رسالة الفرح والعطاء

ألقى سماحة العلامة السيّد علي فضل الله، خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عددٍ من الشخصيّات العلمائيّة والسياسيّة والاجتماعيّة، وحشدٍ من المؤمنين، ومما جاء في خطبتيه:

الخطبة الأولى

 

{يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاء لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ، قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ} يونس

ورد في حديث عن الإمام الصادق(ع) أنه قال: "أوحى الله تعالى إلى داود(ع)، إن العبد ليأتيني بالحسنة يوم القيامة فأحكمه بها في الجنة (أي يجعل الجنة تحت تصرفه ويتحرك فيها كيف يشاء) فقال داود(ع) : وما تلك الحسنة يا رب.. قال: يدخل على عبدي المؤمن سرور ولو بتمرة (أن تقدم له ولو تمرة) فقال داود(ع): حق لمن عرفك ألا يقطع رجاءه منك".

 

أيها الأحبة:

لقد أراد الله سبحانه لعباده المؤمنين أن يزرعوا السرور حيث يتواجدون… أن يزرعوه على الوجوه.. وأن يستودعوه القلوب.. أن لا يمروا مرور الكرام على من حولهم ممن يعيشون معهم او يلتقون بهم وخاصة أولئك الناس الذين ترهقهم الحياة بتعبها ومشقاتها ومشكلاتها واختباراتها وآلامها ..

أن يكونوا هم اليد الحانية التي تمتد إلى هؤلاء لتخفف عنهم وتساعدهم وتقوي من عزيمتهم وتشد من أزرهم وتفرج عن كربهم، وتبعث فيهم الإحساس بالأمل بالطمأنينة..

بهذه الروح الكبيرة نبلغ ثواب الله ورضوانه، لأن الإنسان لا يمكن أن يصل إلى الله إلا بقلب حانِ ويد عطاء.. وفي ذلك ورد الحديث: "إن من أحب الأعمال إلى الله إدخال السرور على قلب المؤمن، وأن يفرِّج عنه غماً، أو يقضي عنه ديناً، أو يطعمه من جوع". وهذا هو السبيل لتوقي أهوال يوم القيامة فقد ورد عن الإمام الصادق(ع): إذا بعث الله المؤمن من قبره خرج معه مثال يقدم أمامه، كلما رأى المؤمن هولاً من أحوال يوم القيامة قال له المثال: لا تفزع ولا تحزن…، فيقول له المؤمن من أنت؟ فيقول: أنا السرور الذي كنت أدخلته على أخيك المؤمن".. (وهذا ينطبق على أولادك.. زوجتك.. الأيتام.. الفقراء.. المحتاجين.. أصحاب الديون.. عندما عالجت تلك المشكلة، وسويت تلك القضية، وفرجت عن ذلك المكروب وحليت هذا الخلاف…)

 

وهذه الصورة هي التي عبر عنها رسول الله(ص) عندما جاء إليه رجل قائلاً له: دلني على عمل إذا عملته دخلت الجنة.. تصوروا ماذا قال له رسول الله(ص)، هل قال له أكثِر من الصلاة، أكثِر من الصيام ومن الحج والزيارات.. لم يقل كل ذلك، بل قال له: "أنل مما أنالك الله.." ساعد الناس الذين يحتاجون إليك، أدخل السرور عليهم.. وعندما قال له أنا ليس عندي ما أساعد به الناس قال له: "اصنع للأخرق.. (أعط خبرتك لمن يحتاج إليها.). وعندما قال له :أنا لا أملك إلا ما هو موجود عند الناس. قال له: امسك لسانك إلا عن خير.. (لا تقل إلا كلاماً طيباً، يبعث الدفء في القلوب ويسكنها، لا تنكِّد، ولا تستفز، ولا تجرح، ولا تقهر، بل كن كالبلسم الذي اين ما يمر يترك اثرا شافياً مداوياً.

 

ولأهمية هذا السلوك نرى أن رسول الله ربطه به: "مَن سرّ مؤمناً فقد سرَّني، ومَن سرَّني فقد سرَّ رسول الله، ومَن سرَّ رسول الله فقد سرَّ الله، ومَن سرَّ الله أدخله جنّته"….. ،

وعن الإمام الكاظم(ع): "من سرّ مؤمناً فبالله بدأ، وبالنبي(ص) ثنَّى، وبنا (أهل البيت) ثلَّث".

وإدخال السرور على قلب المؤمن له صور عديدة من قبيل: زيارته ــ إهداؤه ــ مساعدته فيما يحتاج ــ وتهنئته وغير ذلك من الاعمال التواصلية الحسنة.

واللافت انه عندما يبادر الفرد الى ذلك من دون طلب و بعيدا عن الخدمة او الواجب فهذا من شأنه ليس فقط أن يفرح قلب المهموم و يثلج صدره بل وأيضا يفرح قلب المبادر الى أخيه ويشعره بفرح مزدوج  : فرح انساني عميق وفرح بالطاعة وارضاء المولى عزوجل..

إنها سعادة ليس بعدها سعادة يشعر بها الإنسان عندما يسعد آخرين أو يشارك في إسعادهم أو يخفف من آلامهم.. هي سعادة لا يحس بها إلا الذين يعيشونها بكل صفائها ونقائها ممن لا يريدون بها إلا وجه ربهم، ممن يملكون قلوباً طرية، شفافة، مضيئة تضيء على من حولها أمناً وأماناً وسلاماً..

 فلنحرص على أن نكون نحن ممن أودع الله لديهم هذه القلوب، هي قلوب تتمثل قلوب الأنبياء والصديقين والشهداء.. الذين أفنوا حياتهم وأتعبوها من أجل أن يسير الناس على الهدى ويبتعدوا عن الضلال، من أجل أن يبعث الأمل في قلوبهم والخير في حياتهم..

 

أيها الأحبة،

 في أيام العيد إن أجمل رسالة نبعثها، هي رسالة فرح جعلها الله عنواناً للعيد، عندما نبدأ يوم العيد ببث ألوان السرور والبهجة في كل المحيط الذي نعيش فيه، لا سيما أولئك الفقراء والمحتاجين, بما يعيد البسمة والأمل إليهم، وبما يمد أولادنا وعائلاتنا بشعور السعادة النابع من هذا العطاء، ومن ثم بالعمل على إشاعة كل أجواء السرور والفرح لتخيم على علاقاتنا مع أرحامنا وكل من نلتقيهم وحتى أولئك الذين هم رهائن لحودهم..

عن أبي عبد الله (ع) قال: "أيما مؤمن نفّس عن مؤمن كربة نفّس الله عنه سبعين كربة من كرب الدنيا وكرب يوم القيامة، ومن يسّر على مؤمن وهو معسر، يسّر الله له حوائج الدنيا والآخرة، وإن الله لفي عون المؤمن ما كان المؤمن في عون أخيه المؤمن، فانتفعوا في العظة وارغبوا في الخير".

والحمد لله رب العالمين

 

الخطبة الثانية

 

عباد الله، اتَّقوا الله؛ هذه التّقوى الَّتي كانت غاية الصّيام والقيام خلال شهر رمضان، والتي ينبغي أن نحملها لتكون حاضرة عندما نفكّر، أو عندما نحبّ ونبغض، أو عندما نتخذ موقفاً، أو عندما نؤيد ونعارض. بالتقوى، انتصرنا على أهوائنا وشهواتنا وغرائزنا وأنانياتنا خلال شهر رمضان.. وبالتّقوى، نواجه التّحديات الكبرى، ونصنع الانتصارات في كلّ مواقفنا.

 

الإتفاق النووي

في البداية، لا بدَّ من التوقّف عند الإنجاز الكبير الذي حققته الجمهورية الإسلامية في إيران، بتوقيع الاتفاق النّوويّ الّذي مثّل اعترافاً دولياً ببرنامج إيران النووي السلمي، بحيث مكَّنها من أن تصبح جزءاً من النادي الدولي النّوويّ. وهذا ما كان ليحصل لولا حكمة القيادة الإيرانية، وحسن إدارتها في معالجة هذا الملف، وصبر الشعب الإيرانيّ، الّذي تحمل نتائج العقوبات الظالمة الّتي فرضت عليه، والتي مسَّت مصالحه الحيويّة ولقمة عيشه.

 

ونحن في الوقت الَّذي نهنئ الجمهورية الإسلامية قيادةً وشعباً على هذا الإنجاز، فإنّنا نشير إلى أهمية الدرس الذي قدمته إيران إلى كلّ دول المنطقة، بقدرتها على نيل حقوقها بنفسها إن هي قرّرت وتصالحت مع شعبها، ولم ترتهن لهذه الدّولة الكبرى أو تلك، والتي قد تبيعها في سوق مصالحها في أية فترة تراها مناسبة لذلك.

ورغم كلّ أجواء الثقة بتحقيق النتائج المرجوة من هذا الاتفاق، وبأنه سيتابع طريقه إلى التنفيذ، لكونه حاجة لإيران، كما هو حاجة للدول الكبرى، لتجنب الحروب وتحقيق الاستقرار، ولا سيَّما في هذه المنطقة، ولمواجهة الإرهاب المستشري.. لا بدَّ من عدم الاستهانة بالعراقيل التي سيسعى الكيان الصهيوني إلى زرعها، وهو الذي يرى نفسه المتضرر الأول من هذا الاتفاق.. وقد عبَّر بكل وضوح عن ذلك، واعتبره خطأً تاريخياً، لأنّه يعرف مدى جدية إيران في مواجهة كيانه… وتقف إلى جانب الكيان الصّهيونيّ أيضاً دول عديدة تعتبر أن أية قوة تملكها إيران هي استفزاز لها وتهديد لمصالحها.

 

ومن هنا، تبدو الحاجة إلى التنبه والحذر، وعدم الاستغراق في التفاؤل، حتى لا نعمى عما يجري من حولنا..

وفي هذا المجال، فإنَّنا نرى أنه بالإمكان الاستفادة من هذا الاتفاق لتحقيق انفراجات في الملفات الإقليمية والداخلية الساخنة. ومن هذا المنطلق، فنحن ندعو إلى فتح صفحة جديدة في العلاقات بين إيران والدول العربية والإسلامية، والخروج من سياسة التوتر والتوجس التي باتت تحكم هذه العلاقات، والاستفادة من اليد الممدودة التي أعلنت إيران بسطها في السابق، وتمدّها مجدداً إلى المملكة العربية السعودية ودول الخليج وكل العالم العربي والإسلامي، لا من موقع المنتصر، بل من موقع الحريص على أحسن العلاقات المبنية على الاحترام المتبادل.

 

إنَّ المشهد الراهن يستدعي من الدّول العربيّة والإسلاميَّة أن تعيد النظر في سياسة العداء تجاه إيران، تماماً كما فعلت الدّول الكبرى الّتي انتقلت من هذه السياسة غير المجدية، والتي تلحق إضراراً بالجميع، إلى التفاهم المباشر، على قاعدة حفظ الحقوق والمصالح.. فالتواصل الخليجي مع إيران هو السّبيل الوحيد لتبديد الهواجس، وحفظ المنطقة، وضمان أمن الخليج ومصالحه، لا استمرار الصراع بالاعتماد على هذه الدولة الكبرى أو تلك، والتي لا يهمها سوى استمرار العداء الّذي يحقق مصالحها، ويستنزف أموال العرب في دوامة لا تنتهي من صفقات السّلاح الباهظة الثمن.

 

العراق

ونصل إلى العراق، حيث يتابع الجيش العراقي ومعه كل أطياف الشعب ومذاهبه وقومياته، عمله من أجل استرجاع الأراضي التي احتلتها داعش وإعادتها إلى حضن العراق.

إنّنا في الوقت الّذي نحيي تلاحم الشّعب العراقيّ، ندعو إلى المزيد من العمل لتعميقه وتركيزه على أسس وطنية وسياسية متوازنة، وتقويته، وإزالة أي شوائب تعترضه، لكونه السبيل لإخراج العراق من معاناته وأزماته.

 

اليمن

وفي اليمن، الَّذي كنا نتمنّى أن تصمد الهدنة التي تم الإعلان عنها لكي تحقن دماء اليمنيين وتمنع تداعيات هذه الحرب عليهم، وما تركته من آثارٍ إنسانيّةٍ على مختلف المستويات، فنعيد الدعوة لكلّ من لا يزال يمنّي نفسه بالحسم العسكري، بالخروج من هذا الرهان، والعودة إلى لغة الحوار، من أجل التوصل إلى الحلول المنشودة التي تضمن مصالح الشعب اليمنيّ التواق إلى من يبعث لديه الأمل والحياة، لا إلى طائرات القتل والموت.

 

لبنان

وإلى الدّاخل اللبنانيّ، حيث يستمرّ التّجاذب داخل مجلس الوزراء، مما يخشى أن يؤدّي إلى فرط عقده.. إنَّنا نأمل أن تساهم أجواء العيد في تهيئة مناخات لحلول تنهي الأزمة الحاصلة، وتعيد تحريك عجلة المؤسَّسات، مما يساهم في تعزيز المناعة الدّاخليّة، ولا سيّما بعد الأجواء الإيجابيَّة الَّتي حملتها المواقف الّتي أطلقت أثناء حفلات الإفطار الأخيرة.

لقد آن الأوان للمسؤولين أن يعكسوا فرح العيد فرحاً في المواقف، لتضمّد جراح اللبنانيّين، وتبعث الأمل في النفوس، وتساهم في حلِّ مشاكلهم المستعصية، وهي كثيرة، ليكون العيد فرحاً للوطن كلّه.

 

وفي هذه الأيام، نستعيد ذكرى العدوان الصّهيونيّ، حيث أكّد اللبنانيون من خلال مقاومتهم وجيشهم وصبرهم وثباتهم ووحدتهم أنهم أقوى من جبروت هذا العدو الّذي أراد أن يهزم إرادتهم.

إنَّ ما نريده لهذه الذكرى أن تكون دافعاً للبنانيين للحفاظ على هذه القوّة التي أمَّنها هذا التلاحم، وعدم العبث بها، وأن يبقوا واعين يقظين في مواجهة غدر غادر، لا ينام على ضيم الهزيمة التي تعرض لها.

 

المكتب الإعلامي لسماحة العلامة السيد علي فضل الله

التاريخ :1 شوال 1436هـ  الموافق : 17 تموز 2015م

 

Leave A Reply