العلامة السيد علي فضل الله لـ(اللواء الإسلامي) عقب موسم الحج: لا بدَّ من العمل لإزالة التوتر الذي يُراد له أن يكون طابع الساحة الإسلاميَّة

التعليم والحوار ركنان أساسيان في عملية الإصلاح..

 

العلامة السيد علي فضل الله

خاص – «اللواء الإسلامي»

الحج شعار الوحدة … فهو الذي جعل الناس سواسية في لباسهم وأعمالهم وشعائرهم وقبلتهم وأماكنهم، ولا فضل لأحد على أحد: الملك مع المملوك، والغني مع الفقير، كلهم في ميزان واحد، وهم أيضا سواسية في الحقوق والواجبات لا فرق بين الألوان والجنسيات والعرقيات، كلهم جمعتهم وحدة المشاعر ووحدة الشعائر ووحدة الهدف ووحدة العمل.
ولكن هل هذا فعلا ما نراه في سلوك وأفعال و تصرفات المسلمين بعد عودتهم من الديار المقدسة..؟!؟
 هل هذه المعاني الجليلة هي التي نراها مترجمة على أرض الواقع بعد انتهاء موسم الحج ورجوع كل مسلم إلى حياته وإلى بلاده وإلى مجتمعه..؟! لماذا لم يعد الحج – كما هو في الأصل- نقطة تصحيح لكل الأخطاء السلوكية و العملية بل و الفكرية التي كانت في عقول الناس، ولماذا أصبحنا نرى بعضهم يعود من الحج وفي نفسه جرأة أكبر على المعصية وعلى مخالفة عبر ومعاني الحج من خلال أعماله..؟!

إن الحديث عن هذه الآفات يستلزم منا عشرات المقالات، ولكن مع سماحة العلامة السيد علي فضل الله الأمور تختلف، فالكلام مووزن ودقيق … يعبر عن الواقع بكل يسر ومصداقية ويقدم الحلول المستقاة من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.

إيفاء الحاج بالوعود

 بدايةً، ما هي كلمتكم لكلِّ من عاد من بيت الله الحرام وقد أدى فريضة الحج؟
– لعلَّ من أبرز شروط تحقّق الحجّ، هو ما يتمثَّل في إيفاء الحاج بالوعود التي قطعها لله في رحلة الحج كلها، في الأدعية التي توجه بها إلى الله، وفي الابتهال إليه، والتلبية بين يديه. وبالتالي، على المؤمن أن يفي بما التزم به خلال أدائه فريضة الحج، فيقرر أن يلبي الله ولا يلبي أحداً سواه، وأن تكون حركته مرتبطة برضى الله، وأن يسعى دائماً إلى أن يكون حيث أراد الله، وأن يضحي من أجله، وأن لا يتبع خطوات الشيطان الذي يأمر بالفحشاء والمنكر. 
هذه الأمور لا بدَّ من أن تنعكس على سلوكيات الحاج بعد عودته إلى دياره. ومن هنا، فإننا نشدّد على إخواننا العائدين من الديار المقدسة، أن يركّزوا مفاهيم الحج في نفوسهم، وأن يكونوا الصّادقين في حركتهم اليوميّة مع الله ومع الناس من حولهم، فبذلك يتحقّق الحج، وينالون رضوان الله وجنته.

 

مظهر وحدوي

كيف يجب أن تنعكس عبادة الحج على الفرد والمجتمع، من ناحية إعلاء صوت الوحدة بين المسلمين، وتجنّب الخلافات والصّراعات؟
– الحجّ مظهر عباديّ وحدويّ، حيث يقف الحجاج معاً في إحياء شعائرهم وفي عباداتهم، بعيداً عن اختلافاتهم المذهبيّة أو العرقيّة أو القوميّة، فهم يطوفون معاً، ويسعون معاً، ويرجمون الشياطين معاً، ونحن نأمل لهذه الصورة أن لا تقف حدودها عند انتهاء أعمال الحج ورجوع الحجيج إلى ديارهم، بل أن تتجسَّد في واقع المجتمعات الإسلاميّة وحدةً حقيقةً، يواجه بها المسلمون كلّ التّحديات الّتي تعصف بواقعهم وبلدانهم. 
وعندما نتطلَّع إلى مظاهر الوحدة الإسلاميَّة الَّتي كرّسها الحج في هذا الاجتماع الإسلامي العظيم، الَّذي لا يوجد له مثيل في العالم، نؤكّد للمسلمين أنَّ الله تعالى أراد لهذه الصورة أن تتجسَّد في اجتماعهم السّياسيّ والاقتصاديّ والحياتيّ وما إلى ذلك، وأنَّ عليهم أن يستشعروا المخاطر المحدقة بالعالم الإسلامي، ليعيشوا في نطاق الشخصيَّة الإسلاميَّة الجامعة، لتكون القضايا الإسلامية الكبرى هي قضاياهم وهمومهم، ولتتكرس اهتماماتهم فيها، لا فيما يخصّ المذهب فقط.
إنَّنا في هذه المرحلة بأمس الحاجة إلى شخصيات وجمهور وحركات تعيش هم الوحدة الإسلامية، وخصوصاً أن خطر التمذهب المغلق أصبح داهماً، وأن البعض بات يعيش في نطاق فهمه الضيق للإسلام، ويحاول أن يفرض التعصب والانغلاق على كلّ من حوله.
وفي هذا الإطار، نؤكّد على علماء الإسلام الذين كان الحج ساحة أساسية في حركتهم، أن يكون خطابهم هو الخطاب الوحدوي الجامع، الرافض للفتن، والمناهض لكلّ مظاهر التعصّب والانغلاق، ليكونوا القدوة للجمهور الإسلامي المتعطّش إلى الإسلام الصّافي السّمح، بعدما قدّم المتعصبّون الدمويّون كلّ مظاهر التخلّف، التي لا تمت إلى الإسلام بصلة.

نرى أنَّ كثيراً من المسلمين يزدادون عصبيةً وتعنّتاً بعد عودتهم من الحج، فهل هذا جهل بمعاني العبادة أم هو نتيجة لميراث فكري أعمى؟
– للأسف، هذا يعبّر عن عدم فهم حقيقيّ لمقاصد الحج وأهدافه، ويشير إلى عدم الاستفادة من معانيه، الَّتي ينبغي أن تخرج من الشَّكل إلى المضمون. ولعلَّ أهمّ دروس الحج، هو الصَّبر، والحلم، وقبول الآخر، والانفتاح عليه بكلّ سلبيّاته وايجابيّاته.
ونحن نأسف لأن نرى في وسطنا الإسلاميّ مظاهر تتّسم بالتعصّب والتعنّت والتطرّف، وتتغذّى من الأحقاد الَّتي يُنتجها الخطاب الانفعاليّ المتوتر، أو من أولئك الّذين قدّموا أنفسهم للناس من موقع الفتيا، وهم ليسوا من أهل الإفتاء والفقاهة، وعلينا أن نذكّر هؤلاء دائماً بما قاله رسول الله: «مَنْ تَعَصَّبَ أَوْ تُعُصِّبَ لَهُ، فَقَدْ خَلَعَ رَبَقَ الإيمَانِ مِنْ عُنقِهِ».
الجهل يهدد أوساطنا الإسلامية
نعلم جميعاً أنَّ المرحلة التي نمر بها خطيرة جداً، وبخاصة من ناحية انتشار عقلية التكفير، فكيف يمكن لمن اجتمع مع المسلمين في مكان واحد، وزمان واحد، وبهدف واحد، أن يكفّر المجاور له؟ وكيف يكون التصدي للتكفيريين، في رأيكم؟
لا بدَّ من العمل على تحويل الوحدة الإسلاميّة إلى مسار عملي يدخل إلى المدارس والجامعات والنوادي، لإزالة التوتر الَّذي يُراد له أن يكون طابع الساحة الإسلاميَّة، ولا بدّ من أن نربي جيلاً إسلامياً واعياً لكلّ هذه المخاطر الَّتي تحدق بالأمّة، وتسعى إلى إبعاده عن قضاياها الأساسية، وفي مقدّمتها القضيّة الفلسطينية، وأن نستحضر دائماً قول رسول الله(صلى الله علية وسلم): «كل المسلم على المسلم، حرام دمه وماله وعرضه».
كما علينا أن نعمل بوصايا رسول الله(صلى الله علية وسلم)، الَّذي قال للمسلمين وللناس جميعاً: «لو تكاشفتم لما تدافنتم».. لأنَّ من أخطر ما نعيشه في أوساطنا الإسلاميَّة، أننا نجهل بعضنا بعضاً، وأنَّ كلّ واحد يضع في رأسه صورةً نمطيةً عن المذاهب الأخرى، ويسعى لكي يحاسبهم على أساسها، بينما لو تقدم نحوهم للحوار والمصارحة، لرأى أن أغلب ما يفكرون فيه ويعيشونه، هو ما يفكر فيه ويعيشه.

إنَّ آفة التكفير والتضليل وإخراج الناس عن دينها، هي من الآفات الخطيرة الَّتي تواجهنا في هذه الأيام، والَّتي تحتاج إلى عمل تربويّ وتثقيفيّ كبير، كما تحتاج إلى سعة صدر من قبل العاملين الرافضين لها، لا أن تواجه بالتَّكفير المضاد، بل بالاستعداد للحوار، ثم إدارة هذا الحوار بالصراحة التامة.. لأننا نزعم أن جزءاً كبيراً مما نعانيه في واقعنا، انطلق من ذهنية المجاملة التي تتقارب فيها الشخصيات مع بعضها البعض، في المواقع الرسمية واللقاءات العامة، ثم ما تلبث أن تتحدَّث بلغة أخرى في واقعها الخاص.

التعليم أساس للإصلاح
هل من خطوات في المدارس والجامعات من أجل تمهيد الطريق لمعاني التعاون والتسامح بين الناس عموماً، وبين المسلمين خصوصاً؟
– تمثّل الجامعات والمدارس، إضافةً إلى المعاهد الدينية وغيرها، ساحة أساسية من ساحات العمل التي يمكن من خلالها تقديم الصورة الأمثل لحوار المتعلمين والمثقفين؛ هذا الحوار الذي نأمل أن يتم التمهيد له من خلال المناهج التي تدعو المسلم وغير المسلم إلى الانفتاح على الآخر، وتفهّم واقعه، والحوار معه بعد تفهّم ظروفه وأوضاعه، لأننا غالباً ما ندير الحوار مع الآخر بطريقة الصّراخ، من دون أن نتفهَّم أوضاعه الخاصّة، والظّروف الّتي دفعته إلى اتخاذ موقف سلبيّ من هذا الفريق أو ذاك.
ومن هنا، نحن مع كلّ حلقة حوار تنطلق من هذه المواقع، ولكن على أساس علمي موضوعي، وبعيداً عن كل ما يثير الفوضى فيها، وكل ما يمثل الانتماء الأعمى المغلق، سواء كان انتماءً حزبياً، أو حركياً، أو دينياً، أو ما إلى ذلك.
وعلينا ألا نغفل الحوار الذاتيّ داخل هذه المؤسَّسات العلميّة، لأنَّ الحوار الناشئ من منطلقات معرفية، والّذي يبدأ من منطلقات فردية، غالباً ما يدفع نحو التعرف أكثر إلى الآخر، وبناء القناعات على أرضيّة من التجارب، لا من خلال تكوين صورة معينة عن الآخر، قد لا تكون الصورة الحقيقية، أو قد تكون صورة عن فريق معين، وليست صورة هذه الطائفة أو هذا المذهب.
إننا نقول للمسلمين جميعاً، إنَّ الاختلاف لا ينطلق دائماً على أساس مذهبي، فقد يختلف هذا الفريق الشيعي مع الفريق الشيعي الآخر، أكثر مما يختلف مع الآخرين، والعكس هو الصحيح بالنسبة إلى السنَّة.. ولذلك، علينا أن ننطلق في الحوار من خلال استحضار المشتركات بادئ ذي بدء، ثم بعد أن نؤكد هذه المشتركات التي قد تتجاوز التسعين في المئة، نتقدَّم خطوة إلى الأمام في كيفية التحاور فيما نختلف فيه، لنصل إلى نتيجة ترضي واقعنا وترضي الله ورسوله.

 

المصدر: اللواء الإسلامي

 

Leave A Reply