ضوابط الخطاب في مواجهة الاختلاف

السيد علي فضل الله

قال الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز: {وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوّاً مُبِيناً}.

الاختلاف هو أمر طبيعي وهو سنة من سنن الله في خلقه، لذا نرى الناس يختلفون في أديانهم ومذاهبهم وأفكارهم وفي نظرتهم إلى القضايا وفي أساليبهم وتوجهاتهم، ولو شاء الله أن لا يختلفوا لما اختلفوا.. وهذا ما أشار إليه الله سبحانه عندما قال: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ…}..

ولكن الله سبحانه لم يشأ لهذه الاختلافات أن تتحول إلى فتن وتوترات ونزاعات تربك حياة الأفراد والمجتمعات، لذلك دعا الناس بقوة إلى التنبه إلى كلماتهم في أحاديثهم وخطاباتهم وعبر وسائلهم الإعلامية ومواقع التواصل، وعندما يتحاورون أو يتخاصمون فيجب أن يعمدوا إلى الأحسن في القول والأحسن في الحوار، والأحسن في التعامل مع ما يصدر من الآخرين من إساءات.. وحثهم على الابتعاد عن كل كلام مسيء ومستفز.. وإلى هذا أشار الله سبحانه وتعالى: {وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ}.

لقد دعا الله سبحانه في هذه الآية الناس إلى أن يتخاطبوا بالأحسن، لأن الشيطان يلتمس سقطاتهم وعثرات ألسنتهم فيخلق العداوة والبغضاء في ما بينهم..

وقال سبحانه لمن يتحرك في خط الدعوة، وللذين قد يدخلون في حوار مع من يختلفون معهم: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}، وقال عز وجل لمن يتعرض إلى الإساءة من الآخرين، أن لا يبادلهم بالمثل بل بالتي هي أحسن حتى يحول عداوتهم إلى صداقة: {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ}.. وقال: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً}.

هذا السلوك هو الذي عبر عنه(ص) في حياته، وفي كل مراحل دعوته رغم الإساءات التي تعرض لها، ولذا عندما قيل له وهو في قمة المعاناة: “ادعُ على المشركين.. قال: إني لم أبعث لعاناً وإنما بعثت رحمة مهداة”، وهو القائل: “إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق”..

وقد ورد أنه مر به يهودي، فقال له: السام عليك يعني الموت عليك.. موهماً بذلك أنه يسلم على النبي(ص)، فاكتفى النبي(ص) بالقول وعليك..

وهنا ثارت ثائرة زوجته السيدة عائشة التي شهدت هذه الواقعة، وراحت تسب هذا اليهودي وتلعنه، فقال لها رسول الله(ص): “هوني عليك ما بهذا نبادل إساءاته”.. “إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانهُ، ولا ينزعُ من شيءٍ إلا شانهُ”.. ” إن اللَّه رفِيق يحب الرفق ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف”..

وقد قالها رسول الله(ص) لا عن ضعف بل عن قوة، فقد كان آنذاك في المدينة المنورة، وكان الأمر والحكم له… ولذلك عندما تحدث الله سبحانه وتعالى عن أسلوب النبي(ص) الذي به استطاع فتح قلوب الناس وجعلها تهفو إليه، قال تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ}..

فقد كان رسول الله(ص) مثالاً من الرحمة مع الآخرين حتى لو كانوا من أقسى الناس وأشدهم..

وهذا هو الأسلوب الذي انتهجه علي(ع) في معركة صفّين، فهو عندما سمع أصحابه يسبّون أهل الشّام كرد فعل على سب هؤلاء لعلي(ع) ولمن معه.. خاطبهم قائلاً: “كفّوا عمّا بلغني عنكم من الشّتم والأذى”.. فقالوا: “ألسنا محقّين؟”، قال: “بلى”، قالوا: “ومَنْ خالفنا مبطلين؟”، قال: “بلى”، قالوا: “فلِمَ منعتنا من شتمهم؟”، فقال: “كرهت أن تكونوا سبّابين”.

وأمّا البديل: “ولكن لو وصفتم أعمالهم، وذكرتم حالهم، كان أصوب في القول، وأبلغ في العذر، وقلتم مكان سبِّكم إيّاهم: اللّهمّ احقن دماءنا ودماءهم، وأصلح ذات بيننا وبينهم، واهدهم من ضلالتهم، حتّى يعرف الحقّ من جهله، ويرعوي عن الغيّ والعدوان من لهج به”.

وهذا الأسلوب هو ما أوصى به الإمام الباقر(ع) شيعته عندما قال لهم: “فولوا للناس أحسن ما تحبون ان يقال لكم فأن الله يبغض اللعان والسباب والطعان الفاحش المتفحش”..

وفي وصية للإمام الصادق(ع): “اتّقوا اللهَ وكونوا زيناً ولا تكونوا شيناً، جرّوا إلينا كلَّ مودةٍ، وادفعوا عنّا كلَّ قبيح”.. ” قُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً، وَاحْفَظُوا أَلْسِنَتَكُمْ، وَكُفُّوهَا عَنِ الْفُضُولِ وَقَبِيحِ الْقَوْلِ”..

وهذا المبدأ هو ما حرص عليه العلماء والمراجع الواعون في فتاوى دينية شرعيّة، عندما حرموا وفي الدائرة الإسلامية وفي الدائرة الإنسانية الإساءة بالسباب أو اللعن إلى رموز المسلمين الآخرين والإساءة إليهم وإلى كل من يختلف معهم في الدين أو الفكر أو في الموقف، رغم الاختلافات والتحفظات عما يصدر عنهم..

وهم في ذلك عندما أطلقوا فتاواهم لم ينطلقوا من مجاراةٍ للآخرين، بل من فهمهم لأخلاقية الإسلام ووعيهم العميق لمدلول كلام الله سبحانه الذي يدعو إلى عدم السبِّ، حتى لو وصل الأمر إلى المشركين الذين أعلن الله الحرب عليهم، فقال تعالى: {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ}.. ومن منهج رسول الله(ص) والأئمة(ع) في سيرتهم ومواقفهم وكلماتهم بقول رسول الله(ص) ومن وعيهم أن هذا الأسلوب لا يفيد، فالسب يستجر سباً واللعن يستجر لعناً.. ومن خشيتهم من تداعيات السب على أرض الواقع، وهذا ما نراه اليوم بأمّ أعيننا.

إننا في عصر الفتن، بحاجة إلى من يئدها، لا من يسعّرها، وإلى من يبرّد القلوب، لا من يثير مكامن الحقد فيها، وهذا لا يتم إلا بالكلمة الطيبة التي تقرب القلوب وتعزز أواصر الوحدة وتزيل التوترات والأحقاد من النفوس، فبهما نعبر عن إيماننا: “من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت”.. وهو ما هدانا الله إليه: {وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ}، وهو الذي يبقى في الدنيا ويأتي نتائجه في الآخرة: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا}.

اللّهمّ أعنّا على أنفسنا بما تعين به الصّالحين على أنفسهم، اللّهمّ جنّبنا مزالق السّوء ومرابض الفتن ودعاة الشّرّ، إنّك أنت العزيز الحكيم….

الخطبة الثانية

عباد الله أوصيكم وأوصي نفسي بما أوصى به الله عندما قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ}..

نزلت هذه الآية لتدعو المؤمنين إلى عدم السماح بأن يدخل على خطهم من يريد إثارة الفتنة فيما بينهم، كالذي حدث في أيام رسول الله(ص) حين مر ذات يوم رجل من اليهود على نفر من أصحاب رسول الله من الأنصار، فهاله ما رأى من توادهم وتآلفهم، فأرسل شاباً من اليهود ليذكرهم بيوم بعاث وبما قيل من أشعار في هذا اليوم وما جرى في من قتل، يوم هزم فيه الأوس الخزرج، فاستثار مشاعر الأوس والخزرج وتنادوا السلاح السلاح، واستعدوا ليقاتل بعضهم بعضاً، فبلغ ذلك رسول الله(ص)، فقدم وقال لهم: “أبدعوى الجاهلية، وأنا بين أظهركم، بعد إذ هداكم الله إلى الإسلام، وأكرمكم به، وقطع به عنكم أمر الجاهلية، واستنقذكم به من الكفر، وألَّف به بينكم، ترجعون إلى ما كنتم عليه كفارًا؟!”.. فعرفوا أنها نزغة من نزغات الشيطان وكيد من عدوه، فبكوا وتعانقوا ورجعوا إلى ودهم..

إننا في عصر الفتن، بحاجة إلى من يئدها، لا من يسعّرها، وإلى من يبرّد القلوب، لا من يثير مكامن الحقد فيها، وهذا لا يتم إلا بالكلمة الطيبة التي تقرب القلوب وتعزز أواصر الوحدة وتزيل التوترات والأحقاد من النفوس، فبهما نعبر عن إيماننا: “من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت”.. وهو ما هدانا الله إليه: {وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ}، ان علينا ان لا نسمح مجدداً للنافخين في نار الفتنة أن يجدوا مكاناً لهم.. وبذلك نكون أقوى وأقدر على مواجهة التحديات…

والبداية من لبنان الذي يتصدر فيه الوضع المعيشي الضاغط الواجهة والذي قد يأتي على حساب الوضع الذي تسبب فيه فيروس كورونا، بعدما نزل الناس إلى الشوارع.. وقد يستمرون بالنزول من دون الأخذ بالإجراءات الصحية الكفيلة بوقايتهم، فهم باتوا غير قادرين على تحمل الارتفاع غير المسبوق في سعر صرف الدولار بعد تجاوزه عتبة الخمسة آلاف ليرة والذي انعكس ارتفاعاً مضاعفاً في أسعار المواد الغذائية وتهديداً للقدرة الشرائية بعد أن لم تقم الحكومة بالدور المطلوب منها في لجم هذا التدهور أو في معالجة تداعياته التي لن تقف عند لقمة عيش المواطنين بل تتعداها إلى أمنهم واستقرارهم السياسي والاجتماعي والنفسي..

إن الإجراءات التي اتخذتها الحكومة لمعالجة الأوضاع الضاغطة لم ترق إلى مستوى المعالجة الجادة للأسباب التي أدت إليها، ومن هنا فإننا أمام هذا الواقع نعيد دعوة الحكومة التي أخذت على عاتقها مسؤولية إخراج هذا البلد من النفق المظلم إلى تهدئة غضب الشعب الذي لا تعرف تداعياته ولا من قد يدخل على خطه.. حيث الكل يعرف مخاطر نزول الناس إلى الشارع وما قد يجري فيه.. والقيام بمعالجة الأسباب الحقيقية لهذا التدهور وعدم الاكتفاء كما يكتفى الآن بالإجراءات التي اتخذت كما جرى بحق الصرافين.. والذين ليسوا سبباً رئيسياً فيها، بل هم يستفيدون من تداعياتها وإن كنا مع ضبط ما يجري..

لقد أصبح واضحاً أن العلاج لن يكون إلا بإعادة نظر جذرية بالسياسة المالية والنقدية التي أوصلت البلد إلى ما وصل إليه وباستعادة الأموال المنهوبة واستثمار الدولة لمواردها وتفعيل القطاعات الإنتاجية وعدم الاكتفاء بالشعارات عن ضرورة الاقتصاد المنتج، وفي الوقت نفسه أن تجري الملاحقة الأمنية والقضائية للجهات التي تتلاعب بسعر الدولار بما يفاقم من حدة الأزمة.

إن على الحكومة أن تتحمل مسؤوليتها في هذا الظرف الصعب حتى تستعيد ثقة الناس بها، وسوف يقفون معها في أي إجراءات إذا كانت صادقة وجدية معهم، وهم لن يخذلوها وسيصبرون معها في كل ما قد تقوم به حتى لو كان ذلك على حسابهم.. ولا ينبغي أن يكون رهانها الوحيد على الصندوق الدولي الذي أصبح واضحاً أنه لن يقدم شيئاً في ظل هذا الواقع السياسي، وإن قدم فسيقدم ما لا يعالج مشاكل البلد المالية والنقدية إلا بشروط لن يقوى البلد على تحمل أعبائها وشروطها..

ومن هنا، فإننا نجدد دعوتنا للحكومة إلى المسارعة في احتواء الأوضاع والوفاء للأهداف التي جاءت على أساسها ووعدت المواطنين بها، وعليها أن تتقي غضب الناس، الذين لن يرحموا حكومة تعيدهم إلى واقعهم السابق، هم خرجوا من أجل التخلص منه ولن يعودوا بعقارب الزمن إلى الوراء..

وإذا كانت الحكومة تتحدث عن أنها لا تخضع في سياساتها لحسابات فئوية أو أنها تقوم بالتعيينات على أساس الكفاءة لا المحاصصة، فإن مسؤوليتها توضيح ذلك للناس، وإظهار صدقيتها في الوفاء بما وعدت به.

إن على الحكومة أن لا تراهن على أنها باقية لعدم وجود البديل وأن لا خيار، فليس هذا منطق التاريخ ومنطق الحاضر.. فعلى الحكومة أن تعي مبرر وجودها هو أن تكون صوت الناس ومعبرة عنهم، وهم سيكون ضمانها ولن تحميها القوى السياسية التي أوجدتها إن لم يرد الشعب الذي هو مصدر الشرعية الأساس لها..إننا لن نهون من حجم الأزمات التي يعاني منها البلد ولا حجم الضغوط التي تنتظره، ولكننا دائماً نؤكد أن الأبواب ليست مغلقة، بل هي مفتوحة شرط أن تقرر القوى السياسية أن تخرج من انقساماتها وأن تتعاون جميعها فيما بينها على إخراج هذا البلد من أزماته، والذي إن سقط فلن يسقط على رأس الحكومة أو بعض القوى السياسية التي تدعمها بل على رؤوس الجميع..