ذكرى وفاة الرّسول(ص): بلّغَ الرِّسالة ونصحَ الأمَّة

ألقى العلامة السيّد علي فضل الله، خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عددٍ من الشخصيّات العلمائيّة والسياسيّة والاجتماعيّة، وحشدٍ من المؤمنين، ومما جاء في خطبتيه:

 

 

الخطبة الأولى

 

قال الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ الله شَيْئاً وَسَيَجْزِي الله الشَّاكِرِينَ}. صدق الله العظيم.

 

ذكرى وفاته(ص)

نستعيد في الثامن والعشرين من شهر صفر، أي بعد أيّام، ذكرى وفاة رسول الله(ص).

هذه الذّكرى التي تعيدنا إلى اليوم الذي غادر فيه رسول الله(ص) هذه الحياة الدّنيا، تاركاً وراءه لوعةً وألماً وحزناً في قلوب المؤمنين، فهم بغيابه فقدوا الرّحمة المهداة من ربهم، ومن كان بالنّسبة إليهم الأب والمعلّم والمربي والناصح والهادي والبشير والنّذير والسّراج المنير…

 

{ لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مَّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ}..

 

وقد عبَّر علي(ع) عن هذا الحزن أسمى تعبير، حين وقف على قبر رسول الله(ص) يؤبِّنه، قائلاً: "بأبي أنت وأمّي، لقد انقطع بموتك ما لم ينقطع بموت غيرك من النبوَّة والأنباء وأخبار السّماء. ولولا أنّك أمرت بالصّبر ونهيت عن الجزع، لأنفدنا عليك ماء الشؤون، ولكان الدَّاء مماطلاً والكمد محالفاً وقَلَّا لك.. ولكن لا نقول إلا ما قال الله: {إِنَّا للهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ}".

 

غادر رسول الله(ص) الدنيا بعدما بلّغ رسالات ربّه، ونصح أمّته، وتحمّل لأجل ذلك الأذى، حتى قال: "ما أوذي نبيّ بمثل ما أوذيت". وقد اختصر الإمام زين العابدين معاناة جدّه رسول الله في دعائه: "اللّهمَّ فَصَلِّ عَلَى مُحَمّدٍ أَمِينِكَ عَلَى وَحْيِكَ، وَنَجِيبِكَ مِنْ خَلْقِكَ، وَصَفِيِّكَ مِنْ عِبَادِكَ، إِمَامِ الرَّحْمَةِ، وَقَائِدِ الْخَيْرِ، وَمِفْتَاحِ الْبَرَكَةِ… كَمَا نَصَبَ لِأَمْرِكَ نَفْسَهُ، وَعَرَّضَ فِيكَ لِلْمَكْرُوهِ بَدَنَهُ، وَكَاشَفَ فِي الدُّعَاءِ إِلَيْكَ حَامَّتَهُ، وَحَارَبَ فِي رِضَاكَ أُسْرَتَهُ، وَقَطَعَ فِي إِحْيَاءِ دِينِكَ رَحِمَهُ، وَأَقْصَى الْأَدْنَيْنَ عَلَى جُحُودِهِمْ، وَقَرَّبَ الْأَقْصَيْنَ عَلَى اسْتِجَابَتِهِمْ لَكَ، وَوَالَى فِيكَ الْأَبْعَدِينَ، وَعَادَى فِيكَ الْأَقْرَبِينَ، وأَدْأَبَ نَفْسَهُ فِي تَبْلِيغِ رِسَالَتِكَ، وَأَتْعَبَهَا بِالدُّعَاءِ إِلَى مِلَّتِكَ.. وَشَغَلَهَا بِالنُّصْحِ لِأَهْلِ دَعْوَتِكَ.. حَتَّى ظَهَرَ أَمْرُكَ، وَعَلَتْ كَلِمَتُكَ، وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ".

 

ونحن في هذه المناسبة الحزينة، سنتوقّف عند بعضٍ من وصاياه التي حرص على أن يلقيها رغم معاناة المرض، ما يظهر مدى أهميّتها.

 

العمل هو المعيار

 

الوصيّة الأولى توجَّه بها إلى أقرب الناس إليه؛ إلى أقاربه وأرحامه، وهذه الوصيَّة تتّسع لتشمل كلّ المؤمنين، وقد دعاهم فيها إلى أن لا يتَّكلوا على قرابتهم منه أو انتسابهم إليه للنّجاة عندما يقف الناس للحساب، يوم تأتي كلّ نفس تجادل عن نفسها، بل على ما يقدّمونه لأنفسهم من عمل، فالمقياس عند الله بالعمل، وبالعمل وحده يبلغ الإنسان ما عند الله.

وهذا ما ورد في قوله: "يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ، لاَ أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ الله شَيْئًا، يَا عَبَّاسُ بْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، لاَ أُغْنِي عَنْكَ مِنَ الله شَيْئًا، وَيَا صَفِيَّةُ عَمَّةَ رَسُولِ الله، لاَ أُغْنِي عَنْكِ مِنَ الله شَيْئًا، وَيَا فَاطِمَةُ بِنْتَ مُحَمَّدٍ، سَلِينِي مَا شِئْتِ مِنْ مَالِي، لاَ أُغْنِي عَنْكِ مِنَ الله شَيْئًا".

 

"أيّها النّاس، لا يدَّعِ مدَّع، ولا يتمنَّ متمنّ، والذي بعثني بالحقّ نبيّاً، لا ينجي إلا عمل مع رحمة، ولو عصيت لهويت".

وصيّته للأمَّة: لا تتفرّقو

 

والوصيّة الثّانية، توجّه بها إلى أمَّته التي كان يخشى عليها أشدّ الخشية من أن يتفرَّق شملها، وتتشظّى وتعبث بها الأهواء والمصالح والفتن، ولذلك، وقف ليحدِّد للمسلمين نظرتهم إلى بعضهم البعض، وكيف يتعاملون عند الاختلاف:

"أيّها النّاس، اسمعوا قولي واعقلوه عنّي، فإنّي لا أدري، لعلّي لا ألقاكم بعد عامي هذا… أيّها النّاس؛ إنّ دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام إلى أن تلقوا ربَّكم… ألا هل بلَّغت؟ اللّهمّ اشهد… أيّها النّاس، إنما المؤمنون إخوة، ولا يحلّ لامرئ مال أخيه إلا عن طيب نفسٍ منه.. ألا هل بلغت؟ اللّهم اشهد.. ألا لا ترجعنّ بعدي كفّاراً يضرب بعضكم رقاب بعض…".

ومع الأسف، كان خوفه في محلّه، وها هم المسلمون اليوم يمارسون ما حذَّر منه رسول الله(ص). فأيّ اختلافٍ يحصل بينهم، صغيراً كان أو كبيراً، كفيلٌ بأن يُسقط كلَّ المحرَّمات وتضيع معه كلّ القيم… فالخلافات، مذهبيّة كانت أو طائفيّة أو حزبيّة أو مناطقيّة أو عائليّة أو أيّ خلاف، بدلاً من أن تعالج بمدّ جسور التواصل وبالحوار، سرعان ما تتحوَّل إلى أحقادٍ وضغائن يهون معها السّبّ واللَّعن، وأكثر من ذلك، يستسهل الجرح والقتل وهتك الأعراض وإسقاط الكرامات.

 

العترة وكتاب الله

 

أما وصيّته الثالثة، فكانت بعدما بلغه أنّ الناس، نساءً ورجالاً، تبكيه لدنوّ أجله، حينها جاء إلى المسجد متوكّئاً على عليّ(ع) وعمّه العباس، ووقف قائلاً: "أمّا بعد، أيّها الناس، فماذا تستنكرون من موت نبيّكم؟! ألم ينع إليكم نفسه وينع إليكم أنفسكم؟! أم هل خُلِّد أحد ممّن بعث قبلي فيمن بعثوا فأخلد فيكم.. ألا إنّي لاحق بربي، وقد تركت فيكم ما إن تمسّكتم به لن تضلّوا؛ كتاب الله بين أظهركم تقرأونه صباحاً ومساءً، فيه ما تأتون وما تدَّعون، فلا تنافسوا ولا تحاسدوا ولا تباغضوا، وكونوا إخواناً كما أمركم الله، ألا ثمّ أُوصيكم بعترتي أهل بيتي، أن لا تفترقوا عنهم أبداً حتى تقوم السّاعة".

 

المسؤولون وتقبّل النقد

أمّا وصيّته الرابعة، فهي التي توجَّه بها إلى كلّ من هم في مواقع المسؤوليّة، فدعاهم إلى أن يكونوا شفّافين مع الناس، وأن يقدِّموا حسابهم لهم، وأن يتقبَّلوا نقدهم وحسابهم، بل أن يبادروا هم إلى سماع نقدهم وما عندهم تجاههم، ففي منطق رسول الله (ص)، ليس هناك أحد بمأمنٍ من النّقد أو فوق القانون، أو حاكم يفعل ما يريد. لقد أراد رسول الله(ص) أن يقدِّم من نفسه نموذجاً يقتدى، رغم أنه لم يعيَّن من قبلهم، فقال: "إنَّكم لا تمسكون عليَّ بشيء، إني لم أحلّ إلا ما أحلّ القرآن، ولم أحرِّم إلا ما حرَّم القرآن".

 

لذلك، فهو قال لهم انقدوني، هل سمعتم مني ما يخالف ما دعا إليه الله، أو ما لا ينسجم مع ما ورد في كتابه؟ وهذا هو ما ورد بعد ذلك من وصيّه وتلميذه أمير المؤمنين(ع)، حين قال: "لا تخالطوني بالمصانعة، ولا تظنّوا بي استثقالاً في حقّ قيل لي، ولا التماس إعظام لنفسي، فإنّه من استثقل الحقّ أن يقال له، أو العدل أن يعرض عليه، كان العمل بهما أثقل عليه، فلا تكفّوا عن مقالة بحقّ، أو مشورة بعدل، فإني لست في نفسي بفوق أن أخطئ".

 

صاحب الخلق العظيم

 

أمّا الوصيّة الأخيرة، فأراد، وهو المعصوم ذو الخلق العظيم، أن يعلّم أصحابه أن لا يهدأ لهم بال وللنّاس عليهم حقوق، فخاطبهم: "معاشر النّاس، قد دنا منّي خفوقٌ من بين أظهركم… فأيّما رجل كنت أصبت من عرضه شيئاً، فهذا عرضي فليقتصّ، وأيّما رجل كنت أصبت من بشره شيئاً، فهذا بَشَري فليقتصّ، وأيّما رجل كنت أصبت من ماله شيئاً، فهذا مالي فليأخذ منه… ألا وإنَّ فضوح الدّنيا أيسر من فضوح الآخرة… ولا يقولنّ أحد منكم إنّي أخاف العداوة والشَّحناء من رسول الله، ألا إنَّ العداوة والشّحناء ليستا من طبيعتي ولا من خلقي"…

 

هنا تذكر السيرة، أنّ رجلاً من الصحابة قام إليه وقال: "كنتَ مارّاً يا رسول الله ذات يوم في بعض أزقّة المدينة، وكنت تركب ناقتك، فامتنَعَت عليكَ، فأومأت لها بالسّوط وأصاب جسدي"، فقال له رسول الله: "لم أكن متعمِّداً"، فقال الرّجل: "هذا قصاص"، فقال رسول الله (ص): "أتريد أن تقتصّ؟"، فقال: "نعم، كما ضربتني أريد أن أضربك". فكشف له رسول الله عن جسده الشَّريف، والنّاس تحدِّق بهذا الرّجل الّذي تجرّأ على النبيّ. ولكنَّ الرَّجل كان يُخفي شيئاً آخر، فقد أهوى بجسده على رسول الله وأخذ يقبِّله، وهو يقول: "أعوذ بموضع القصاص من جسد رسول الله من النّار"، فقال له النَّبيّ(ص): "أتقتصّ أم تعفو؟"، فقال: "بل أعفو"، عندها قال النَّبيّ(ص): "اللّهمَّ اعف عنه كما عفا عنّي". أيّ خلقٍ هو هذا الخلق، وأيّ صورةٍ مشرقةٍ هي هذه الصّورة؟! {وإنّك لعلى خلقٍ عظيم}.

 

هذا هو رسول الله(ص)، قدوتنا وأسوتنا، وبه نقيس أنفسنا، كما قال الله عزّ وجلّ: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ الله أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو الله وَالْيَوْمَ الْآَخِرَ}.

لقد علَّمنا رسول الله من خلال سيرته، بأن نقدم على الله ونحن على ثقةٍ بأن لا أحد من النَّاس له حقّ علينا، وإذا كان في ذمَّتنا شيء من ذلك، أن نسارع إلى التَّوبة، وإعادة الحقوق والمظالم إلى أصحابها، ومن دون استخفافٍ أو استصغار، حتى لا نقف موقف ذلّ وهوان في يوم يتعلَّق المظلومون بظالميهم، حيث القصاص هناك شديد.

 

تجديد عهد الولاء

في ذكرى وفاة رسول الله(ص)، لنتوجّه بكلّ قلوبنا وعقولنا إلى مرقده الشّريف، لنجدّد له عهد الولاء للدّين الذي جاء به، والالتزام بكلّ تعاليمه، والاستعداد لبذل الغالي والنفيس لأجله، ولنشهد لأنفسنا بما نشهد له (ص) به عندما نقول:

"أشهد يا رسول الله أنَّك أقمت الصَّلاة، وآتيت الزَّكاة، وأمرت بالمعروف، ونهيت عن المنكر، وعبدت الله مخلصاً حتّى أتاك اليقين. اللّهمّ فارفعه بما كدح فيك إلى الدّرجة العليا من جنّتك، حتى لا يساوَى في منزلة، ولا يكافَأ في مرتبة، ولا يوازيه لديك ملك مقرَّب، ولا نبيّ مرسل، وعرّفه في أهله الطاهرين، وأمّته المؤمنين، من حسن الشفاعة، أجلّ ما وعدته يا ربّ العالمين".

 

الخطبة الثانية

عباد الله، أوصيكم وأوصي نفسي بوصيّة الإمام الرضا(ع)، الذي نستعيد ذكرى وفاته في نهاية شهر صفر، عندما راح يتحدّث إلى محبّيه وصحبه، فعدّد لهم عشر خصال للمؤمن، فقال: "الخيرُ منه مأمول، والشَّرُّ منهُ مأمونٌ، يستكثِرُ قليلَ الخير من غيره، ويستقلُّ كثير الخير من نفسه، لا يسأمُ من طلب الحوائج إليه، ولا يملُّ من طلبِ العلم طولَ دهرِه، الفقرُ في الله أحبّ إليه من الغنى، والذُّلُّ في الله أحبُّ إليه من العِزُّ في عدوّه، والخمولُ أشهى إليه من الشُّهرةِ". ثمَّ قال(ع): "العاشِرةُ! وما العاشِرَةُ؟!"، فقيل له: ما هي؟ قال: "لا يرى أحداً إلّا قال: هو خيرٌ منّي وأتقى. إنّما الناسُ رجُلانِ: رجلٌ خيرٌ منه وأتقى، ورجلٌ شرُّ منهُ وأدنى، فإذا لِقيَ الذي شرٌّ منه وأدنى قال: لعلَّ خيرَ هذا باطنٌ وهو خيرٌ له، وخيري ظاهر وهو شرٌّ لي، وإذا رأى الذي هو خيرٌ منه وأتقى، تواضع له ليلحَقَ به".

 

لقد أراد الإمام الرّضا(ع) بهذه الصّفات، أن يبيّن حقيقة الارتباط بخطِّ أهل البيت(ع)، فالارتباط بهم ليس عاطفة حبّ، بل هو تميّزٌ بالسلوك والمواقف والنظرة الإيجابية إلى الآخرين، وهذا ما يجعل المنتمين إلى نهجهم؛ نهج رسول الله، أكثر وعياً ومسؤوليّةً وقدرةً على مواجهة التحدّيات.

 

عقد تشكيل الحكومة

والبداية من لبنان، الّذي عاد قطار تأليف الحكومة، بعد تفكيك العقد السّابقة، إلى التوقّف من جديد، مع بروز عقدة لا يمكن القول إنَّها جديدة، وهي كانت موجودة سابقاً، ولم تؤخذ بالحسبان، اعتقاداً ممن يتولّون عملية التأليف أنَّ بالإمكان تجاوزها، ولكن هذا ما لم يحدث، ليتبيّن أنها عقدة مستعصية إلى الآن.

 

إنَّنا أمام هذا الواقع، وبعيداً من الخلفيات التي أدّت إلى هذا الطرح، أو مدى أحقيّة القوى السّياسيّة صاحبة الشّأن، ندعو إلى الإسراع في البحث عن حلٍّ لهذه المعضلة، بعدما أصبحت أمراً واقعاً، بما يضمن إبقاء التوافق المطلوب في هذا البلد، وفي هذه المرحلة البالغة التّعقيد، بعدما أصبح واضحاً مدى الحساسيّة التي أنتجتها هذه العقدة، فهي تحوَّلت من كونها عقدةً لها طابع سياسيّ، وفي إطار الصّراع على الحقائب، ومن يكون له الحصَّة الأوفر، إلى عقدة بدأت تأخذ الطابع الطائفي والمذهبي.

 

هذا الحلّ، بالطَّبع، لا يُعالَج بأن يقف كلّ في مكانه، لا يريد أن يقترب من الآخر، أو بإدارة الظهر، بل بالتوافق، ونحن على ثقة بأنّ الإدارة الحكيمة التي أدَّت إلى حلحلة العقد الماضية، قادرة على حلّ هذه العقدة التي لن تكون مستعصية، إن وجدت رغبة جدّية بحلها، ولا أعتقد عدم وجود هذه الرغبة.

 

التّطبيع المعيب!

وفي موقع آخر، فإنَّنا شهدنا خلال الأسبوع الماضي انفتاحاً عربيّاً غير مشروع وغير مسبوق على الكيان الصّهيونيّ، وهو جاء بعناوين مختلفة، منها ما كان تحت عنوان رياضيّ ثقافيّ، وآخر اقتصاديّ، وآخر رغبة في التحضير لحلولٍ قادمة.

ومن اللافت أنَّ هذه الدّول التي تختلف فيما بينها، تتوافق هذه المرَّة على هذه الخطوة، التي إن استمرَّت، فستؤدّي إلى إدخال الكيان الصّهيونيّ في النّسيج العربيّ والتّطبيع معه واقعياً.

 

ومن المعيب أن يأتي كلّ هذا في الوقت الذي لم يتقدم هذا الكيان أية خطوة، لا نقول لإعادة الأرض المسلوبة إلى أهلها، بل حتى لتحقيق المطالب التي طرحت في الجامعة العربية، فهو لم يقم بالانسحاب من الأراضي العربية المحتلّة العام 1967، بل ملأها بالاستيطان، واستمرّ بالعمل لتهويد المسجد الأقصى والقدس، وممارسة سياسة القتل والتشريد والحصار للشعب الفلسطيني، ومنع مقوّمات العيش الكريم عنه.

 

لقد كنا نريد لهذه الدّول، وبدلاً من أن تدخل في مصالحة مع عدوّ لن يتصالح معها، أن تتصالح مع نفسها ومع بعضها البعض، وتنهي الخلافات التي تجعلها في موقع ابتزاز الدول الكبرى، ورهينة الإملاءات الصهيونية.

 

هل يشهد اليمن حلّاً؟

وفي هذا المجال، كنَّا نأمل أن تنطلق مبادرة إيقاف إطلاق النار في اليمن من جامعة الدول العربية، أو منظمة التعاون الإسلامي، أو من دول التحالف التي أعلنت الحرب على اليمن، وأن يكونوا الأكثر حرصاً على إيقاف نزيف الدّم المستمرّ، وكلّ تبعات الحرب على المستوى الإنساني، ووقف تدمير البنية التحتية في اليمن، والعمل للبدء بحوار بين كلّ الأطراف المتصارعة، لكنّها، مع الأسف، أتت من وزارة الخارجية الأميركية، التي من الطبيعي أنها، عندما تسعى لحلّ، فإنها تريده على قياس مصالحها ولحسابها، وعلى حساب وحدة اليمن واستقراره.

 

ذكرى الوعد المشؤوم

وأخيراً، سنتوقَّف اليوم في الثاني من تشرين الثاني أمام المناسبة المشؤومة، والتي لانزال نعاني تبعاتها، بل إنّ كلّ ما نعانيه هو من تبعاتها، وهي وعد بلفور.

إننا نرى في هذا الوعد وصمة عار على جبين كلّ من فتح باب الشرعيّة لهذا الكيان، من دون أيّ مبرّر قانوني أو شرعي أو إنساني، وهؤلاء يتحملون كلّ ما جرى على الشعب الفلسطيني وعلى شعوب المنطقة.

 

إننا في هذا الشّأن، نحذّر من وعد جديد لهذا الكيان، ليس أقلّ خطراً منه، بل تتويجاً له، يأتي من خلال صفقة القرن التي يعمل ويُهيَّأ لها، والتي ستكون هذه المرة على حساب ما تبقَّى من الشعب الفلسطيني، وإنهاءً للقضية الفلسطينية.

 

لقد كشف وعد بلفور عن هشاشة كانت تعيشها الأمّة العربية والإسلامية، وعدم مبالاة لدى بعض حكّامها، وتآمر لدى البعض الآخر، وذلك في ظلّ احتلال عسكري غربي شامل لفلسطين، أتاح الفرصة للوعد بأن يتحقّق وأن يستمرّ طول هذه الفترة الطويلة من الزّمن، ليبدو حقيقة واقعية لا بدَّ من التعامل معها، إلى درجة التطبيع، كما هو جارٍ الآن.

 

ونحن اليوم نخشى أن تتكرّر هذه الهشاشة التي عاشها العالم العربي والإسلامي في تلك الظروف بفعل الفتن والصّراعات، لكنّ رهاننا سيبقى على وعي الشعب الفلسطيني، وعلى وحدته، وهو الذي يقف في هذا اليوم، كما في كلّ الجمعات السابقة، ليقدّم أنموذجاً في التحدي لغطرسة هذا الكيان، بلحمه العاري، وإرادته الصلبة، كما نراهن على وعي الشعوب العربية والإسلامية، لإيقاف مسلسل التّنازلات لحساب هذا العدوّ، ولإعادة الأرض المسلوبة إلى أصحابها.

 

Leave A Reply