التفاوت من سنن الحياة وليس معياراً للتفاضل
ألقى سماحة العلامة السيّد علي فضل الله، خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عددٍ من الشخصيّات العلمائيّة والسياسيّة والاجتماعيّة، وحشدٍ من المؤمنين، ومما جاء في خطبتيه:
الخطبة الأولى
قال الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز: {وقالوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْءانُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ * أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيّاً وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} صدق الله العظيم.
تتناول هذه الآيات حقيقة إنسانية تعكسها حياة الناس في المجتمعات.. فالناس ليسوا سواسية أو على قدم المساواة في الطاقات الفكرية او الجسدية او في الأرزاق ، كما ويتفاوت الناس في العلم أو القوة أو الجاه.
وهذا التفاوت الإنساني له أسباب عديدة ومتشابكة منها ما يتصل بطباع البشر، وبالظروف التي يعيشها الناس.. فهناك من تتوفر له ظروف ليكون في بلد غني أو من عائلة غنية، وآخرون لم تتوفر لهم مثل هذه الظروف وهناك من يملك همة عالية يسعى لتحسين قدراته وإمكاناته.. وهناك من يكسل وليس لديه أدنى طموح،أو يقضي الحياة لاهياً وعابثاً يعيش على فتات موائد الآخرين..
ومهما كانت الأسباب، فهذا التفاوت أو الاختلاف أو التنوع في كثير من أوجهه طبيعي، وكما أشارت الآيات القرآنية هو ضروري لبناء الحياة وتكاملها واستمرارها.. فالحياة كما تحتاج إلى طبيب ومهندس وتاجر ورب عمل ومسؤول تحتاج إلى عمال وموظفين ومزارعين…
وقد أقر القرآن الكريم هذه الحقيقة عندما قال: {لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيّاً}.. والسخرة لا يعني كما يفهم البعض أن القرآن يقر استعباد الناس بعضهم لبعض، بحيث يكون من المشروع أن يستعبد الأغنياء الفقراء والأقوياء الضعفاء، أو اصحاب المواقع العليا ممن هم في المواقع الدنيا، السخرة هنا تعني أن يسخر كل منهم جهده وقدرته لحساب الآخر.. يعني ان يتعاونوا فكل واحد ومن موقعه أكان أعلى أو أدنى فهو مسخر ومخلوق ليعاون الآخرين.
وهذا ما قاله الشاعر:
الناسُ للناسِ مِن بدوٍ وحاضِرَةٍ …
بَعضٌ لبعضٍ وإنْ لَم يشعروا خَدَمُ
ايها الاحبة:
إن الله حين اعتبر التفاوت سنة من سنن الحياة وليس معياراً للتفاضل، لم يرد للإنسان أن يسلّم ويرضخ ولا يسعى لتطوير إمكاناته وقدراته وتحسين أموره بل عليه السعي دوما ليرتقي من الموقع الذي هو فيه إلى موقع أفضل.. ومن تساوى يوماه فهو مغبون.وان كان البعض يقول هذا مقسوم له .. فالقسمة هي نتيجة خيارات الناس .
ومن هنا الحث على استنهاض الهمم والتغيير ليكون مستقبل أمر الانسان خيراً من ماضيه.. وأن لا يستكين لظروفه وللضغوط التي يتعرض لها.. بل يخرج من هذه الظروف، وحتى أن يهاجر منها إلى موقع آخر.. فقال سبحانه: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ}.
وقال سبحانه: {وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً}.
وندد بالذين استكانوا لضعفهم، فقال سبحانه: {الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا}.
لقد حث الإسلام الإنسان على العمل باعتباره مدخلا للتغيير ورفع من مستواه عندما اعتبره عبادة وجهاداً في سبيل الله، ففي الحديث: "العبادة سبعون جزءاً، أفضلها جزءاً طلب الحلال"..
عندما جاء صحابيان إلى رسول الله(ص)، وهما يحملان أخاً لهما فقالا له: لا ينتهي من صلاة إلا إلى صلاة ولا يخلص من صيام إلا إلى صيام حتى أدركه الجهد.. فقال(ص): فمن يرعى إبله في رزق ولده.. قالا: نحن.. فقال(ص): أنتم أعبد منه..
ولم يكتف الإسلام بالحث على العمل لتغيير هذا التفاوت، بل حث على مواجهته حين يكون قائماً على الظلم، ومن هذا الموقع رفض الإسلام الخطاب الديني الذي يدعو إلى الصبر على الفقر وتمجيد الفقر والفقراء عندما يكون الغاية منه هو غض الطرف عن ظلم الحكام والمستبدين والناهبين للثروات..
وأكد على منطق رسول الله(ص): "كاد الفقر أن يكون كفراً".. وقال: "اللهم إني أعوذ بك من الكفر والفقر، فقال رجل : أيعدلان ؟ قال: "نعم". وعن علي(ع): "لو تمثل لي الفقر رجلا لقتلتهُ".. "الفقر الموت الأكبر".
نعم الفقر مطلوب عندما يكون الغنى على حساب العزة والكرامة والحرية..
والقرآن دعانا إلى الصبر على الابتلاءات في الرزق سواء حالة الفقر الناتجة عن ظروف طبيعية أو ناتجة عن الظلم السياسي أو الاقتصادي، ولكنه دعا أيضاً وبنفس أقوى إلى عدم الاستسلام لهذا الوضع . فالواقع الظالم لا يقبله الإسلام..
الإسلام يطالبك بمواجهة كل موقف يزين الاستكانة للفقر والضعف والقبول بالأمر الواقع وبالتالي الخضوع للمتلاعبين بمصائر الناس. العدالة في الاسلام ليست موقفا يمكن المساومة حوله. العدالة غاية ينبغي السعي إليها، فهي هدف كل الرسالات السماوية وهي روح الاسلام.
ولأن التفاوت قد لا نستطيع أن نعالجه حين لا تتوفر فرص العمل أو الظروف التي تتيح تغيير الواقع الظالم، فقد جاء التشريع الإسلامي بالكثير من الأحكام التي تعالج المشكلة، إن لتضييق الهوة بين الأغنياء والفقراء أو لإعادة توزيع الثروات, فقرن العبادة بالزكاة والخمس والواجبات المالية الأخرى.. ودعا المجتمع إلى التكامل بين أفراده على المستوى الاقتصادي، فلم تقتصر دعوته على ما فرض الله من عطاء واجب في هذا الجانب.. بل فرض للفقراء حقوقاً إضافية إذا لم تكفهم الأموال الواجبة وهو ما أشار إليه: {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} {وَآَتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آَتَاكُمْ}..
وهو عندما دعا إلى ذلك لم يجعله منة أو صدقة، بل تأدية لواجب يكون حقاً للفقراء.. والإسلام لم يقف عند حدود الرعاية المادية، بل دعا إلى حفظ كرامة الفقراء والضعفاء من الناس بأن يقدروا ويحترموا بنفس الصورة التي يحترم بها الأغنياء والكبار من الناس.. وإلا سيكون مصيره ما أشار الله الحديث: "من لقي فقيراً مسلماً فسلّم عليه خلاف سلامه على الغني؛ لقي الله عزوجل يوم القيامة وهو عليه غضبان"..
أيها الأحبة:
ان الله يبتلي عندما يعطي ويبتلي عندما يمنع{وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً}.
وقال سبحانه: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آَتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ}.
فالنعم التي تغدق عليك ليست امتيازاً، أو مدعاة زهو وافتخار وشعور بالتمايز بقدر ما هي مسؤولية.. نعم الثروة مسؤولية وإذا شعر البعض بعطاء الله في نعمه، فعليه أن لا ينسى أن لديه حاجات أخرى الله وحده يمكن أن يلبيها له.. ولذلك المطلوب ان نتواضع للآخرين وأن لا يطغى الانسان فيما وصل إليه..
ويبقى الهدف الذي ينبغي أن نحفظه في القلوب والعقول هو التصرف بما يرضي الله في حال العطاء وفي حال المنع، وأن ننظر إلى الناس بعيون بصيرة حتى لا تأخذنا فتن الدنيا وغرورها..
ومن هنا دعاء الإمام زين العابدين(ع) الذي كان يدعوه عند النظر إلى أصحاب الدنيا: "واعصمني من أن أظنَّ بذي عدم خساسة، أو بصاحب ثروة فضلاً، فإنّ الشريف من شرّفته طاعتك والعزيز من أعزّته عبادتك".
أيها الأحبة:
التفاوت بين الناس تفاوت الغنى والفقر هو حالة آخذة في التزايد في داخل بلداننا وما بين دول الشمال والجنوب أو بين دول الغرب والشرق.. وإذا كان هذا التفاوت الظالم مبرراً وفق النظام الرأسمالي العالمي، فكيف نبرر ذلك لأنظمة تعتبر نفسها إسلامية حيث التفاوت بين الناس أو الدول على أشده، فبعض الدول تبذر ثرواتها بطريقة غير مسبوقة، فيما ملايين الفقراء فيها وحولها يعانون، وهل ثمة من معنى لذلك إلا الكفر بالنعمة أو التمرد على الله..
فلننظر من حولنا ونستعيد ماحذر منه امام الفقراء وامام العدل الاجتماعي ..": "اضْرِبْ بِطَرْفِكَ حَيْثُ شِئْتَ مِنَ النَّاسِ، فَهَلْ تُبْصِرُ إِلاَّ فَقِيراً يُكَابِدُ فَقْراً، أَوْ غَنِيّاً بَدَّلَ نِعْمَةَ اللهِ كُفْراً، أَوْ بَخِيلاً اتَّخَذَ الْبُخْلَ بِحَقِّ اللهِ وَفْراً، أَوْ مُتَمَرِّداً كَأَنَّ بِأُذُنِهِ عَنْ سَمْعِ الْموَاعِظِ وَقْراً"..
فما من من نعمة موفورة الا وراءها حق مضيّع ..
واليوم نقول ووراءها فساد واستئثار وطغيان ولعب بمقادير الناس.
علينا في هذه المرحلة ان نعمل يدا بيد مع كل الشرفاء ودعاة العدل الحق لنرفع عن كاهل الناس هذا الواقع السيء وان نضع هم المتألمين والمقهورين نصب اعيننا ونعينهم كل من موقعه: موقف او كلمة او رأي ومال ومهما كان قليلاً فهو يبقى افضل من الحرمان.
الخطبة الثانية