المسلم في علاقته مع المسلم يعتذر ويُعذر

ألقى سماحة العلامة السيّد علي فضل الله، خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عددٍ من الشخصيّات العلمائيّة والسياسيّة والاجتماعيّة، وحشدٍ من المؤمنين، ومما جاء في خطبتيه:
 
الخطبة الأولى
 
قال الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} صدق الله العظيم…
يقرر الله سبحانه وتعالى في هذه الآية المباركة نوعية العلاقة التي يريدها أن تكون بين المؤمنين، هو يريدهم أن يكونوا أخوة لا على مستوى المشاعر والأحاسيس والعواطف فقط، بل على مستوى التعهدات والالتزامات والحقوق.
 
وقد أوضح رسول الله(ص) طبيعة هذه الالتزامات عندما قال: "للمسلم على أخيه ثلاثون حقاً، لا براءة له منها إلا الأداء أو العفو" وعددها.
 
ونحن اليوم سوف نتوقف عند واحد من أهم هذه الحقوق التي تؤكد أن المسلم في علاقته مع المسلم يعتذر ويُعذر. 
 
ومنطلق هذه القيمة التي أشار إليها رسول الله(ص): أن الله لم يخلق الإنسان ملاكاً أو معصوماً إلا الذين عصمهم الله، فالإنسان قد يخضع لهوى معصية أو لغضب يدفعه للظلم ما يوقعه في خطأ بحق الآخرين أو إساءة إليهم، فالخطأ جزء من تركيبة الإنسان، ولذلك ورد في الحديث عن رسول الله(ص): "كل ابن آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون".. وقد أشار القرآن أن الخطأ قد يحصل حتى ممن يتصفون بالتقوى.. ولذلك يقول عنهم: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ}.
 
لذا لم يطرح الإسلام الخطأ كمشكلة بل في كيفية التعامل معه سواء كان الخطأ تجاه الله أو تجاه الناس…
هل يعترف بالخطأ؟ هل يصر عليه؟ أم يسارع إلى علاجه ومحو آثاره وتبعاته… 
 
ومن هنا نرى القرآن عندما تحدث عن الأخطاء الأخطاء التي تصدر من الناس تجاه الله لم يتحدث عن عدم حصولها، بل أشار إلى عدم الإصرار عليها.. وقال: وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ}، إذاً المطلوب عم الإصرار.
 
والأمر نفسه هو ما حرص رسول الله(ص) أن يشير إليه عندما تحدث عن المؤمنين أنهم قد يخطئون تجاه بعضهم أو تجاه الآخرين، ولكنهم إن هم أخطأوا يسارعون إلى الاعتراف بخطئهم وطلب الاعتذار منهم.. وحتى يعزز هذا السلوك، أشارت الأحاديث إلى أن الإنسان إذا كان قد أساء إلى الناس سواء أكان ذلك في أموالهم أم في أجسادهم أم في كراماتهم، فإن الله لا يتوب عليهم حتى يعتذروا ممن أساؤوا إليهم ويطلبوا منهم المسامحة.
 
وحتى في الحالات التي لا يستطيع الإنسان لظروف معينة أن يعتذر فيها مباشرة ممن أساء إليه، عليه أن يوصل اعتذاره من خلال الله سبحانه لكونه وحده القادر على أن يطيب خاطر المساء إليهم، ويزيل كل الآثار والتداعيات التي تشحن النفوس بفعل ما تعرضت إليه، وأن يبرد القلوب.
 
وهذا ما نردده دائماً في دعاء الاثنين: "اَللّهُمَّ.. فَأَيَّما عَبْد مِنْ عَبيدِكَ أَوْ أَمَة مِنْ إِمائِكَ كانَتْ لَهُ قِبَلي مَظْلِمَةٌ ظَلَمْتُها إِيّاهُ في نَفْسِهِ أَوْ في عِرْضِهِ أَوْ في مالِهِ أَوْ في أَهْلِهِ وَوَلَدِهِ، أَوْ غيبَةٌ اغْتَبْتُهُ بِها أَوْ تَحامُلٌ عَلَيْهِ بِمَيْل أَوْ هَوىً أَوْ أَنَفَة أَوْ حَمِيَّة أَوْ رِياءً أوْ عَصَبِيَّة، غائِباً كانَ أَوْ شاهِداً وَحَيّاً كانَ أَوْ مَيِّتاً، فَقَصُرَتْ يَدي وَضاقَ وُسْعي عَنْ رَدِّها إِلَيْهِ وَاْلتَحَلُّلِ مِنْهُ، فَأَسْأَلُكَ يا مَنْ يَمْلِكُ الْحاجاتِ وَهِىَ مُسْتَجيبَةٌ لِمَشِيَّتِهِ، وَمُسْرِعَةٌ إِلى إِرادَتِهِ.. وَأَنْ تُرْضِيَهُ عَنّى بِما شِئْتْ وَتَهَبَ لي مِنْ عِنْدِكَ رَحْمَةً…".
 
وقد جاء هذا التأكيد من رسول الله(ص) من موقع حرصه على أن يكون المؤمن عادلاً تجاه الآخرين، وأن يعيشوا الإنصاف فيما بينهم، وقد طالب المسيئين بالاعتذار لتعميم ليس فقط العدالة، بل للتخفيف من آثار الإساءة على نفوس مرتكبيها، صحيح أن المؤمن حريص على كرامته ولكنه يشعر في نفس الوقت إن كان قد أخطأ ولو بنسبة ضئيلة، إن هذا الخطأ هو عبء على كاهله ما دام لم يعتذر منه، ينام ويفكر فيه ويصحو ويراه قائماً أمامه، فهو لا يستطيع التعايش مع إساءة في حق جار أو صديق أو زوجة وحتى في حق ولد صغير.. ولا يمكن أن يهدأ له بال حتى يصلح ما فسد منه.. وفي الوقت نفسه هذا السلوك يعزز تماسك المجتمع المؤمن، فالاعتذار يطفئ نار الغضب والتوتر التي تنتجها الأخطاء ويردم الهوة التي قد تحصل نتيجتها.. فهو بمثابة الدية للخطأ وإعادة الكرامة للذي وقعت عليه الإساءة…
 
وقد حرص القرآن لإبراز هذه القيمة وللتأكيد على الإشارة إليها عندما تحدث بإيجابية عن امرأة العزيز التي وقفت أمام الناس لتقول وبعد الذي فعلته بيوسف(ع): {قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الْآَنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ * ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ * وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ}.
 
ويبقى السؤال هل سلوك طريق الاعتذار إلى من أسأنا إليه هو بهذه السهولة في واقعنا.. مع الأسف نحن لا نملك في واقعنا ثقافة الاعتراف بالخطأ وثقافة الاعتذار.. نعم قد نعتذر عن أشياء بسيطة ومحدودة وهامشية، ولكن من الصعب أن يقف الواحد ليقول أنا أخطأت وأعتذر، بل نسارع إلى التبرير وخلق الأعذار…. فالاعتذار لا يزال يراه الكثيرون معيباً وفيه انتقاص وإهدار من كرامتهم وهو لا يتناسب معهم….
 
والأمر يصبح أكثر صعوبة إذا كان من أخطأ له شأن اجتماعي أو موقع سياسي أو علمي أو ديني أو عائلي، لذا نرى الأم تنصح ابنتها بعدم الاعتذار لزوجها إذا هي أخطأت معه لأنها عندما تتنازل له "تكبر رأسه" عليها، والزوج تأخذه العزة بالإثم إذا أخطأ بحق زوجته، ويرى نفسه أكبر من أن يعتذر ويقول أنا لا أعتذر من امرأة، والأب ينصح ابنه بعدم الاعتذار ممن أخطأ معه لأنه من العائلة الفلانية والآخرون من عائلة عادية، أو لأن له مقاماً أو شأناً والآخر لا مقام ولا شأن له، والمدير لا يعتذر للموظفين إذا قصر في حقوقهم لأن مركزه كمدير لا يسمح له، باعتبار أن الاعتذار انتقاص من موقعه، والمعلم لا يعتذر للطالب، بذريعة أن ذلك يؤدي إلى فقدان المعلم لهيبته، والطبيب لا يقف معتذراً أو نادماً على خطأ ارتكبه مع مريضه ويعتبر ذلك مضراً بموقعه المهني وسمعته، والعالم الديني ليس على استعداد أن يعتذر إن هو أخطأ في فتوى أو تبيان مفهوم أو تفسير آية، لئلا يخل ذلك بهذا الموقع الديني الذي ينبغي أن يصان وبالطبع لا يصان بالخطأ.. وهذا الأمر نجده في المواقع العامة والسياسية أو الاقتصادية أو الأمنية.. قد يفعل هؤلاء الأفاعيل ويرتكبون الجرائم ولكن لا يعتذرون…
 
ولذلك تستمر الأخطاء وتتفاقم، وتبقى التوترات والانفعالات في النفوس وتتحول إلى أحقاد وما قد ينتج عنها من تداعيات.. إن الكثير مما نعانيه من توترات أو أحقاد أنتجتها أخطاءنا في الماضي وفي الحاضر، يمكن أن نعالجها بكلمة اعتذار رقيقة، ببسمة، بهدية، وبإعادة حق…
 
إن من الوهم الاعتقاد بأن الاعتذار هو ضعف.. فالإنسان يكبر عندما يعتذر، والشجاع والقوي هو الذي لا يدير ظهره لمشاعر الآخرين وأحاسيسهم وآلامهم، بل الذي يتواضع لهم وينتصر على كل النوازع الداخلية.. لذا فهو لا يقبل إلا أن يعتذر إن هو أساء، من دون أن يأبه لكل ما يقال، لأن ما يهمه هو رضى الله وتأكيد خلق التسامح بين الناس، والله  لن يخذل عبداً اعتذر عن خطأ، وتاب عما فعله، ففي ذلك تطهير لقلبه، فالله يحب التوابين ويحب المتطهرين.
 
إن كل ما تحدثنا عنه لا يعني إننا نبرر إطلاق العنان للأخطاء ما دام بالإمكان بعد ذلك الاعتذار.. فنحن ندعو إلى عدم ارتكابها حتى لا نصل إلى مشقة الاعتذار، فالاعتذار غالباً ما لا يمر بسهولة في واقعنا… 
 
ومن هنا جاء الحديث عن رسول الله(ص): " إياك وما تعتذر منه، فإن المؤمن لا يسيء ولا يعتذر". 
 
ولكن الواقعية تفترض أن الإنسان في شكل عام لن يتوقف عن ارتكاب الخطأ، وليس من الضروري أن يكون دائماً عمداً، بل عن غير عمد، ما يتطلب منه الاعتذار منه لإصلاح ما تركه من أضرار على الفرد والمجتمع، ولذلك نحن بحاجة إلى أن نتربى هذه الثقافة، إلى التربية عليها بأن نعززها في مجتمعاتنا، في بيوتنا، في مدارسنا، بحيث الكل يعتذر من الكل، الاعتذار عن الخطأ، الاعتذار عن التقصير في أداء المسؤوليات..
 
كل هذه الثقافة لن تلفح إلا حين تلاقيها القلوب التي لا تعيش عقد الإساءة، فمثل هذه القلوب المتحجرة لن يستطيع الاعتذار على ما فيه من اعتراف بالخطأ وإعادة الكرامة لها أن يحدث فيها تغييراً إيجابياً، لذا فنحن كما نريد للمخطئين أن يبادروا للاعتذار عن أخطائهم، فإننا نريد للمساء إليهم أن يتقبلوا اعتذار الآخرين وأن يأخذوا بأيديهم إلى حيث المحبة والرحمة ليتابعوا حياتهم من دون إشعارهم بعقدة الذنب عما فعلوه في السابق، وهذا هو ما حرصت على تأكيده الأحاديث التي دعت إلى قبول الاعتذار…
 
فقد ورد في الحديث: "إن شتمك رجل عن يمينك، ثم تحوّل إلى يسارك فاعتذر إليك، فاقبل عذره".
 
وفي الحديث: "أعقل النّاس أعذرهم للناس"، لأن العاقل حريص على عدم توتير العلاقة مع أحد، وهو يعلم أن عدم قبول العذر يعني أنك توصد الباب في وجه من جاء معتذراً، وأنت بذلك تقول له لا أريدك ولا أريد أي علاقة معك.. وفي هذا دفع له لعدم الاعتذار وزيادة في توتير العلاقة، وهو ما لا يريده أي عاقل.
 
ولهذا نجد رسول الله يتبرأ ممن لا يقبلون الاعتذار البادي في وجوه أخوانهم وفي كلماتهم، فقال(ص): "من أتاه أخوه متنصّلاً فليقبل ذلك منه، محقّاً كان أو مبطلاً، فإن لم يفعل لم يرد عليّ الحوض".
 
أيها الأحبة:
سننتظر في الحياة هؤلاء الأصفياء الأنقياء الشجعان، الذين يقفون وبكل جرأة ليقولوا نحن أخطأنا وسوف نقوم بإصلاح كل خطأ ارتكبناه..
 
هؤلاء هم الذين نبني بهم الحياة وهم القادرون على النهوض بالمجتمع ويساهمون بتوسيع مساحات التسامح والمحبة فيه، لا الذين يتعصبون لأنفسهم أو لمواقفهم ممن يرون أنفسهم معصومين لا يخطأون وهم ليسوا كذلك.
 
نسأل الله سبحانه أن يجعلنا ممن إذا ذكر تذكر وإذا أساء استغفر وإذا أخطأ اعتذر، وإذا عذر له قبل وغفر وإن يوفقنا لصالح الأعمال إنه أرحم الراحمين. 
 
الخطبة الثانية
 
عباد الله، أوصيكم وأوصي نفسي بما أوصانا به الإمام زين العابدين(ع) قبيل رحيله، الَّذي مرّ علينا في الخامس والعشرين من شهر محرم الحرام، حين قال: "أيها الناس، اتقوا الله، واعلموا أنكم إليه راجعون…". ثم خاطب كل واحدٍ منّا قائلاً: "يا ابن آدَم… إن أجلك أسرع شيء إليك، قد أقبل نحوك حثيثاً يطلبك، ويوشك أن يدركك، فكأن قد أوفيت أجلك… وصيّرت إلى قبرك وحيداً، فردّ عليك روحك… لمساءلتك وشديد امتحانك، ألا وأن أول ما يسألانك عن ربك الّذي كنت تعبده، وعن نبيك الذي أرسل إليك، وعن دينك الذي كنت تدين به، وعن كتابك الذي كنت تتلوه، وعن إمامك الذي كنت تتولاه، وعن عمرك فيما أفنيت، وعن مالك من أين اكتسبته وفيما أنفقته، فخذ حذرك، وانظر لنفسك، وأعدَّ الجواب قبل الامتحان والمسألة والاختبار، فإن تك مؤمناً عارفاً بدينك، متبعاً للصادقين، موالياً لأولياء الله، لقاك الله حجتك، وأنطق لسانك بالصواب… وبشرت بالجنة والرضوان من الله، واستقبلتك الملائكة بالروح والريحان… ذلك يوم مجموع له الناس، وذلك يوم مشهود، يجمع الله فيه الأولين والآخرين يوم ينفخ في الصور، ويبعثر فيه القبور، وذلك يوم الآزفة إذا القلوب لدى الحناجر كاظمين… اليوم الذي لا تقال فيه عثرة، ولا تؤخذ من أحد فدية، ولا تقبل من أحد معذرة… فمن كان من المؤمنين عمل في هذه الدنيا مثقال ذرة من خير وجده، ومن كان من المؤمنين عمل في هذه الدنيا مثقال ذرة من شر وجده… وأسأل الله لنا ولكم العون على تزود التقوى والزهد في الدنيا، وجعلنا الله وإياكم من الزاهدين في عاجل هذه الحياة الدنيا، الراغبين في آجل ثواب الآخرة، فإنما نحن له وبه، والسلام عليكم ورحمة الله".
 

هذه هي الوصية التي تركها لنا الإمام(ع). وحتّى نعبّر عن الحب والولاء والوفاء له، علينا أن نكون جادين في هذه الحياة الدنيا، أن لا نراها عبثاً ولهواً. وعندما يأتينا الأجل الذي لا بدّ منه، نكون جاهزين للقاء ربنا بقلبٍ سليم، وعملٍ سليم، ونيةٍ سليمة، وبذلك نقدر على مواجهة التحديات…

 

لبنان

والبداية من لبنان، حيث يستعدّ اللبنانيون لملاقاة اليوم الذي كانوا ينتظرونه منذ أكثر من سنتين ونصف السنة؛ يوم ملء الشغور في رئاسة الجمهورية والخروج من حالة الفراغ التي هدّدت مفاصل البلد، وكادت توصله إلى حافة الانهيار السياسي والاقتصادي والمعيشي، وأدّت إلى إرباك الوضع الأمني.

 

لقد كنا نأمل، ولا نزال، أن لا يكون هذا الاستحقاق سبباً لما تشهده السّاحة الداخليّة من انقسام سياسي حادّ، بل أن يكون عنواناً لتوحيد الساحة الداخلية وزيادة مناعتها، في وقت هي أحوج ما تكون إلى ذلك.

 

ولكن يبدو، وكما هو المسار الطّبيعيّ للأمور، أنَّ هذا الاستحقاق سيحصل وفق ما تقتضيه اللعبة الديمقراطية الداخلية وحسابات الأكثرية والأقلية، وبفعل الرّعاية الخارجيّة التي ترى أن أولوياتها في لبنان هي تحقيق حالة من الاستقرار، بسبب انشغال هذا العالم بملفات أكبر باتت ترسم خرائط المنطقة من خلالها، والأعداد الكبيرة من النازحين السوريين الموجودين في لبنان، الذين يريد هذا العالم لهم الاستقرار فيه، وأن لا يكونوا عبئاً عليه، وهذا ما يضمنه الاستقرار السياسيّ والأمنيّ.

 

وأمام هذا الاستحقاق الّذي سيحصل، ندعو من سيتولى المسؤوليَّة إلى العمل الحثيث لإزالة الهواجس التي أنتجها التاريخ، أو الموجودة الآن، لإعادة وصل ما انقطع، ولترتيب البيت الداخلي اللبناني، الذي لا يمكن ترتيبه إلا ببناء الثقة وتحقيق التوافق، ولو بالحدّ الأدنى، لا على أساس توسعة دائرة تقاسم الجبنة أو على أساس المحاصصة، بل وفق السبيل الأنجح للنهوض بهذا البلد وإخراجه مما يعانيه والعمل على معالجة الاستحقاقات القادمة، بدءاً بتأليف الحكومة، مروراً بقانون انتخابي عادل، وصولاً إلى الوضع الاجتماعي والاقتصادي والخدماتي، وتعزيز الأمن ومواجهة الفساد المستشري.

 

إنَّ من حقّ اللبنانيين المجهدين المتعبين على كلّ الَّذين سيتولّون أمور هذا البلد، أن يحققوا الشعارات التي أوصلهم النّاس على أساسها إلى ما وصلوا إليه. إنّ هذا البلد لن يتقدم إلا إذا خضع الجميع للجهاد الأكبر، الذي يعني أن يخرج المسؤولون من حساباتهم الخاصة وحساباتهم الطائفية وحسابات تقاسم الغنائم إلى حساب الناس والوطن.

 

ونحن نتحدَّث عن موعد قريب لتحقيق الاستحقاق الرئاسي، وفي ظلّ التشنجات والحساسيات التي تعيشها الساحة الداخلية، فإننا ندعو إلى ممارسة أقصى درجات الانضباط في الخطاب السياسيّ أو في التعبير عن مشاعر الفرح أو مشاعر الإحباط، بالشكل الذي لا يظهر وجود منتصر وآخر مهزوم، حتى لا نسمح للمصطادين بالماء العكر بأن يجدوا أرضاً خصبة لهم.. إننا نثق بأن الوعي كفيل بتمرير هذا الاستحقاق والانطلاق بعده للعمل، رغم أنه لا يبدو أنه سيكون سهلاً.

 

سوريا

وإلى سوريا، الَّتي تزداد معاناة إنسانها. وفي كلّ يوم، تحمل إلينا الأخبار مآسي جديدة، بعد أن تحول البلد إلى وقود للصراع الدولي والإقليمي المتفاقم، إما لتصفية الحسابات، أو لاستنزاف كل مواقع القوة، أو لتحقيق طموحات إمبراطورية لا تزال حاضرة لدى البعض، حيث لا يؤخذ بالحسبان كل هذه المشاهد الدامية للأطفال والنساء والشيوخ، وكل التدمير الّذي يطال الأبنية والساحات، وإن كان هناك حديث عن ذلك، فهو يدخل في إطار استثمار المشاعر الإنسانية لغايات سياسية.

 

ومن هنا، فإننا نعيد دعوة كلّ القوى المؤثّرة إلى قراءة المعطيات القائمة بدقة، والتي يمكن أن تتطوَّر إلى تكريس تقسيم بلداننا إلى مناطق نفوذ، أو إلى حرب إقليمية أو حتى دولية لن يسلم منها أحد، ما يفرض استباق مثل هذه التطورات غير المستبعدة برسم ضوابط لهذا الصراع يعيد صياغة تفاهمات سياسية تراعي الحساسيات العميقة للأطراف الإقليمية، وتدفع الشعب السوري بكل تنوعاته، إلى المزيد من تراصّ الصفوف وإنجاز المزيد من المصالحات، فهي الكفيلة بإخراج العابثين بهذا البلد.

 

العراق

وإلى العراق، الَّذي يتابع مواجهة الإرهاب موحداً، بجيشه وشعبه وحشده وعشائره، وهو يقدم التضحيات الكبيرة من دون الالتفات إلى الساعين للعبث بهذه الوحدة، من خلال إثارة النعرات المذهبية والطائفية والقومية والانقسامات الداخلية، وخلق أوهام من خلال تدخّل هذا الفريق أو ذاك، أو هذه الطائفة أو تلك.

 

إننا نثق بأن العراق الموحّد سيكون قادراً على تحقيق آماله بالاستقرار والوحدة، ليعود له دوره وحضوره.

 

البحرين 

وأخيراً، إننا نرى أن ما جرى في البحرين، من إسقاط جنسية العشرات، هو قرار غير مبرر، ويستند إلى حجج واهية، وندعو إلى إعادة النظر فيه.. ونحن لا نفهم كيف تستطيع السّلطات أن تُسقط الجنسية عن أكثر الناس انتماءً إلى بلدهم وإخلاصاً له، لمجرد أنهم في خط المعارضة لها…

 

إننا ندعو السلطات في البحرين مجدداً إلى العمل للخروج من هذا النفق الذي لن يكون لصالح هذا البلد، فخلاص البحرين يكون بالحوار المباشر والجدي، لا بالقرارات الظالمة، لأن الظلم لا ينتج إلا المزيد من الأزمات.

 

المكتب الإعلامي لسماحة العلامة السيد علي فضل الله

التاريخ :  27محرم 1438هـ الموافق :28 تشرين الأول 2016م
 

Leave A Reply