سنّة الابتلاء: تمحيصٌ للإيمان وسبيلٌ إلى الجنَّة

ألقى العلامة السيّد علي فضل الله، خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عددٍ من الشخصيّات العلمائيّة والسياسيّة والاجتماعيّة، وحشدٍ من المؤمنين، ومما جاء في خطبتيه:

 

الخطبة الأولى

قال الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ}. صدق الله العظيم.

 

سنَّة الابتلاء

تشير الآية الكريمة التي تلوناها إلى حقيقة ينبغي أن لا تغيب عن بال المؤمنين والمؤمنات، وهي أنّ الجنّة التي وعد بها المتّقون، لن يكون الطريق إليها دائماً معبَّداً ومفروشاً بالورود والرياحين، بل هو طريق فيه أشواك وعوائق، ويحتاج بلوغه إلى صبر وتحمّل ومعاناة.

وقد ورد في الحديث: "ومن سأل الله الجنّة ولم يصبر على الشّدائد، فقد استهزأ بنفسه".

وقد قال عليّ (ع) للّذين كانوا يعتقدون أنّه ببذل الحدّ الأدنى من الجهد الطقوسيّ، يستطيعون نيل الجنّة وبلوغها: "أبهذا تريدون أن تجاوروا الله في دار قدسه، وتكونوا أعزّ أوليائه عنده؟! هيهات! لا يخدع الله عن جنّته، ولا تنال مرضاته إلا بطاعته".

وحقيقة أخرى أشارت إليها هذه الآية تتعلَّق بالدّنيا، وهي أنَّ النصر الذي وعد الله به المؤمنين، لن يتحقّق بالأماني ولا بالاسترخاء، بل إنّه يأتي بعد أن يواجهوا الآلام والمعاناة والحروب والحصار، وقد تصل إلى حدّ أنهم يستغيثون بالله لشدّة ما يواجهون، سائلين إيّاه أن يخفّف عنهم ويحقّق لهم النّصر الذي وعدوا به، وهو ما أشار إليه الله بقوله: {… مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ}.

إذاً، الابتلاء سنَّة من سنن الله في عباده المؤمنين، هو جرى في التّاريخ وفي الحاضر، وسيجري في المستقبل إلى أن يقضي الله أمراً كان مفعولاً، ليتبيّن مدى ثباتهم وصدقهم، وهو ما أشار إليه الله سبحانه عندما قال: {الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ}[العنكبوت/ 1-2-3].

والفتنة هنا يقصد بها البلاء الشّديد الذي يهزّ أعماق الإنسان ويزلزل كيانه، وهذا يعرف من أصل هذه الكلمة، فالفتنة تعني في أساسها صهر الذَّهب بالنار لينقى بما علق به. فالفتنة عندما تحصل للإنسان، تصهره لتخرج جودته وأصالته، وتزيل كلّ الشَّوائب التي علقت في نفسه.. وفي ذلك قوله عزَّ وجلَّ: }وَلِيَبْتَلِيَ اللهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ{[آل عمران/ 154].

حتميّة البلاء

وفي آيةٍ أخرى، يتحدَّث الله سبحانه عن مظهر من مظاهر هذا البلاء الّذي يتعرَّض له المؤمنون، وهو الّذي يحصل عندما يُعتدَى عليهم، أو عندما يقتضي الواجب قتال الأعداء. فالحرب بمجرياتها وتضحياتها تميِّز بين النّاس؛ من هم المجاهدون والصّابرون منهم، ومن هم المتخاذلون والجبناء {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ}[محمد/ 31].

وقد أشار الحديث الوارد عن الإمام عليّ (ع) إلى حتميّة البلاء وآثاره، عندما قال: "لَتُبَلْبَلُنَّ بَلْبَلَةً، وَلَتُغَرْبَلُنَّ غَرْبَلَةً، وَلَتُسَاطُنَّ سَوْطَ اَلْقِدْرِ، حَتَّى يَعُودَ أَسْفَلُكُمْ أَعْلاَكُمْ، وَأَعْلاَكُمْ أَسْفَلَكُمْ، وَلَيَسْبِقَنَّ سَابِقُونَ كَانُوا قَصَّرُوا، وَلَيُقَصِّرَنَّ سَبَّاقُونَ كَانُوا سَبَقُوا".

ومن هنا، فإنّا لا نفهم البلاء على أنه نقمة أو عذاب، بقدر ما نراه سنّة من سنن الله في خلقه، يظهر حقيقة ما في نفوسهم ومدى صلابة الإيمان لديهم. نعم، قد يكون عذاباً ونقمة عندما يكون نتيجة لاختيارات الإنسان السيّئة، حيث يقول الله عزّ وجلّ: }ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}[الرّوم/ 41].

أهميّة الإعداد للمواجهة

ولذلك، على الإنسان كفرد، وعلى المجتمع ككلّ، أن يعدّ نفسه للنجاح عندما تواجهه بلاءات الحياة وضغوطاتها، فلا يخضع لضغوط النّفس إلى حدّ الاستسلام لها؛ ضغوط الشّهوات والمصالح والأطماع والعصبيات، والتي يختبئ الشيطان خلفها، ولا يخضع لضغوط الخارج على حساب مبادئه وقيمه وإنسانيّته؛ ضغوط الأقارب والأصدقاء أو المجتمع أو وسائل الإعلام والتّواصل، أو الضغوط السياسية والاقتصادية والأمنية والنفسيّة، كما نشهده في واقعنا الراهن.

فالواعون هم الّذين يحوّلون ابتلاءات الحياة وضغوطها إلى فرصة لهم يحقِّقون فيها الموقع عند الله، وهو الّذي يقول: }وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا للهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ}[البقرة/ 155- 157].

وعد الله للصّابرين

وقد وعد الله المؤمنين الصّابرين الثابتين، الذين لا يهتزّ إيمانهم بفعل الضّغوط، ويصبرون على ذلك، بأن يتصدَّروا الناس ويكونوا أئمّة لهم وقادة {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآَيَاتِنَا يُوقِنُونَ}[السجدة/ 24]، وقد ورد في الحديث: "بالصّبر تدرك معالي الأمور"، وأنّ "النصر مع الصبر".

ومن هنا، حرص القرآن الكريم على أن يؤرّخ لقصص الرسل والأنبياء، وكيف أحاطهم الله برعايته عندما خاضوا الصّراع وواجهوا أصعب التحدّيات، فهو – تعالى – لم يخذلهم، ولم يخذل المؤمنين معهم بما صبروا وجاهدوا في سبيله. والمعادلة، أيّها الأحبّة، واضحة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ}.

فقد تحدّث القرآن الكريم عن نصره لنبيّه نوح (ع) بعد معاناته الطويلة مع قومه التي استمرّت تسعمائة وخمسين سنة، فقال: {وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ * وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ* وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمْ الْبَاقِينَ}[الصافّات/ 75-76-7].

وقد أشار إلى نصر الله لنبيّه إبراهيم (ع) بعد أن تحدّى قومه وحطّم الأصنام التي كانوا يعبدونها، حتى حكموا عليه بالقتل والحرب بالنّار، فقال: {فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَن قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنجَاهُ اللهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}[العنكبوت/ 24].

وكان نصره للنبيّ موسى (ع) عندما وقف بوجه فرعون وجنده: {لَمَّا تَرَاءى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ * قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ * فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ * وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ * وَأَنجَيْنَا مُوسَى وَمَن مَّعَهُ أَجْمَعِينَ * ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ * إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ}[الشّعراء/ 61-67].

وامتدَّت حماية الله إلى السيّد المسيح (ع)، عندما منع اليهود من أن ينالوا منه، وحماه وحفظه ورفعه إليه بعد أن صبر على اضطهاد قومه له: {وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَـكِن شُبِّهَ لَهُم}[النساء/ 157].

وبدت هذه الرّعاية للنبي محمد (ص) في كلّ مراحل دعوته، بعد العذاب والآلام والحصار والحروب التي فرضت عليه. وقد ظهر ذلك عندما هاجر من مكّة إلى المدينة، وذلك قوله تعالى: {إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}[التوبة/ 40]. وكان النّصر في بدر والأحزاب وخيبر، وتوِّج في فتح مكَّة، حيث نزلت السّورة }إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابً{[سورة النَّصر].

وهذه الرّعاية شاملة، تحيط بكلِّ عباده الذين أخلصوا له، ولم يخذلوا رسالة دينه: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ}.

الثّبات طريق النّصر

إنَّ هذه الرّعاية الإلهيَّة، وهذا الوعد لعباده بالفرج والنَّصر والتّأييد، نحن أحوج ما نكون إلى وعيه واستحضاره في مواجهة كلّ التحدّيات التي تهدِّدنا، حتى لا ننهزم نفسيّاً أمام التّهاويل والوعد والوعيد والتّخويف، وحتى تبقى لدينا الثّقة بالله، ولا يتسلَّل الشّكّ في صدق وعد الله عندما يقول: {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} {إِنَّ اللهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ}، ولا نصاب باليأس والإحباط ونشعر بالتّعب، بل أن نثبت، فلا نتراجع، وأن نستقيم فلا نضيّع البوصلة، ولا نتيه عن الطريق في كلماتنا وفي مواقفنا.

جعلنا الله من الثابتين والمستقيمين الذين لا تحرفهم نفسهم الأمَّارة بالسّوء، ولا شياطين الجنّ والإنس، ولا كلّ صعوبات الحياة وتحدّياتها.

بسم الله الرَّحمن الرَّحيم

 

الخطبة الثانية

عباد الله، أوصيكم وأوصي نفسي بما أوصى به أمير المؤمنين (ع) واليه مالك الأشتر عندما ولّاه مصر، فقال له: "فالجنود، بإذن الله، حصون الرعيّة، وزين الولاة، وعزّ الدّين، وسبل الأمن، وليس تقوم الرّعية إلا بهم، ثم لا قوام للجنود إلا بما يخرج الله لهم من الخراج الذي يقوون به في جهاد عدوّهم، ويعتمدون عليه فيما يصلحهم، ويكون من وراء حاجتهم قول من جنودك أنصحهم في نفسك لله ولرسوله ولإمامك، وأنقاهم جيباً، وأفضلهم حلماً ممن يبطئ عن الغضب، ويستريح إلى العذر، ويرأف بالضّعفاء، وينبو على الأقوياء، وممن لا يثيره العنف، ولا يقعد به الضّعف، ثم الصق بذوي الأحساب، وأهل البيوتات الصّالحة والسوابق الحسنة، ثم أهل النّجدة والشجاعة والسّخاء والسماحة، فإنهم جماع من الكرم، وشُعب من العرف، ثم تفقد من أمورهم ما يتفّقده الوالدان من ولدهما".

 

هذه هي الصّفات التي أرادها الإمام عليّ (ع) للجيش، وهذا هو الأسلوب الَّذي أراد للحاكم أن يتعامل به مع الجنود، ليقوموا بدورهم في حفظ الوطن وحمايته ومنع الأعداء من أن يكيدوا له. ومتى حصل ذلك، فسنبني المجتمع القوي القادر على مواجهة التحديات، وما أكثرها!

 

خطرٌ يهدِّد البلد!

والبداية من لبنان، الَّذي تستمرّ فيه معاناة اللّبنانيّين على الصّعيد الاقتصاديّ، مع ما يتركه ذلك من آثار كارثيّة على حياتهم ومتطلّبات عيشهم الكريم، من دون أن تلوح في الأفق بوادر خروجهم من هذا النفق المظلم، سوى وعود يراهَن عليها من الخارج، والتي أصبح من الواضح بعد الكلام المكرَّر، أنَّ الخطوات الإصلاحيّة الّتي طلبتها الدول المساعدة للبنان، لم ترتقِ إلى المستوى المطلوب. وقد عبَّر عن ذلك أحد المسؤولين الغربيّين، في إشارةٍ إلى أسلوب تعامل الدّولة اللّبنانيّة مع الواقع الاقتصادي.

إنَّ هذا الواقع كواقع المريض الّذي يحتضر، ويبدو أنّ كلّ ما تقوم به الدولة اللبنانية هو العمل على تغطية شحوب وجهه ببعض المساحيق.

في هذا الوقت، بدأ النقاش في مجلس الوزراء حول موازنة العام 2020. وهنا لا بدَّ من التنويه بتقديم الموازنة، ولأوَّل مرّة منذ سنوات طويلة، قبل وقت صرفها، وسط مخاوف اللّبنانيين من أن لا تؤدّي هذه الموازنة إلى نقلة نوعية في الوضع المالي والاقتصادي، إن بقيت العقلية التي حكمت موازنة السنة الجارية تحكم موازنة العام القادم، وما لم تكن هناك إرادة سياسيّة صلبة ومعالجة جادّة وحقيقيّة للأسباب الّتي أدّت إلى وصول البلد إلى ما وصل إليه، حيث بات على شفير الانهيار، كما يتحدَّث عن ذلك الكثيرون، وقد أصبحت هذه الأسباب واضحة، ولا تحتاج إلى مزيد من البحث، بعد أن كثر الكلام حولها من الخبراء الاقتصاديين، أو حتى من النوّاب أثناء مناقشة موازنة العام 2019، والتي أشير إليها في اجتماع بعبدا أخيراً.

 

إصلاحات لا بدَّ منه

ويبقى لنا، وفي ظلِّ البحث الجاري حول الموازنة، أن نجدِّد موقفنا بالتّحذير من تحميل الطبقات الشعبيّة عبء ما أفسدته سياسات المسؤولين وممارساتهم لحساب استمرار الفساد، ومصالح الرساميل الكبرى، ومواصلة التوظيف العشوائي، وعدم مكافحة التهرب الضّريبي والجمركي، أو القيام بإصلاحات جدية في قطاعي الكهرباء والاتصالات، وكذلك على صعيد الصناعة ودعم القطاعات الصناعية التي تفتقر إلى أيّ دعم حقيقي من الدّولة، كما لا بدّ من العمل لتطوير الدّور الرقابي على أجهزة الدولة ومؤسّساتها، وتحصيل حقوق الدولة في الأملاك البحريّة وغيرها.

 

إنّنا لازلنا نرى بعض الأمل ببعض النوّاب والوزراء، وبأصوات نعتقد أنها لاتزال تحمل همَّ الوطن والمواطن، وتعمل بكلِّ إمكاناتها لإخراج هذا البلد من عقلية المحاصصة إلى عقلية بناء الدولة، لإبقائه قادراً على مواجهة التحدّيات، وما أكثرها!

ونتوقَّف عند الإضراب التحذيري لأصحاب المحطات، لندعو الدولة إلى تحمّل مسؤوليّاتها تجاه هذا المرفق الحيوي الّذي يمسّ احتياجات المواطنين، ومعالجة الأسباب التي أدَّت إلى توقّف العمل فيه.

 

وقد أصبح واضحاً معاناة هذا القطاع الّذي يتعامل بالعملة الوطنيَّة، فيما المطلوب أن يشتري من الشركات بالعملة الأجنبيّة، وبالدولار الأميركيّ، في وقت لا تتوافر هذه العملة لأسباب لم تعد خافية على أحد.

إنّ الدولة مسؤولة عن حماية هذا القطاع، وعن القطاعات الصناعيّة والقطاعات الأخرى، كالقمح والدواء، حفظاً لها، ولعدم الوصول إلى حائط مسدود قد تضطرّ معه إلى إيقاف خدماتها، والذي نعرف جميعاً آثاره السلبيّة في الوطن كلّه.

 

ملفّ العمالة مع العدوّ

وإلى ملفّ العمالة مع العدوّ الإسرائيليّ، حيث نرى أهميّة الخطوات التي أقدم عليها القضاء بتوقيف العميل الفاخوري، وعدم الخضوع لأيّ ضغوط وتدخلات داخلية أو خارجية أو لحسابات طائفيّة، حفظاً لحقوق من عانوا طغيان هؤلاء العملاء، ولعدم استسهال العمالة مع عدوّ لايزال يعتدي على البلد في برّه وبحره وجوّه.

 

حماية المنطقة بالتَّفاهم

ونتوقّف عند الملفّ اليمني، وما حدث من استهداف لمرفق حيوي في المملكة العربية السعودية، وهو استهداف منشآت "أرامكو". إننا في الوقت الذي أعربنا ونعرب دوماً عن ألمنا وحزننا لكلّ استهداف يطال أيّ بلد عربي وإسلاميّ، لأنه خسارة لشعوب هذه المنطقة واقتصادها، نرى أنّ المعالجة تكمن بإزالة الأسباب التي أدّت إلى ذلك. ونحن نجدّد دعوتنا لإطفاء كلّ بؤر التوتر والتصعيد في المنطقة، وخصوصاً الأزمة اليمنيّة، والتي كنّا قد حذّرنا من تداعياتها على دول الجوار، بعد أن تحوَّلت إلى حرب عبثيّة أكلت الأخضر واليابس، وتسبَّبت بمآسٍ كبيرة للشّعب اليمني، والحلّ هو أن تتوقَّف هذه الحرب، وأن يعمل المعنيّون لذلك بكلّ طاقاتهم، قبل أن تتوسَّع تأثيراتها السلبية والخطيرة.

 

لقد أثبتت التَّجارب، أنَّ حماية المنطقة، وخصوصاً منطقة الخليج، لا تتمّ من خلال الرهان على حماية دوليَّة، بل من خلال التفاهم والتوافق بين دول المنطقة نفسها، وهو أمر ممكن، وهذا ما ندعو إلى المسارعة إليه، عبر فتح أبواب الحوار المباشر بدلاً من إغلاقه، وبدلاً من إبقاء مسارات الابتزاز مفتوحة لمصلحة الدول الكبرى لكي تتحكّم بالمشهد العام، وتفسح في المجال للفتن لكي تتحرّك في الواقع الإسلامي كلّه تحت عناوين مذهبيَّة، أو تحت عنوان الصّراع الفارسي – العربي، وليتمّ سحب عنوان الصّراع مع العدوّ الإسرائيلي، وفي ذلك خطورة كبيرة، فضلاً عن تزييف الحقائق والتّاريخ.

 

Leave A Reply