الحجاب واجبٌ وليس تقليدًا اجتماعيًّا

السيد علي فضل الله

قال الله تعالى في كتابه العزيز: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِير} صدق الله العظيم.

مرّت علينا في العشرين من شهر جمادى الثّانية، ذكرى الولادة العطرة للصدّيقة الطّاهرة فاطمة الزّهراء سيّدة نساء العالمين.

هذه الذكرى التي هي مناسبة لنستعيد من خلالها كلّ المعاني والقيم التي جسَّدتها في حياتها، وعبَّرت عنها من خلال كلماتها ومواقفها.

ونحن اليوم، سنستفيد من هذه المناسبة الكريمة للحديث عن الحجاب، هذا الواجب الّذي كانت الزَّهراء (ع) أوّل من التزمت به وحثَّت عليه، بعدما نزل به التّشريع من الله عزّ وجلّ.

تشكيك بوجوب الحجاب

وما يدفعنا للحديث عنه، هو التّشكيك الذي بات يطرح حوله ممن راح يقول بعدم وجوبه، وأنّه ليس سوى عادة وتقليد، وهو إن وجب، فهو يختصّ بنساء النبيّ ولم يكن تشريعاً عامّاً.. وهو ما يجافي الحقيقة، فالحجاب ليس عادةً، بل هو فريضة أوجبها الله على كلّ مسلمة منذ أن تبلغ سنّ التّكليف، ودلّ على ذلك القرآن الكريم في أكثر من آية.

المراد من الجلباب

الآية الأولى هي قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيم}. فالله سبحانه وتعالى توجَّه بالنِّداء في هذه الآية إلى رسول الله (ص)، ليدعو زوجاته وبناته ونساء المؤمنين عامَّة، إلى أن يدنين من جلابيبهنَّ. والدنوّ هو القرب، وهذا يعني أن يلبسن الجلابيب.. والخطاب في ذلك كما هو واضح في الآية، كان عامّاً وشاملاً لكلّ مسلمة، ولم يقف عند نساء النبيّ (ص) أو بناته.

وقد ذكر المفسِّرون عدّة آراء حول ما يراد من الجلباب، فهناك من قال بأنّه الغطاء الذي يغطّي تمام الجسد بما يشمل الرّأس، فيما هناك من ذكر أنَّ المقصود به ما يغطّي تمام البدن، ولا يشمل الرّأس، والجامع بين هذين القولين هو ستر تمام البدن.

الخمار والجيب

هنا تأتي الآية الثّانية، لتبيّن بما لا يقبل الشّكّ شمول غطاء الرأس بالسّتر الواجب على المرأة، ولا يقف عند جسدها، عندما يقول: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ}. والخمار هو غطاء الرأس، والجيب هو الصَّدر. فقد نزلت هذه الآية لتشير إلى النّساء اللّواتي كنّ يرمين بأطراف الخمار على أكتافهنّ أو خلف الرّأس، بشكلٍ يكشف معه عن الرّقبة وجانباً من الصَّدر، لتأمرهنّ بأن يضعن أطراف الخمار حول أعناقهنّ، ليسترن بذلك الرَّقبة والجانب المكشوف من الصَّدر.

عدم كشف الزّينة

وتأتي الآية الثَّالثة لتوضح أكثر صورة الحجاب، عندما قالت: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَ}، حيث بيَّنت هذه الآية، أنَّ على المرأة أن لا تظهر زينتها عندما تخرج إلى غير محارمها من الرِّجال، فلا يجوز للمرأة أن تلبس القلادة والأساور أو الخلخال، أو أن تظهر بألوان زاهية، أو أن تضع مساحيق التَّجميل، ما عدا بعض الاستثناءات الّتي قرَّرها الشَّارع الحكيم. ويشمل ذلك إظهارها لمفاتن جسدها، وأنّ الاستثناء الذي أشار إليه القرآن الكريم بقوله: {إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَ}، يُقصَد به الوجه والكفّان، وظاهر القدمين.

حجاب الصّوت

ولم تقف الآيات القرآنيّة في الإشارة إلى الحجاب على غطاء الرأس أو الجسد وعدم إبداء الزينة، بل توسّعت للحديث عن حجاب آخر، وهو حجاب الصّوت، فدعتها إلى أن تحجب صوتها. وهو لا يعني، كما قد يتصوَّر البعض، أن لا تظهر صوتها، والقول بأنَّ صوت المرأة عورة، فللمرأة أن تتحدَّث في مجتمع الرّجال، وأن تخطب أمام النّساء والرّجال، أو تتحدَّث عبر وسائل الإعلام والتّواصل، وتشارك في النّدوات والحوارات، وفي مجالات العمل المختلفة والتّعليم، وهذا ما لا خلاف عليه، بل إنّه مطلوب ونحن ندعو إليه. لكنَّ المقصود من ذلك، هو أن لا ترقّق في صوتها بحيث تبدو فيه ميوعة أو إغراء، ما يدفع من في قلبه مرض إلى الانجذاب إليها، وهذا ما أشار إليه الله سبحانه وتعالى بقوله: {فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ}.

والإشكاليّة التي تطرحها الآية الكريمة، لا تقف على النّساء اللّواتي يخضعن في القول، بل تنطبق على الرّجال الّذين، كما وصفهم القرآن، في قلوبهم مرض. إذاً المسؤوليَّة ملقاة على عاتق المرأة أن لا ترقّق في صوتها، وعلى عاتق الرّجل أن لا يدفعه ذلك إلى الوقوع في الحرام.

حجاب البصر

ويبقى حجاب آخر، وهو أيضاً مطلوب من النّساء كما هو من الرّجال على حدٍّ سواء، وهو حجاب البصر. والمراد من غضِّ البصر، إخفاضه وعدم التَّحديق، وهذا ما أشار إليه سبحانه وتعالى، حين قال: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ * وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ}.

لتثبيت فريضة الحجاب

إذاً، الحجاب الشَّرعيّ وارد في القرآن الكريم، وبالوضوح الّذي أشرنا إليه، وإليه أشارت العديد من الأحاديث، فهو ليس عادةً أو تقليداً اجتماعيّاً، وقد سارت عليه المسلمات في كلّ تاريخهنّ منذ عهد رسول الله (ص)، والمسلمون رغم اختلافاتهم في مذاهبهم وآرائهم، لم يختلفوا في وجوب الحجاب، بل يرونه واجباً وفريضةً لا بدَّ من الالتزام بها.

ومن هنا، فإنَّنا ندعو إلى تثبيت هذه الفريضة في أذهان فتياتنا وتعزيزها لديهنّ، بإبراز أهميّة هذه الفريضة للفتاة، فالله أراد أن يعزّز نظرة الفتاة إلى نفسها، ونظرة المجتمع إليها، بأن لا يراها كأنثى، بل كإنسانة لها دورها وحضورها في كلّ الميادين. وبالتّأكيد، الحجاب ليس شكلاً، بل هو مضمون أيضاً، وأنّه لا يراد منه الانتقاص من الفتاة والتقييد لحريتها، بل تعزيز دورها وحضورها في المجتمع، بالتّربية الروحيّة والإيمانيّة، وتعزيز تقوى الله لديها. وهو – بالطّبع – ليس بأسلوب الفرض والإكراه والقسوة، والّذي لم يعد يفيد، بل يترك آثاراً سلبيَّة في غالب الأحوال.

إنَّ حجم التحدّيات في بناء شخصيّات متديّنة ملتزمة بأصول الدّين وتشريعاته، تكبر يوماً بعد يوم. فالعولمة، وانتشار وسائل التّواصل المشرَّع على مصراعيه على المغريات، والوسائل الإعلاميّة التي تزيّن المعاصي والانحراف، والتَّشكيك في أصول الدّين وفروعه، كلّ هذا يستدعي وعياً في الأفراد والأسر، ودوراً يقوم به الآباء والأمّهات والمؤسّسات الدينيّة والتربويّة والاجتماعيّة.

الاقتداء بالزّهراء (ع)

ونحن في ذلك، نعتزُّ بكلِّ فتياتنا ونسائنا اللّواتي يثبتن أمام الضّغوط والتحدّيات والكلمات والإساءات والتَّمييز في مواقع العمل والحياة العامّة والخاصّة، وإنَّ صبرهنّ مقدَّر عند الله {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ}. وإنّهنّ سيكنّ بعين الله ورعايته كما وعد: {وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ}.

ويكفيهنَّ أن يكنَّ في ذلك على صورة الزّهراء (ع) ومثالاً لها، وهي الّتي قدَّمت أنموذجاً رائداً لكلّ فتاة وامرأة، فهي لم يُعقْها حجابها عن أن تكون حاضرةً بقوّةٍ في ساحات العلم والعمل والجهاد والتّربية، وأداء دورها الرّساليّ في مواجهة الانحراف والظّلم، وأخذ المواقف الصّلبة في مواجهة الانحراف، وبلغت في الموقع أعلى المراتب عند الله وعند رسوله (ص) وفي الحياة، حيث ملأ ذكرها الآفاق، وسيبقى يملؤها.

وهنا يستحضرني في ذلك كلام الشّاعر:

ما تمنّى غيرها نسلاً ومنْ يلدِ الزّهراء يزهد في سواه

الخطبة السياسية

عباد الله، أوصيكم وأوصي نفسي بالأخذ بهذه العبرة، حيث ورد أنّ الله سبحانه وتعالى أوحى إلى النبيّ داوود (ع) أن اذهب إلى امرأة اسمها خلادة بنت أوس، وبشّرها بأنها ستكون قرينتك في الجنّة. فاستغرب النبيّ داوود (ع) أن تصل امرأة إلى ما وصل إليه، فذهب إليها ليخبرها ويستعلمها عمّا جعلها تبلغ ما بلغت، فقالت له: لا أتميّز عن بقيّة النّاس، ولكن لم يصبني وجع، ولا نزل بي من ضرّ وحاجة إلّا صبرت، ولم أسأل الله كشفه عنّي حتى يحوّله الله عني إلى العافية والسّعة، ولم أطلب بها بدلاً، وشكرت الله عليه وحمدته عليه، فقال داوود: فبهذا بلغت ما بلغت.

إنّنا أحوج ما نكون إلى أن نستهدي بهدي تلك المرأة، بأن نصبر على البلاء، ونرضى بقضاء الله وقدره، وأكثر من ذلك، أن نشكره على بلائه. وبذلك نبلغ ما بلغت ونواجه التحدّيات.

تداعيات الأزمة

والبداية من لبنان الذي تزداد فيه وطأة الضّغوط المعيشيّة، بفعل ازدياد الِأسعار على السلع والموادّ الضروريّة للناس، وكان آخرها الزيادات التي طرأت على سعر ربطة الخبز وعلى صفيحة البنزين.

والذي أصبح من الواضح مدى تداعياته وآثاره على الصّعيد الاجتماعيّ، وعلى الاستقرار الأمني، والذي إن لم يعالج، فستتكرّر معه المشاهد المؤلمة التي رأيناها في طرابلس والعديد من المناطق اللّبنانيّة، يحصل هذا، فيما يشتدّ الصّراع بين القوى السياسية المعنيّة بإيجاد الحلول على تقاسم المواقع، من دون أن يأخذوا في الاعتبار تداعياته على الوطن والمواطن.

فكلّ ما يجري لم يجد الدافع لدى هذه القوى حتى تسّرع الخطى لتأليف الحكومة المنتظرة، وأن تقفز فوق الخلافات والنّكايات والاعتبارات والمصالح الخاصّة، بعد أن أصبح واضحاً أن لا حلول من دون حكومة كفوؤة، وبعيدة كلّ البعد عن كلّ الواقع السياسي المأزوم والصراعات الدائرة فيما بين هذه القوى.

ونحن في هذا المجال، نعيد دعوة كلّ القوى السياسية المعنيّة بتأليف الحكومة، إلى الخروج من كلّ الأوهام التي وقفت ولا تزال تقف عائقاً أمام حصول هذا التأليف. فضمان حقوق الطوائف والمذاهب وأيّ من المواقع السياسيّة، لا يكون بالمطالبة بالثّلث المعطّل أو بالاستئثار بقرار الحكومة أو بهذه الوزارة أو تلك، بقدر ما يكون بتعزيز الوحدة الداخليّة وبالتنازلات المتبادلة.

إننا نقول للجميع، إنّ المرحلة ليست مرحلة الحصول على المغانم وكسب الأرباح والحصول على الامتيازات أو تحقيق الطّموحات، بقدر ما هي مرحلة إنقاذ بلد يتداعى وينهار، فلن تبقى هناك امتيازات أو مصالح أو طموحات إن سقط البلد أو غرق في الفوضى التي يُبشَّر بها، وأصبح رهينة القوى الدولية.

إنّنا أكّدنا ونعيد التأكيد من جديد، أنّ الوصول إلى حلولٍ لأزمات هذا البلد ومعاناة أبنائه لن يأتي من الخارج، بعد أن أصبح واضحاً أنّ الخارج ليس مستعجلاً على إيجاد هذه الحلول، بعيداً من الحلّ التامّ الذي يفكّر فيه للمنطقة، فهو وإن قرّر أن يساعد، لن يساعد اللّبنانيّين إن لم يحقّقوا له ما يريد منهم. فالخارج لم يكن ولن يكون جمعيّة خيرية تعطي بالمجان، ونحن في الوقت الذي ندعو إلى الحلول الجذريّة لأزمات البلد التي تنقذه، ندعو إلى البحث الجدّيّ عن حلول آنيّة للمشاكل التي يعانيها اللّبنانيّون، ولا سيما العائلات الفقيرة التي باتت تغطي مساحة واسعة من اللّبنانيين.

وعلى هذا الأساس، ندعو حكومة تصريف الأعمال إلى القيام بواجبها على هذا الصّعيد، والإسراع بما وعدت به بمساعدة ستمائة ألف عائلة فقيرة من القرض المقدَّم من البنك الدولي، وأن تزال كلّ العوائق عنه مما لا يزال يعانيه البلد من الفساد وسوء الإدارة والمحسوبيّات.

تصعيد العدوّ!

في هذا الوقت، لا بدّ من التنبّه إلى ما يقوم به العدو الصهيوني من تصاعد أعمال استباحته للأجواء اللبنانيّة، أو الاعتداء على سوريا من خلال هذه الأجواء، كما حصل في عدوانه الأخير، ما قد يخفي مغامرة قد يقدم العدوّ عليها بفعل الواقع المأزوم الذي يعانيه، وحسناً فعلت المقاومة عندما وجَّهت إليه رسالة بإسقاط طائرة مسيَّرة، لتؤكد من خلالها أنّ أجواء هذا البلد، كما مياهه وبحره، لن تبقى مستباحة، بحيث يسرح ويمرح فيها من دون حسيب ورقيب.

وهنا، نقدِّر خطوات الجيش اللّبناني التي قام ويقوم بها على هذا الصّعيد، إضافةً إلى تفكيكه خلايا داعش، وندعو الجميع إلى الوحدة وتضافر الجهود، حتى لا يعود لبنان ساحة لهذه الجماعات ومسرحاً لعمليّاتها الإرهابيّة.

التّكافل لمواجهة كورونا

وبالعودة إلى الوضع الصحّيّ بفعل جائحة كورونا، حيث لا تزال أعداد الإصابات بهذا الوباء تسجّل ارتفاعاً ملحوظاً، ولا سيّما في أعداد الوفيات، ما بات يستدعي تكافل الجهود لمواجهته، والّذي أصبح واضحاً أنّه لن يكون إلا بتقيّد المواطنين بإجراءات الوقاية، واستمرار تشدّد الدولة بإجراءاتها، وبدعم الطّاقم الصحّي والاستشفائيّ، وبالإسراع بتأمين اللّقاح الكافي للمواطنين، بعد أن بات واضحاً أنّ الاستمرار في إقفال البلد إلى ما لا نهاية لم يعد ممكناً ومجدياً، في ظلّ الوضع الاقتصادي والمعيشي الصّعب الذي يعانيه المواطنون، وحيث إنّ الدولة لم تؤمّن ما يحتاجونه كلّ فترة الإقفال، وهو ما يخشى، إن استمرّ، من تداعياته عليهم وعلى الاستقرار.

واخيراً، نتوقّف عند عمليّة القتل التي تعرَّض لها الناشط السياسي لقمان سليم، لندعو إلى ضرورة الإسراع في التحقيق القضائيّ لكشف ملابسات ما جرى، منعاً لأيّ تأويلات أو اجتهادات أو اتهامات لا تستند إلى دليل ملموس، لمعرفة حقيقة ما حصل، ومحاسبة المتورطين فيه، وصيانة أمن البلد وحمايته من كلّ المتربّصين به، والسّاعين للعبث باستقراره ووحدته في هذه المرحلة الصّعبة والخطيرة والحسّاسة التي يمرّ بها على كلّ الصّعد.