السيّدة خديجة: سندُ الرّسولِ (ص) والرّسالةِ

السيد علي محمد حسين فضل الله

بسم الله الرّحمن الرّحيم

الخطبة الدينية

قال الله تعالى في كتابه العزيز: { النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللهِ }. صدق الله العظيم.

في العاشر من شهر رمضان المبارك، وفي السّنة العاشرة لبعثة رسول الله (ص)، كانت وفاة أمّ المؤمنين السيّدة خديجة بنت خويلد زوجة رسول الله. ونحن سنتوقّف عند هذه الذّكرى التي آلمت قلب رسول الله (ص)، وتركت أثراً في قلوب المؤمنين، لنشير إلى الموقع الّذي بلغته السيّدة خديجة عند رسول الله (ص) وفي مكّة، وإلى الدّور الرسالي الذي قامت به.

موقع السيّدة خديجة (ع)

فقد بلغت السيدة خديجة موقعاً كبيراً في قلب رسول الله (ص) عبّرت عنه زوجته عائشة، فقالت: “كان رسول الله (ص) لا يكاد يخرج من بيته حتى يذكر خديجة، فذكرها يوماً من الأيام، فأدركتني الغيرة، فقلت: هل كانت إلّا عجوزاً؟! وقد أبدلك الله خيراً منها. فغضب حتى اهتزّ مقدم شعره من الغضب، ثم قال: لا والله ما أبدلني الله خيراً منها؛ آمنت بي إذ كفر النّاس، وصدّقتني إذ كذَّبني الناس، وواستني في مالها إذ حرمني النّاس، ورزقني الله منها أولاداً إذ حرمني أولاد النّساء.. فقالت عائشة: فقلت في نفسي، والله لا أذكرها بسوء أبداً”.

وقد روي أن رسول الله (ص) كان إذا ذبح الشّاة أو أُتي له بهديّة، كان يقول اذهبوا إلى بيت فلانة، فإنها كانت صديقة لخديجة، أو إنها كانت تحبّ خديجة. فقد كان رسول الله حريصاً على أن يكرِّم حتى صديقاتها وفاءً لها.

أما الموقع الذي بلغته في مكّة، فقد كانت من كبار التجّار فيها، لها تجارتها الكبيرة الواسعة إلى الشّام، وقد كوَّنت من وراء تجارتها الواسعة ثروة عظيمة، وكانت تلقب بالحكيمة والطاهرة لرجاجة عقلها وطهارتها.

وهي تعرفت إلى شخصية رسول الله (ص) عن قرب حين سافر في تجارة لها، من خلال حديث غلامها الّذي كان واكب النبيّ في هذه الرحلة، وأخبرها عن جميل صفاته وحسن خلقه وأمانته وصدقه.. وهذا دفعها إلى أن تختاره زوجاً لها من دون غيره من أشراف مكّة الذين تهافتوا على طلب يدها، رغم فقره (ص) وقلّة ذات يده، وقد عبَّرت عن سبب خيارها لرسول الله (ص) بقولها له: “يا بن عمّ، إني قد رغبت فيك لشرفك في قومك، وأمانتك وحسن خلقك، وصدق حديثك ونصرتك للمظلوم”.

حياة رساليّة

أيّها الإخوة والأخوات: لقد عاشت السيّدة خديجة مع رسول الله (ص) حياةً ملؤها المودّة والرّحمة والاحترام، وهي لم تشاركه سبل العيش فقط، بل شاركته تأمّلاته وأسئلته حول الوجود والإنسان والمجتمع، ونقده للسّائد والموروث، ولعبادة الأصنام وللظّلم وللممارسات التي كانت في الجاهليّة.

ولما نزل الوحي على رسول الله (ص) في غار حراء، كانت السيدة خديجة أوَّل من آمنت به، ووقفت معه وساندته في ذلك، لما كانت تعرفه من صفات وخصائص ومزايا تؤهّله لهذا الدور.

وقد قالت له يومها عندما جاء إلى بيته وهو مهموم بحمل أعباء الرّسالة، وأخبرها بما أوحى به الله إليه، قالت له: “والله لا يخزيك الله أبداً؛ إنّك لتصل الرّحم، وتصدُقُ الحديثَ، وتَحمِل الكَلَّ، وتَكسِبُ المعدومَ، وتَقري الضّيف، وتعين على نوائب الحقّ”.

لقد اختارت السيّدة خديجة بإرادتها أن تعيش مع رسول الله حياةً صعبةً شاقّة لا تعيشها أمثالها ممن يمتلكن ما تملك من مالٍ وشرفٍ وجمالٍ، عندما كان رسول الله (ص) يرمَى بالحجارة وتوضَع الأشواكُ في طريقِهِ ويتّهم بالسّحر والجنون، ويعاني ويتألم، وتحمّلت هي الأذى والهجران والقطيعة من قريش عندما قاطعوها وفرضوا على نساء قريش أن لا يزرنها أو يشاركنها في مناسباتها، بعدما كانت مهوى أفئدتهنّ ويتمنّين اللّقاء بها، حتى إنهم ضغطوا على أزواج بناتها حتى يطلّقوا زوجاتهم، وهنّ زينب ورقيّة وأمّ كلثوم، إمعاناً في أذى رسول الله (ص)، فطلِّقت آنذاك رقيّة وأمّ كلثوم، فيما رفض زوج زينب طلاقها.

لقد صبرت السيّدة خديجة على كلّ ذلك، وكان أبرز مواقف صبرها، حين قرّر زعماء قريش معاقبة بني هاشم، عشيرة رسول الله، وحاصرتهم في شعب أبي طالب، لمساندتهم لرسول الله (ص)، ووقوفهم معه، هذا الحصار الذي استمرّ لثلاث سنوات، وقد تحالفوا آنذاك على وثيقة ملزمة لكلّ قريش، تنصّ على أن لا يبيعوهم ولا يشتروا منهم ولا يزوِّجوهم ولا يتزوَّجوا منهم ولا يكلِّموهم ولا يؤووهم، حتى يسلّموا لهم رسول الله (ص)، أو يرفعوا أيديهم عن نصرته وحمايتهم له. يومها، كانت السيّدة خديجة عند أهلها، لكنّها أبت أن تترك رسول الله (ص) وأصحابه يعانون من دون أن تشاركهم، والتحقت به، لتتحمَّل معه ومع المسلمين الحصار، ولتعاني ما عاناه المسلمون، وبذلت في ذلك كلّ ما كان لديها من مال لشراء الطّعام للمحاصرين، وبأضعاف ثمنه، من أجل أن تخفِّف من وقع الحصار، حتى قال حينها رسول الله (ص): “ما نفعني مالٌ قطُّ مثل مال خديجة”. وكان لهذا الحصار أثر كبير في اعتلال صحّتها، ومن ثم وفاتها بعده.

لذا، حزن رسول الله (ص) عليها كثيراً، وحزن معه المسلمون الذين وجدوا فيها الأمَّ الحنون التي عاشت أمومتها مع كلّ واحد منهم، وقد سمي عام وفاتها بعام الحزن، لما أصابه من فقد خديجة كسندٍ له، بعدما كان قبلها فقد سنداً كبيراً له في دعوته، وهو عمّه أبو طالب.

شريكة رسول الله (ص)

أيّها الإخوة والأخوات: لقد كانت السيِّدة خديجة مثالاً للمرأة الواعية والرساليَّة التي كانت بحقّ شريكة رسول الله (ص) في أصعب المراحل التي عاشها، حين حملت معه أعباء الرّسالة، وقدَّمت التضحيات لأجلها، وكانت له سنداً وركناً وثيقاً.. وهي بذلك استحقَّت الكرامة من الله سبحانه وتعالى، كرامة السَّبق للإسلام والإيمان، بعد أن حظيت بزواجها من خير خلق الله محمّد المصطفى (ص)، فكانت ممن قال الله عنهم: { وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ * فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ }، وقال: { لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُو }. وقد ورد في الحديث، أنّ الله سبحانه وتعالى بعث جبرائيل إلى النبيّ (ص) وهو بغار حراء، وقال له أن يقرأ عليها السّلام من ربّها، وأن يبشِّرها ببيت في الجنَّة من قصب لا صخب فيه ولا نصب.

وقد ارتأت المشيئة الإلهيَّة أن يكون من نسل خديجة كلّ الطّهر الذي تمثّل بالزَّهراء والأئمة (ع)، ممن أذهب الله عنهم الرِّجس وطهَّرهم تطهيراً. وإليه أشار الإمام الصَّادق (ع) عندما قال: “إنَّ الله تعالى جعل خديجة وعاءً لنور الإمامة”.

فلنتوجّه إليها بتحايانا ونقول: السّلام عليك يوم ولدت، ويوم سبقت إلى الإسلام، ويوم انتقلت إلى رحاب ربِّك، ويوم تبعثين حيّةً، ويوم تحصلين على ما وعدك الله من جنّة من قصب لا صخب فيها ولا نصب.

الخطبة السياسية

عباد الله، أوصيكم وأوصي نفسي باستعادة المعاني التي حملها رسول الله (ص) عندما آخى في اليوم الثّاني عشر من شهر رمضان بين المهاجرين والأنصار، ففي هذا اليوم، نستعيد أجلى معاني الأخوّة، والتي حكم بها الله سبحانه وألزم بها المؤمنين، عندما قال: { إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ }، وبيّن (ص) مسؤوليّاتها.

ورد في الحديث: “مثل المؤمنين في توادّهم وتعاطفهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالسّهر والحمّى”.

وقد قدَّم المسلمون أروع معاني الأخوّة بعدما هاجروا من مكّة إلى المدينة، يومها تقاسموا مع إخوتهم المؤمنين الأموال والأعمال.

إننا أحوج ما نكون لنعزز هذه القيمة؛ قيمة الأخوّة، في مشاعرنا وأحاسيسنا وسلوكنا، وبذلك سنكون أقوى وأشدّ وأصلب وأقدر على مواجهة التحديات.

تفاقم الأزمات

والبداية من هذا البلد الذي تستمرّ فيه الأزمات على كلّ الصّعد، من دون أن تلوح أيّ بارقة أمل في حلول تنقذ البلد من الانهيار، سواء من الداخل أو الخارج، بعدما أصبح واضحاً أن لا حكومة في وقت قريب، ولا مساعدات خارجيّة تخفّف من وطأة هذه الأزمات عليهم.

في هذا الوقت، تبرز إلى الواجهة العديد من الملفّات التي نراها ضروريّة لمواجهة الفساد المستشري في مؤسّسات الدولة، فبعد ملفّ التدقيق الجنائي لكشف ما كان يجري من فساد في المؤسّسات، يبرز في هذه الأيّام ملفّ الشّركات المالية التي قد يكون لها دور في تهريب الأموال إلى الخارج أو حجب الدولار عن السوق المحلي والذي يتسبب في ارتفاعه.

ونحن في هذا المجال، أكّدنا ونؤكّد ضرورة أن تشرَّع الأبواب لإجراء أيّ تحقيقات على صعيد هذا الملفّ وأيّ ملفّ من ملفات الفساد، وأن لا يُتذرّع بأيّ شكليات تمنع من معرفة أين ذهبت أموال اللّبنانيّين أو من يتلاعب بلقمة عيشهم واقتصادهم، على أن تكون بعيدةً كلّ البعد من الحسابات السياسية، أو أن تكون واحدة من أدوات هذا الصّراع السياسي الجاري في البلد، بحيث تفتح لحساب سياسي، وتغلق لحساب سياسيّ أو تخضع للاستثناء.

فمصالح اللبنانيين ومقدّراتهم وأموالهم لا ينبغي أن تدخل في التراشق السياسي بين القوى المتصارعة. ومن هنا، فإننا دعونا وندعو إلى قضاء عادل ونزيه ومستقلّ، وبعيد عن الشبهات، يحكم باسم اللبنانيين ولحسابهم، لا باسم هذا الفريق السياسي أو ذاك.. ومع الأسف، أظهرت الأيام الماضية ما نخشى منه على الجسم القضائيّ، وهو التطييف والتسييس والانقسام، والذي إن استمرّ سيهدّد مصداقية هذا القضاء، ويفقد اللّبنانيّين أملاً جديداً في الإصلاح وإيجاد المخارج للأزمة الاقتصادية المالية والاقتصادية والمعيشية بكلّ تداعياتها، حيث لا أمل ببناء وطن، ولا تحقّق العدالة فيه بدون قضاء نزيه وعادل يملك الحرية، ولا تقيّده القيود السياسية والمصالح الفئوية.

ومن هنا، فإنّنا نقول لكلّ من هم في مواقع المسؤوليّة، ارأفوا بهذا البلد، ولا تزيدوا يأس إنسانه يأساً، ارفعوا أيديكم عن الباقي من مؤسّسات الدّولة، والتي يلجأ إليها الناس ويحتمون بها، ارفعوا أيديكم عن القضاء واتركوه حراً طليقاً، وهو بذلك سيكون ضمانةً للناس ولكم.. فإذا كنتم تراهنون الآن أنّ مواقعكم تحميكم وبيدكم قرار البلد، فلن تحميكم عندما تتبدّل الظروف وتتغير المواقع.

ومن جهة ثانية، فإننا ندعو إلى عدم إقحام الجيش وإدخاله في أتون الصراع السياسي الدائر في البلد، إذ ينبغي الحفاظ على هذه المؤسّسة واستقلاليّتها ومصداقيّتها، حتى تؤدّي دورها، وتبقى صمّام أمان وعنوان جامع للبنان واللّبنانيّين.

لماذا مهاجمة سلاح المقاومة؟!

وبالانتقال إلى الحديث الجاري الذي يصدر عن مراجع دينية أو سياسية حول سلاح المقاومة، فإننا نعيد تأكيد ما أشرنا إليه سابقاً، وهو ضرورة عدم التنكّر للدور الكبير الذي قام به هذا السّلاح في تحرير الأرض وحماية الوطن من العدوان الصهيوني ومن الإرهاب، وما قدمته المقاومة اللبنانية في هذا الطريق من الشّهداء والجرحى، وما حقّقته من التوازن الذي جعل العدوّ الصّهيوني يعدّ للمائة قبل أن يقدم على أيّ مغامرة عدوانية على لبنان، وإذا كان هناك أيّ هواجس أو مخاوف من هذا السّلاح ومن دوره، فهذا لا يعالج عبر المنابر أو التصريحات بقدر ما يعالج بالحوار البنّاء المطلوب، والتواصل الذي لم ينقطع ولا ينبغي أن ينقطع في يوم من الأيام، والذي يأخذ بالحسبان هواجس الجميع.

تداعيات خطيرة قادمة

أما على الصعيد الداخلي، فإننا على وقع تصاعد الأزمات المعيشيّة والحياتيّة، والتي قد تكون تداعياتها أكبر في قادم الأيّام، في ظلّ الحديث عن رفع الدعم عن السّلع الأساسيّة الذي بات أمراً واقعاً، ندعو اللّبنانيين بكلّ طوائفهم ومذاهبهم، والمقيمين فيه والمغتربين، إلى توحيد جهودهم وطاقاتهم وقدراتهم، لمواجهة أيّ تداعيات قد تنتج من هذا الواقع الصعب، حتى نتجاوز هذه المحنة بأقلّ قدر من الخسائر والأضرار، ونحمي هذا البلد من تداعيات الانهيار، بحيث تكون مبادرات الخير عامّة وشاملة للجميع.

الاعتزاز بأهالي القدس

وأخيراً، نشعر بالاعتزاز بأهالي القدس الّذي يقفون بكلّ عزيمة وإرادة، رغم الظّروف الصّعبة التي يعانونها، في مواجهة غطرسة الكيان الصّهيوني، ويمنعونه من عمله الدؤوب لتهويد هذه المدينة وتهويد المسجد الأقصى مكانياً بعد تهويده زمانياً، وندعو كلّ الشعوب العربيّة والإسلاميّة إلى الوقوف معهم لشدّ عزيمتهم، ولإشعارهم بأنهم لا يقفون وحدهم، بل معهم كلّ الشّعوب العربيّة والإسلاميّة وكلّ المستضعفين.