يستميتون لأجلها. هي دينهم الجديد.. إنها الجاهلية الجديدة:

 وأصاب الشاعر حين قال:

والناس عادت اليهـم جاهليتهم      كأن مـن شرع الاسلام قد افكا

ولنا في رسول الله اسوة حسنة اذ خاطبه الله مخففاً عنه وطأة المتعصبين:

{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ* وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ * كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ * لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ * وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ * لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ} (الحجر 10-15)

{وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ * وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ * وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسَى فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ} (الحج / 42-44)

 

 

الخطبة الثانية

 

عباد الله، أوصيكم وأوصي نفسي بتقوى الله ولزوم طاعته؛ هذه التَّقوى الَّتي تعزّز فينا الرّقابة على أنفسنا وعلى كلماتنا ومشاعرنا ومواقفنا، وتجعلنا أكثر وعياً لمسؤوليّاتنا حينما نوسّع دائرة هذه المسؤوليّات، لتشمل حتى البقاع والبهائم، وهذا ما حرص عليه الإمام عليّ(ع) عندما قال: "اتقوا الله في عباده وبلاده، فإنّكم مسؤولون حتى عن البقاع والبهائم، أطيعوا الله ولا تعصوه، وإذا رأيتم الخير فخذوا به، وإذا رأيتم الشرّ فأعرضوا عنه".

أيّها الأحبّة، علينا أن نحسن نيّتنا لتكون خالصة لله ولحسابه. ومتى فعلنا ذلك، سنكون بعينه التي لا تنام، وسنكون أقدر على مواجهة التّحدّيات.

 

انتهى الأسبوع الماضي على عدّة قضايا وأحداث:

الملف

أوّلاً، انتهاء الجولة الأولى والطَّويلة من المفاوضات النوويَّة باتفاق مبادئ يمثّل خطوة هامّة على طريق الاتفاق النهائيّ. إننا إذ نبارك هذا الاتفاق الَّذي استطاعت فيه الجمهوريّة الإسلاميّة أن تنتزع اعترافاً من العالم ببرنامجها النوويّ، الَّذي أرادته من الأساس أن يكون برنامجاً سلمياً لا عسكرياً، نأمل أن يتم التوصّل إلى الاتفاق النهائي، ليساهم في بناء العلاقات بين الشرق والغرب على أسس متوازنة، ويهيّئ الظروف المؤاتية لمعالجة الكثير من الملفات العالقة في منطقتنا، الَّتي تعجّ بالتوتّرات والتشنّجات والفتن والحروب.

 

ثانياً، أحداث اليمن، الّتي تؤكّد يوماً بعد يوم، أن لا جدوى من التدخّل العسكريّ الَّذي حصل تحت عنوان إعادة الاستقرار لهذا البلد، فالصّراع الدّاخليّ فيه يتأجّج، فضلاً عن تزايد أعداد الضّحايا البريئة، والدّمار الّذي تخلّفه الغارات الجويّة وعمليات القصف المدفعي على بنيته التحتيّة ومقدّراته واقتصاده.

ومن هنا، فإنَّنا نعيد التّشديد على ما أشرنا إليه سابقاً، بضرورة الإسراع في إيقاف التدخّل العسكريّ، وتهيئة مناخات العودة إلى طاولة الحوار، للتوصّل إلى اتفاق يتأسَّس على قاعدة التوازن بين كلّ مكوّنات الشّعب اليمنيّ، وعدم الغلبة لأحد على أحد، فمنطق الغلبة هو الأساس في إشعال كلّ الحروب الدّاخليّة، والدافع نحو الاستقواء بالخارج.

ومن هنا، فإنّنا نرى أهميَّة في الدّعوة التي أطلقتها الجمهورية الإسلامية إلى مدِّ اليد للتعاون مع المملكة العربية السّعوديّة لحلّ هذه الأزمة. ولا نزال نراهن على عودة لغة العقل والحكمة، كبديل من الاستنزاف الَّذي يُراد لجميع فرقاء الصّراع الداخليّ والخارجيّ أن يغرقوا فيه، والَّذي لن يربح فيه سوى الذين يقتاتون على الحروب والفتن الداخلية. وبالطبع، فإنَّ ذلك كلّه سيصبّ في مصلحة الكيان الصّهيونيّ، الَّذي سيزداد فرحاً وهو ينظر إلى تدمير بنية الجيش اليمنيّ، الَّذي ينضم إلى الجيوش العربيَّة الأخرى الّتي أنهكت وضعفت.

 

وهنا، نعيد التّأكيد على أنَّ ما يحصل في اليمن ليس حرباً مذهبيَّة، سواء في طبيعته أو في منطلقاته، وإنما هو صراع سياسيّ يتقاطع مع الصّراعات الإقليميّة أولاً، والدّوليّة ثانياً.

إنّنا من هذا المنطلق، ندعو إلى الكفّ عن هذا الاستخدام الصّارخ للعناوين المذهبيّة، لتأجيج هذا الصّراع، والذي تشارك فيه وسائل إعلاميَّة، ومواقع تواصل، وبعض الشخصيّات والرموز الدينيَّة والسياسيَّة والاجتماعيَّة.

ونقول للجميع: إنَّ اللعب على وتر إثارة الحساسيات المذهبيَّة والطائفيَّة خطير وخطير جداً، وسيكون هو الترجمة العمليَّة لما تحدّث عنه بعض القادة الغربيين، حين أشار إلى السّعي لإدخال البلاد في أتون حرب المائة عام بين السنَّة والشّيعة.

 

ثالثاً، القمّة العربية، حيث نرى الأهمية للتضامن العربيّ، ولأيّ عمل عربيّ مشترك يؤدّي إلى حماية العالم العربي من الأخطار المحدقة به. ولكن يبقى أن نسأل: ما هي وجهة هذه القوّة؟ هل هي لحماية الأنظمة، أم لخوض صراعات عربيّة ــ عربيّة، أو عربيّة ـ إسلاميّة؟ وهل ستكون مهمّتها مواجهة الكيان الصهيوني وحماية البلدان العربيَّة من أخطار الخارج وتدخّلاته ونهبه لثرواتها؟

إنَّنا نريد للعالم العربيّ أن يدرس بعمق من هم أعداؤه الحقيقيون، بعيداً عن كلّ الهواجس والمخاوف الَّتي تُزرع، وتجعله يوجّه بندقيّته إلى غير وجهتها الحقيقية، ويغرق مجدداً في حروب استنزاف تستنزف قدراته وإمكاناته وكلّ عناصر القوة فيه.

ويبقى أن نشير إلى أنَّ حلّ أزمات العالم العربيّ لا يقتصر على بناء القدرات العسكريَّة، بل لا بدَّ من أن يواكَب ذلك بمشاريع للتنمية على مختلف المستويات، والعمل لإخراج هذا العالم مما يعانيه من الفقر والتخلّف والغبن والتّهميش والإحباط، ومن كلّ السّياسات الّتي تجعل الإنسان العربيّ لا يثق بحكّامه، ولا بتضامنهم فيما بينهم، والتي تمنّيه بربيعٍ عربيّ سرعان ما يتحوَّل إلى خريفٍ وشتاء.

 

رابعاً، دخول القوى الأمنيَّة العراقية إلى تكريت. وهنا، نهنئ الجيش العراقيّ، والشّرطة الاتحاديّة، والحشد الشّعبيّ، والعشائر، على توحّدهم ووقوفهم معاً في تحقيق هذا الإنجاز. إنَّنا نرى في هذا الإنجاز تعبيراً عملياً عن صورة العراق المتنوِّع في طوائفه ومذاهبه وعشائره، ولكنَّه المتوحّد في مواقفه تجاه أعدائه.

إنَّ نجاح هذه التَّجربة مرهون بمنع تسلّل العابثين الّذين يريدون تشويه هذا الإنجاز، وإظهار البُعد الطائفي والمذهبي فيه، مما لا يريده صانعوه. وهنا نذكِّر العراقيين بقول رسول الله(ص) بعدما عاد من إحدى معاركه، حيث توجّه إلى جيشه المنتشي بالنصر قائلاً: "عدتم من الجهاد الأصغر، وبقي عليكم الجهاد الأكبر"، ونقول لهم: عدتم من الجهاد الأصغر، وبقي عليكم جهاد التغلّب على الحساسيّات والعصبيّات والأهواء والمصالح الخاصَّة.

 

 

ونعود إلى لبنان الَّذي تستمرّ معاناته على مختلف المستويات، لنؤكّد مجدداً ضرورة العمل لإبعاد هذا البلد عن كلّ الحرائق المحيطة به. وهنا نشدّد على أهمية الخطاب الهادئ والعقلانيّ والواعي.

إنّ من حقّ كلّ فريق سياسيّ أن يعبّر عن رأيه، وأن يؤيّد هذا البلد أو ذاك، ولكن من حقّ الوطن عليه، أن يحسب حساباً لتداعيات كلماته ومواقفه على الدّاخل اللبنانيّ، الَّذي يحتاج دوماً إلى الّذين يدافعون عن وجهة نظرهم، ولكن بالَّتي هي أحسن. وهنا علينا أن نفرّق بين من يتحدّث بحرقة عن مصلحة بلده والعالم العربيّ والإسلاميّ، ويشير إلى نقاط الضعف الموجودة فيه، ومن يتحدّث بمنطق المصالح الشَّخصيَّة.

 

ويبقى أخيراً أن نذكّر أنفسنا بضرورة الخروج من منطق التسرّع في الاتهامات، حيث نجد أنّ هناك من يتَّهم هذا بوطنيّته، وذاك بالعمالة لهذا أو ذاك، مما قد لا يستند إلى دليل.. وليكن الموقف دائماً هو قول الله تعالى: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولـئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً}.. وما قاله رسول الله(ص) عندما جاء إليه رجل يسأله: كيف أحكم؟ قال له(ص): "على مثل هذه فاشهد أو دع"، وأشار إلى الشمس وهي في وضح النهار.

 

إنَّنا نعيش في عالم نحتاج فيه إلى تعزيز ساحاتنا وتقويتها، بدلاً من العبث بها، وعلينا أن نتعلّم عندما نختلف، أن نتجرّد من ذاتياتنا، بحيث يخاطب العقل العقل، والقلب القلب، لا الغرائز والانفعالات، ولنتمثّل بذلك قول الإمام عليّ(ع): "لا يكن أفضل ما نلت في نفسك من دنياك بلوغ لذة أو شفاء غيظ، ولكن إطفاء باطل أو إحياء حق".

Leave A Reply