العمى الإراديّ.. خطر في الدّنيا ومسؤوليَّة في الآخرة

ألقى سماحة العلامة السيّد علي فضل الله، خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عددٍ من الشخصيّات العلمائيّة والسياسيّة والاجتماعيّة، وحشدٍ من المؤمنين، ومما جاء في خطبتيه:
 

الخطبة الأولى

{إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ * والَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلا أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ * وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لاَ يَسْمَعُواْ وَتَرَاهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ}[الأعراف: 196- 198].

العمى عن الحقّ

لما دعا رسول الله قومه إلى التّوحيد وعبادة الإله الواحد، بدل الشّرك والأصنام، انقسم النّاس، فكان البعض ممن عاند ولم يصدِّق، يأتون إلى رسول الله، فيضع أمامهم دلائل الحقّ. ومع أنهم يعرفون أنّه الصّادق الأمين، كانوا يحيّدون البصر عن هذا الحقّ، ويرفضون الوجهة الّتي يدعوهم إليها، ومن هنا كانت الآية: {وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لاَ يَسْمَعُواْ وَتَرَاهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ}. هم لا يريدون أن يسمعوا أو يروا أو يفكّروا… حالهم في ذلك حال الّذين تحدَّث الله عنهم: {لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا}[الأعراف: 179].

وحال هؤلاء هو حال من يقفل أذنيه كي لا يسمع، أو يغمض عينيه كي لا يرى، وهو حال قوم نوح على سوئهم، إذ شكا إلى الله قائلاً: {وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا}[نوح: 7].. هم ينظرون لكنَّهم لا يبصرون، والنَّظر شيء والإبصار شيء آخر. والإنسان يُصنَّف أعمى ليس فقط إذا فقد نظر عينيه، بل لفقدان وعي ما ترى عيناه، ووعي ما تشعر تجاه ما ترى، ووعي الحكم على ما ترى.. {فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُالَّتِي فِي الصّدور}[الحجّ: 46]. 

مستويات التّعامي

وتشخيص هذه الحالة هو: العمى الإراديّ أو التّعامي.. والتّعامي مفهوم يعني أنّه إذا كان هناك من معلومات يمكنك معرفتها، وكان يجب عليك أن تعرفها، لكنّك بطريقة أو بأخرى تصرّفت بأسلوب "لا تعرف"، فذلك هو عمى بملء الإرادة.. والعمى الإرادي ليس هو الجهل، فالجهل يصيب العقل ويشلّ القدرات العقليّة، أمّا التّعامي، فموضوع تربويّ نفسيّ. ولهذا فالموضوع أصعب وأعقد.

والتّعامي يحدث على مستويات متعدّدة، منها ما هو على مستوى الفرد والبيت والعائلة، ومنها ما هو على مستوى السّلطة والقيادة والمؤسّسات والمنظّمات والشّركات والحكومات.

وما أكثر ما نعانيه من حالات العمى الإراديّ في أيّامنا هذه على مستوى الحياة اليوميّة الضيّقة، وصولاً إلى قضايانا الكبرى المصيريّة! خذْ سلوك النّاس مثلاً تجاه استثمار المال أو تشغيله بنسب خياليّة وغير منطقيّة، ألا تجد أكثر النّاس لحظتَها لا ترى ولا تريد أن تسمع نصيحة أحد، وتشارك وتخسر أموالها، وفيما بعد تلوم نفسها؟! هذا يحصل عندنا كما يحصل حتّى في الغرب، حيث حدثت نكسات كبيرة شبيهة على مستوى البنوك الّتي أقرضت أموالاً مودعة لديها بتسهيلات عالية، مع تجاهلٍ لقدرة المقترضين على سداد القروض. كان همّ البنوك زيادة أرباحها، والنتيجة انهيارات اقتصاديّة هائلة.

وفي السياسة، خذ الحرب على العراق، الكلّ كان يعرف أن لا أسلحة دمار شامل، ورغم ذلك، كان على الجميع، بما فيهم الدّول العربيّة، أن يغمضوا أعينهم ويبلعوا ألسنتهم، وهذا ما كان قد حصل بعد الثّورة الإسلاميّة في إيران، عندما شُنّت الحرب عليها من العراق بتحريضٍ دوليّ وعربيّ. صار هناك تجاهل تامّ، وتمّ ما تمّ. واليوم، تحدث اللّعبة نفسها في سوريا، وغداً في بلد آخر، وهكذا، والعالم لا يريد أن يرى… وهذا أيضاً ما كان قد حصل بعد الثّورة الإسلاميّة في إيران، عندما شُنّت الحرب عليها من العراق بتحريضٍ دوليّ وعربيّ. واليوم، تحدث اللّعبة نفسها في سوريا، وغداً في بلد آخر، وهكذا، والعالم لا يريد أن يرى..

وهذا العمى يصل إلى حدّ الفضيحة في فلسطين المحتلّة؛ الخائفون على مصائر الشّعوب والمدافعون عن الدّيمقراطيّة، سرعان ما تتبدّل لهجتهم عندما يتعلّق الأمر بالفلسطينيّين، هناك تصبح الضحيّة هي القاتل، هي الإرهابيّ، هي المعتدية على الآمنين، أما القاتل فهو البريء، وهو المتحضّر. هناك، يغمضون أعينهم عن هدم المنازل، وقضم الأراضي…

وفي الدّاخل نماذج هذا العمى تكاد لا تنتهي: على مستوى الفساد الصحّيّ والاجتماعيّ والإعلاميّ، والمؤشّرات كثيرة، والمسؤولون لا يريدون أن يروا…

أمَّا على مستوى الأفراد، فإنَّ أمثلةً كثيرةً من الواقع تثبت كم أنَّ هذا المرض خطير، فعندما يصل الأمر إلى أخطاء الإنسان وأدائه وسلوكه، فإنَّ حالةً من العمى الإراديّ تنتصب سدّاً منيعاً أمام كلّ من ينصح أو ينتقد، وأكثر ما نشهد ذلك عند أخذ قرار الزَّواج؛ يأتي من يبصّر الفتاة بمشكلة موجودة في دين الشابّ أو ماله أو أخلاقه، فإن قرّرت الفتاة ألا ترى فهي لن ترى، وأكثر من هذا، ستستعدي من يبصّرها ويوعّيها… والمثل ينطبق أيضاً على الشّابّ الرّاغب في الزّواج.

وهذه حال كثير من الأهل مع أولادهم، وكيف يدافع الأهل عن سلوكيّاتهم الخطأ بطريقة عمياء، فلا يرون المشكلة الحقيقيّة، بل ينشغلون بالتّفاصيل الهامشيّة… ويتكرّر الأمر في كافّة نواحي الحياة والعمل وفي العلاقات والتّواصل….

أسباب التّعامي

وقد يتساءل المرء: ما الأسباب وراء هذا التّعامي الإراديّ؟

لو فتَّشت عند معظم النَّاس، لوجدت العاطفة علّة العلل. نعم، العاطفة الّتي غالباً ما تدفع إلى التعامي عن السلبيَّات، كما يقول الشَّاعر:

وعين الرِّضا عن كلّ عيبٍ كليلة          ولكنَّ عين السّخط تبدي المساوئا

فكثير من النَّاس يدفعهم حبّهم لأن لا يروا أخطاء من يحبّون، سواء كانوا أفراداً أو جهات، أو مواقع سياسيَّة أو أبناء طوائفهم ومذاهبهم، ويرون كلّ الأخطاء لدى الآخرين، أمَّا من يحبّون، فإنَّهم من المعصومين؛ إنَّها العصبيَّة المرض الّذي أخذ يستفحل في مجتمعاتنا.

أمّا السَّبب الآخر لأن يختار الإنسان أن يتعامى، فهو الخوف من أن لا يصدِّقه أحد، أو الخوف على خسارة الأصدقاء أو الموقع أو المصالح والامتيازات. ومع الوقت، هو لا يكتفي بعدم النّظر إلى الأخطاء، بل يسعى بكلّ جهده للتّغطية عليها.

أمّا السّبب الثّالث للتّعامي عن الحقائق، فهو الرَّغبة في الموادعة والمسالمة، وعدم وجع الرّأس..  والبعض يبرِّر تعاميه بعذر أقبح، إذ قد يتحجَّج بأنَّ الكلام لا فائدة منه؛ أليس هذا موقف الّذي لا يريد أن يتحمَّل مسؤوليَّته، أليس هذا هو اليأس من التَّغيير الّذي يدفع بالكثيرين إلى الهروب من رؤية الأمور على حقيقتها…؟!

إنّ العمى الإراديّ الّذي يسلكه الإنسان تحت أيّ من هذه الأسباب، هو مسؤول عنه يوم يقف بين يدي الله، فالإنسان على نفسه بصيرة، ولو ألقى معاذيره…

وقد يتوقَّف سائل عند طبيعة البشر، بأنَّهم عادةً يميلون إلى تغليب جانب العاطفة ويغيّبون المنطق، ولا سيَّما إذا ما تعلّق الأمر بأحبَّائهم… ولكنّ الله لم يترك الإنسان لعاطفته ولنفسه الأمَّارة، ولهذا كانت التّربية… وعمل التّربية، أيّها الأحبّة، هو أن تجعلك تتوازن، فلا تغلب الغريزة على العقل، ولا تغلب العاطفة على المنطق.. وأهم لحظات التّربية هي لحظات الصّفاء والطّهارة، وأيّ لحظات هي أفضل من الصَّلاة الّتي كانت لنا فرضاً نردِّد فيه: "اهدنا الصّراط المستقيم"، نقولها في خمس محطّات في النّهار، لنربِّي أنفسنا ولنلجمها ونقوى عليها.. وكذلك نفعل في مناجاتنا إلى الله: "اللّهمّ أرنا الحقّ حقّاً وارزقنا اتّباعه، وأرنا الباطل باطلاً ووفّقنا لاجتنابه…"، "ربّنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنّك أنت الوهّاب".

وعي البصيرة

أيّها الأحبّة:

في حياتنا اليوم، هناك من يمارس عمليّة التّعمية كأمر عاديّ، ويتفنّن فيها، وأصبح لذلك فضائيّات وبرامج وتقارير وأفلام، وكلّ ما يخطر في البال.. وعلينا أن نحذر من كلّ أولئك، ونضاعف الوعي والانتباه، كي لا يضلّ سعينا ونحن نحسب أنّنا نحسن صنعاً.

وفي المقابل، فإنّ الحياة لا تخلو من الّذين يحبّون الله ويحبّون خلقه ويحبّون دينهم وأرضهم، ويحبون أن يعمّ الخير الحياة كلّها. هؤلاء قد يعانون ويلاقون المتاعب، وقد يُتَّهمون بأنَّهم يخرّبون أو يثيرون المشاكل.. بالرّغم من كلّ هذا، تراهم صامدين ثابتين رساليّين.. الحياة بحاجة إلى هؤلاء..

الحياة بحاجة إلى الّذين يتمسّكون بمواقفهم بكلّ وعي وعناد، لا يغشّون أنفسهم أو من حولهم.

الحياة بحاجة إلى من يقول للنّاس حدّقوا فيما ترون، لا تمشوا خلف الخرافات الّتي تلبس الحقّ بالباطل.

الحياة بحاجة إلى من ينبّه: لا تعطّلوا عقولكم أو تنوّموها أو تعطوها إجازة.

الحياة بحاجة إلى من ينبّه من خطر تكرار أخطاء الماضي بكلّ بشاعتها.

الحياة تحتاج دائماً إلى أصحاب البصائر الحيّة، وإلى الّذين يهتدون بهدي الله وهدي رسوله.

{قُلْ هَٰذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَىٰ بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ}[يوسف: 108].

والحمد لله ربِّ العالمين.

الخطبة الثّانية

عباد الله، أوصيكم وأوصي نفسي بتقوى الله. ومن التَّقوى أن لا نزهد بالآخرة، فهي دار القرار، وأن لا تشغلنا الدّنيا وما فيها عنها، وأن نتذكَّر دائماً أنَّه مهما بلغ متاعنا في الدّنيا، فهو قليل أمام الآخرة: {فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ}[التّوبة: 38].

وفي هذا الجوّ، نستحضر حواراً جرى بين هارون الرّشيد وابن عيّاض. وكان ابن عيّاض من الزهّاد، فقال له الرّشيد: "ما أزهدك يا بن عيّاض!"، فقال ابن عيّاض: "أنت أزهد مني يا خليفة المسلمين"، قال: "كيف وأنا هارون الرّشيد الّذي لا حدود لأطراف ملكي، فأنا أقول للغمام: اذهبي حيث شئتِ فسيأتيني خراجكِ؟"، قال: "لأنّي زهدت في الدّنيا الّتي لا تعدل عند الله جناح بعوضة، وأنت زهدت في جنّةٍ عرضها السماوات والأرض، فأنا زاهد في الفاني الّذي لا يبقى، وأنت زاهد في الباقي، فأنت أزهد منّي".

أيّها الأحبّة، علينا أن نتحمّل مسؤوليّاتنا الكثيرة في الحياة، لكي لا نكون زاهدين في الآخرة، ومن أهمّ هذه المسؤوليّات وأبرزها، أن لا نكون أتباعاً للطغاة والمستكبرين والظالمين، كي لا نقف موقفهم الّذي أشار إليه سبحانه وتعالى: {وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعًا فَقَالَ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ قَالُوا لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ}[إبراهيم: 21]. وبذلك، نكون أحراراً أعزّاء في مواقفنا، وعاملين بحرص على حفظ كلِّ عناصر القوّة في مواجهة سياسات الاستكبار الظّالمة؛ هذا الاستكبار الّذي يسعى بكلّ جهده للإجهاز على مواقع القوّة، فلا نصدّق يوماً أنّه يحرّك أساطيله وبوارجه لخدمتنا أو لخدمة الشّعوب المستضعفة، أو لإزالة الاحتلال عن كاهلها، أو رفع الضّيم عنها، بل هو يسعى إلى تحقيق أهداف يريدها في هذه المنطقة، ومنها حضوره في المواقع الاستراتيجيّة، للسّيطرة على آبار النّفط وحماية الأمن الصّهيوني، وكلّ ما عدا ذلك هو خارج اهتماماته.

11 أيلول: ذريعة الإمساك بالمنطقة

ومن هنا، نطلّ على ما حصل في الحادي عشر من شهر أيلول/سبتمبر في مثل هذه الأيّام، وقبل اثنتي عشرة سنة، ذلك الحدث شكّل بالنّسبة إلى أميركا وحلفائها، الذّريعة للدّخول بشكل مباشر إلى العالم العربي والإسلامي، للإمساك بقرار هذا العالم، ومنع نشوء أيّة قوّة قد تمثّل خطراً على مصالحها ومصالح الكيان الصّهيونيّ.

وقد كنّا نتوقَّع بعد كلِّ الإخفاقات الَّتي واجهتها أميركا، أن تعيد النّظر في سياستها وأسلوب تعاملها مع دول هذه المنطقة وشعوبها، فتحترم إرادة هذه الشّعوب وخياراتها وحقّها في الحريَّة والإمساك بثرواتها ومقدّراتها… ولكن يبدو أنَّ أميركا لن تتغيّر، فهي لا تزال مصرّة على منطقها في تعاملها مع دول المنطقة؛ منطق استعمال القوّة بدلاً من منطق التّفاهم مع هذه الشّعوب واحترام خياراتها وحقّها في العيش الكريم والسّلام والأمان، وإزالة كاهل الاحتلال الصّهيونيّ عنها.

استنزاف سوريا

وها هي تريد العودة إلى المنطقة وبشكل مباشر، وهذه المرَّة تحت عنوان مواجهة السِّلاح الكيميائيّ، والحرص على الشّعب السّوري، في الوقت الّذي يعرف الجميع أنَّه ليس في حسابات السياسة الأميركيّة أيّ مجالٍ للعطف، وإلا لكانت تحرَّكت ومنعت الكيان الصّهيونيّ من استعمال الفوسفور الأبيض في غزَّة، وعملت على إيقاف نزيف الحرب في سوريا، وهي القادرة على لعب دور أساس في ذلك، ولكنّنا لا نزال نعتقد أنّ أميركا لا تريد إنهاء هذا الملفّ، بقدر ما تسعى إلى استنزاف هذا البلد ومواقع القوّة فيه.

وقد برز ذلك واضحاً عندما اكتفت باستعدادها لإيقاف عملها العسكريّ، شرط تدمير السِّلاح الكيميائي؛ هذا السِّلاح الرّادع الّذي كان يخشاه الكيان الصّهيونيّ، والّذي جعله يعيش الهلع في الأيّام الماضية، حيث رأينا الصّفوف الطّويلة في هذا الكيان للحصول على كمّامات واقية تقي من هذا السّلاح لو استعمل في مواجهة غطرسته، وإن كنّا لا نريد أن يكون هذا السّلاح هو السّلاح الّذي يُستخدم في الحروب، لآثاره الفظيعة على كلِّ النّاس.

ونحن نقول لكلّ الّذين راهنوا على أنّ أميركا ستعمل من أجل الشّعب السّوريّ وإزالة معاناته: إنّ أميركا هذه لا تتحرّك في العالم كجمعيّة خيريّة، وهي لا تريد خيراً لشعوب هذه المنطقة، فكلّ همّها في هذا العالم هو الإطباق على مواقع القوّة فيه، حمايةً لمصالحها ومصالح الكيان الصّهيونيّ.

وإذا كان من رهان، فليكن على بناء القوّة الشّاملة في مواجهة غطرسة أميركا، وتحقيق السّلام الدّاخليّ، وتعزيز فرص الوحدة في كلّ مواقعنا.

ومن هنا، نعيد التّأكيد مجدّداً على كلّ مكوّنات الشّعب السّوريّ، أن يتلاقوا على الكلمة السّواء فيما بينهم، وهي حفظ سوريا، فيكفي قتلاً وتدميراً، ويكفي الرّهان على الحسم العسكريّ أو استقدام السّلاح والمسلّحين، وليكن الرّهان واحداً، وبعيداً عن كلّ الكبار وغير الكبار، وهو الجلوس على طاولة واحدة للوصول بهذا البلد إلى شاطئ الأمان.

وفي هذا المجال، آلمنا كثيراً ما جرى في معلولا، إضافةً إلى ما ارتُكِبَ ويُرتكب من مجازر وفظاعات تحت عناوين مذهبيَّة أو طائفيَّة، وهو ما ينبغي للجميع أن ينتبهوا له، لتبقى سوريا موحَّدة بشعبها وأهلها، بعيداً عن كلِّ ألوان التطرّف الدّيني، وعن إثارة المسألة الإسلاميَّة المسيحيَّة بهذه الطّريقة الّتي لا تمثّل رحابة الإسلام؛ هذا الدّين الذي أكَّد الحرية الدينيّة وعدم الإكراه في الدّين واحترام الآخر، بصرف النّظر عن قناعاته والتزاماته الدينيّة، لأنَّ الناس صنفان، إمّا أخ لنا في الدّين، أو نظيرٌ لنا في الخلق.

لبنان: الحوار والحكومة الجامعة!

ونحن في لبنان، ومع بداية انحسار أجواء الحرب الّتي كان يُلوَّح بها على مستوى المنطقة كلّها، نرى الفرصة سانحةً للتّوافق على حلّ مشاكلنا الداخليَّة، من خلال الاستجابة لكلِّ دعوات الحوار، والمسارعة في تأليف حكومة جامعة، بعيداً عن كلّ الرّهانات، وعن عقليّة التشفّي وذهنيّة الاستئثار.

أيّها اللّبنانيّون، إنَّ النّار الّتي تحيط بكم وتلفحكم بلهيبها القادم من المنطقة، ينبغي أن تكون نذيراً لكم لكي تسارعوا في حلحلة تعقيداتكم الداخليّة، والخروج من دائرة المقاطعة والتّراشق من بعيد، إلى باحة الحوار والتّفاهم، لتصنعوا سلامكم الدّاخلي بأيديكم، قبل أن يصنع الآخرون سلامهم على حسابكم وحساب أمنكم الاجتماعيّ والسياسيّ والاقتصاديّ وغير ذلك.

 

 

Leave A Reply