صبر أيوب (ع) على البلاء

السيد علي فضل الله

ألقى العلامة السيّد علي فضل الله، خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عددٍ من الشخصيّات العلمائيّة والسياسيّة والاجتماعيّة، وحشدٍ من المؤمنين، ومما جاء في خطبتيه:

الخطبة الأولى

{لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} صدق الله العظيم.

الصبر عند البلاء

من القصص التي أشار إليها القرآن الكريم قصة النبي أيوب(ع)، هذا النبيُّ الّذي قدَّم أروع أنموذج في الصّبر على البلاء، حتى اقترن اسمه بالصبر، فيقال: “بلاء أيّوب” و”صبر أيّوب”. فما من أحد ابتُلِي إلاّ وتذكّره أو ذُكِّر به أو تمثَّل به عند الشدائد.

أريدُ اليوم أن أتوقف عند بعض جوانب من قصّته لأخذ العبرة منها، حيث تذكر سيرته أنّ الله سبحانه وتعالى رزقه أموالًا وأولادًا وصحة وقوّة في الجسم، لكن هذه الحال لم تدم، إذ ابتُليَ ببلاء شديد نزل به دفعةً واحدة؛ فَقَدَ أمواله وكلّ ثروته، ومات أولاده، وأُصيب بعلّة في جسده، جعلته عاجزاً عن القيام والحركة وعافه أصدقاؤه ومحبوه وأقرباؤه، لكن على الرغم من ذلك بقي صابراً ذاكراً لله راضياً بقضائه شاكراً لأنعمه، ولذا عندما رأى امرأته تتأفف يوماً من حالته، قال لها: كم لبثت في الرخاء؟ قالت ثمانين عاماً، قال لها: كم لبثت في البلاء؟ قالت: سبع سنين، قال: أما أستحي أن لا أتحمّل بلاءه، وما قضيت بعد مدّة رخائه علي!؟..

وعندما وصلت الأمور إلى هذا الحدّ، حيث العزلة والوحدة والفقر والمرض والهجران والنّكران، توجّه النبيّ أيّوب(ع) بدعائه إلى الله… ولكن بأيّ أسلوب توجّه إلى الله؟ هل دعاه بأسلوب الترجّي، أو بأسلوب العاتب، أو بأسلوب النّاقم والغاضب؟ …

اللجوء إلى الله

نادى أيّوب ربَّه بكلّ حياء: {أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ}، فهو اكتفى بتوصيف حاله: {أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ} وتوصيف حال ربِّه {وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ}.

وفي ذلك عبّر عن أدبه مع ربّه وثقته به، فهو لم يحدّد له ما يريد، لم يطلب منه شفاءً، أو ردّ أمواله أو أولاده.. كان واثقاً كل الثقة بالله…

وكان الله سبحانه وتعالى عند حسن ظنِّ أيوب به، فقد استجاب له دعاءه، وهيّأ له أسباب الشّفاء، فجاء الأمر من الله سبحانه: {ارْكُضْ بِرِجْلِكَ}، أي اضرب برجلك الأرض، وعندما ضرب برجله، أخرج له الماء بقدرته، بعدها أمره أن يغتسل بهذا الماء ويشرب منه: {هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ}، وسيكون هذا الماء سبيلاً لإنهاء عذاباته وبلائه، وفعلاً ما إن اغتسل بالماء وشرب منه حتى برأ من مرضه، وعادت إليه صحَّته، وشفي من كلّ ما أصابه، وعادت أموره على حالها، ويعبّر الله تعالى عن ذلك بقوله: {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآَتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ}…

ونِعَم الله لم تتوقّف عند كشف الغمّ وذهاب البلاء، بل تجاوزت ذلك عندما أعطاه الله وسام الصّابرين والذّاكرين لله، فقال: {إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} …

عِبر ودروس

لقد أشارت هذه القصة إلى عدة عِبَر نشير إلى بعضها؛ أولاً: إنَّ البلاء هو واحد من سنن الله التي أجراها الله، فالحياة كما فيها صحة فيها مرض، وكما فيها أمن فيها خوف، وكما فيها غني فيها فقير، وكما فيها ربح فيها خسارة، وكما فيها ولادات فيها وفيات…

وإلى هذا أشار الله تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ}.

وهذه السُنَّة يجريها الله سبحانه على كل الناس، فهي لا تقف عند حدود العاصين لله، بل تشمل المطيعين، حتَّى الأنبياء والأوصياء والعلماء يُبتلون ويعانون الشَّدائد، فهؤلاء يثبتون، وقد يكون ابتلاؤهم أشد.. ومن هنا، لا بدَّ من أن تزول الفكرة الّتي يعيشها البعض، وهي أنَّ البلاء عقاب إلهيّ نتيجة المعاصي الّتي يرتكبها الإنسان..

فالخلق جميعاً، وبحسب سنَّة الله، معرَّضون بشكل أو بآخر للبلاء، ولا إرادة لهم في ذلك، ولكن الفرق بينهم، هو في كيفيّة تعاملهم مع البلاء، فنرى من يواجهه بالصبر والثبات والأمل فيما نرى من يواجهه بالجزع واليأس والاستنكار والاعتراض…

الدرس الثاني هو ضرورة الصبر عند البلاء، فالصبر هو مظهر الإيمان، فلا يمكن أن يكون الإنسان مؤمناً وهو لا يرضى بقضاء الله ولا يثبت عند البلاء، فقد ورد في الحديث: “الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد، فإذا ذهب الرأس ذهب الجسد، كذلك إذا ذهب الصبر ذهب الإيمان…”

وفي الحديث: “لن تكونوا مؤمنين حتّى تعدوا البلاء نعمة والرخاء مصيبة وذلك أنّ الصبر عند البلاء أعظم من الغفلة عند الرخاء…”

وقد عزّز الله هذه القيمة قيمة الصبر عند الإنسان، عندما أشار إلى الجوائز التي يحظى بها الصابرون، عندما قال: {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ}.

الدرس الثالث: وهو الدعاء، فلا ينسى الإنسان ربه عندما يواجهه البلاء أو تشتد عليه المصائب، والله وعد من يدعوه بالإجابة عندما قال لرسوله(ص): {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي} {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ}.

هذا هو السلاح الذي كان يستعين به الأنبياء والأولياء، وهو ما ينبغي أن يكون ملجأنا عند البلاء وفي التحدّيات.. إننا أحوج ما نكون إلى هذه الدروس، لنأخذ بها فنكون كما كان هذا النبي من الأوابين الذين يعودون إلى الله عند اشتداد المحن ليستمدوا منه المدد والقوة والعزيمة، ومن الصابرين الذين لا يهزمهم البلاء ولا تكسرهم المصاعب والتحدّيات..

بسم الله الرَّحمن الرَّحيم

الخطبة الثانية

عباد الله أوصيكم وأوصي نفسي بما أوصى به الله سبحانه وتعالى عباده المؤمنين عندما قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ}..

حيث دعا الله سبحانه وتعالى المؤمنين إلى أن لا تهزمهم البلاءات ولا تكسرهم المصاعب والتحديات، بل أن يثبتوا أمامها ويتماسكوا ولا يجزعوا وأن يستعينوا عليها بالصبر، وبأن يفيئوا إلى الصلاة التي إن أدوّها كما ينبغي، فهي تمدهم بالطمأنينة والعزيمة والإرادة.. ومتى فعل المؤمنون ذلك سيكونون أقوى وأقدر على مواجهة التحديات..

لبنان ما زال بانتظار الحكومة!

والبداية من لبنان الذي تتصاعد فيه الأزمات على الصعيد الصحي والاقتصادي والمعيشي والأمني وبفعل التطورات المتسارعة التي تحدث على الصعيد الإقليمي والدولي والتي لن يكون لبنان بمنأى عن تداعياتها، يأتي كل ذلك فيما لا تزال القوى السياسية تعيش النّكران واللامبالاة إزاءها، فكل هذه الأزمات لا تجد فيها هذه القوى ما يستدعي الإسراع بتأليف حكومة كفوءة قادرة على مواجهتها وإخراج البلد من النّفق المظلم الذي دخل فيه وتحظى بثقة اللبنانيين والعالم بها.

فلا تزال الحكومة في براد هذه القوى رهينة الشروط والشروط المضادة، وأسيرة تجاذباتها ومحاصصاتها وحساباتها الخاصة ومصالحها، ولا يبدو أنه سيفرج عنها قريباً.

وهذا لا يعني أن ننفي دور الخارج ومسؤوليته في تعقيد الأمور ووضع العصي في دواليب تشكيل الحكومة ومنع المساعدات الضرورية لهذا البلد، ما لم يتم الأخذ بشروطه وخطوطه الحمراء.

فقد أصبح واضحاً أنَّ ما نعانيه له بعد داخلي وخارجي، ولكن هذا ليس كل الخارج، فهناك من الخارج من يُريد لهذا البلد الاستقرار ومساعدته على خروجه من أزماته إنْ هو ساعد نفسه وقام بما يجب عليه من إصلاحات ضرورية.. ونبقى نؤكِّد أنَّ هذا البلد قادرٌ على تجاوز كل ضغوط الخارج إنْ قررت قواه السياسية أن تخرج من حساباتها الخاصة ومن أي رهانات على هذه الضغوط وتوحِّد جهودها إنْ هي تعاونت فيما بينها لخدمة هذا البلد..

فقد أثبتت تجارب الماضي والحاضر، أنَّ الخارج يستكين لمنطق الأقوياء ويستجيب لشروطهم في نهاية المطاف فيما يخضع له الضعفاء ومن يسمحون له بالنفاذ إلى ساحتهم..

لبنان … تداعيات كورونا

في هذا الوقت، يترقب اللبنانيون نتائج الإقفال على أعداد المصابين بفيروس كورونا، وإذ نشدد على أهمية الاستمرار بهذه الإجراءات لضمان عدم انتشار الوباء وعلى الخطوات التي تم القيام بها، ولكن هذا لا يعني أن تدير الدولة ظهرها لتداعيات الإقفال على القطاعات التي شملها الإقفال، وخصوصاً على الطبقات الفقيرة واتخاذ الإجراءات التي تضمن لها القدرة على تأمين سبل عيشها الكريم..

ونبقى نؤكد أنَّ السبيل الأمثل والحل لمواجهة هذا الوباء هو بالإلتزام بالإجراءات الكافية والتشدد فيها من قبل الدولة، وهنا نقدِّر للقوى الأمنية وللبلديات تشددها وندعوها إلى الاستمرار بذلك، ونأمل هنا أن تجيّر محاضر الضبط التي سُطّرت بحق من لم يتقيدوا بإجراءات الوقاية لتكون لحساب مواجهة هذا الوباء في هذه المرحلة، لا أن تكون لمواقع أخرى.

لبنان … ملفات اقتصادية وقانونية

وعلى صعيد الدولار الطالبي، فإننا نجدّد دعوتنا الدولة إلى تحمّل مسؤوليّتها تجاه آلاف الطلاب في الخارج الذين يعانون بسبب عدم قدرة أهلهم على إرسال المال للذين يتابعون دراستهم بعد ارتفاع سعر الدّولار في السوق السوداء، وأن لا يكتفوا بالعذر وتبرئة الذّمة بأنهم أصدروا القانون لذلك، بل لا بد من وضع الآليات الكفيلة بتنفيذه.

وأخيراً تطل علينا وسائل الإعلام وبعض المسؤولين بملفات يُشتّم منها الفساد، لكن تبقى في دائرة الأخبار من دون أن نجد القضاء يتحرّك ليضع يده عليها، ليبيّن معها أين هي الحقيقة وليظهر صدقيتها من عدمها، حتى لا يُظلم مسؤول أو يُتهم من لا ينبغي اتهامه أو حتى لا تطرح هذه الملفات في لعبة الصراع السياسي، فتظهر عنده وتختفي عندما يزول.