غزوة حنين: دروسٌ وعِبَرٌ للمسلمين

السيد علي محمد حسين فضل الله

بسم الله الرّحمن الرّحيم

الخطبة الدينية

قال الله تعالى في كتابه العزيز: {لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ * ثُمَّ أَنَزلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنزَلَ جُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا وَعذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَذَلِكَ جَزَاء الْكَافِرِينَ}[التّوبة: 25 – 26]. صدق الله العظيم.

ذكرى غزوة حنين

في العاشر من شهر شوّال، نستعيد ذكرى غزوة حنين التي حصلت في السنة الثامنة للهجرة، بعدما فتح المسلمون مكّة، وقد جاءت هذه الغزوة بعدما قررت قبيلتان كبيرتان من قبائل الطائف، وهما هوازن وثقيف، بناء جيش قويّ موحَّد هدفه إعادة مكّة إلى حضن الشّرك، ومنع تنامي قوّة المسلمين.

وقد اختاروا لهذا الجيش قائداً، وهو مالك بن عوف، وكان يملك صفات المكر والخداع، فجهَّز الجيش، وتحرك نحو الطائف باتجاه مكّة، واصطحب معه النساء والأطفال حتى لا يفرّ مقاتلوه من أرض المعركة، وقرّر استخدام أسلوب المباغتة والكمائن والحرب النفسيّة في المواجهة مع جيش المسلمين.

بلغ رسول الله (ص) تحرك جيش مالك بن عوف للغزو، فسارع إلى استنفار أصحابه، وأعدّ جيشاً قوامه اثنا عشر ألف مقاتل، فقد كان رسول الله (ص) واعياً للقدرات التي يملكها المشركون، ولذلك عمل على تجهيز جيشه بالسّلاح الكافي والعتاد المناسب، ووضع الخطط الكفيلة بتحقيق الانتصار.

وهذا الحجم الكبير من الجيش لم يكن عاديّاً في ذلك الوقت، لجهة العدد والإمكانات التي يمتلكها، الأمر الّذي دفع الكثير من المسلمين إلى الإعجاب بما هم عليه من قوّة وعدد، وشعروا بالزّهو والغرور والفخر، حتّى راح بعضهم يقول: لن نُغلب اليوم من قلّةٍ.

من الصّدمةِ إلى النّصرِ!

وقبل أن يبزغ فجر اليوم السَّادس من شهر شوَّال، وفي السّنة الثّامنة للهجرة، تحرَّك جيش المسلمين إلى وادي حُنين ما بين مكَّة والطّائف لملاقاة جيش المشركين، وما إن شرعوا بالانحدار فيه، حتى فوجئوا بالنّبال تمطر عليهم من كلّ حدب وصوب، من الكمائن التي كان مالك بن عوف قد نصبها لهم، حيث تذكر السيرة أنّه أمر جنده أن يتخفّوا خلف الصّخور والأحجار وشعف الجبال.

يومها، طاش صواب المسلمين، واهتزَّت صفوفهم وألويتهم، وبدلاً من أن يستوعبوا الصَّدمة ويتابعوا السّير تجاه عدوهم، فرَّ عدد كبير منهم، وهربوا متفرّقين، كلّ يسعى إلى النَّجاة بنفسه، وهذا ما أشار إليه سبحانه وتعالى عندما قال: {وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ}.

هنا، استدرك رسول الله (ص) الموقف، ونادى بأعلى صوته: “يا أنصار الله وأنصار رسوله، أنا عبد الله ورسوله”. قال هذا وهو يندفع بالقلّة التي بقيت معه إلى ساحة القتال بكلِّ رباطة جأشٍ لمواجهة المشركين. بلغ نداء رسول الله (ص) مسامع المسلمين، ما دفعهم إلى أن يعودوا إلى حيث رسول الله (ص)، وأن ينفضوا عنهم غبار الخوف وهم يقولون لبّيك لبّيك.

عندها، أعاد رسول الله (ص) تنظيم الصّفوف حول النّواة الصّلبة من المؤمنين، واندفع بهم بعد ذلك إلى المعركة، فحملوا عليهم حملة رجل واحد، بعد أن أمدَّهم الله بالسّكينة، وأيَّدهم بجنود لم يروهم، وهو الذي أشار إليه الله سبحانه وتعالى: }ثمَّ أَنزَلَ ٱللهُ سَكِينَتَهُ عَلَىٰ رَسُولِهِۦ وَعَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ وَأَنزَلَ جُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَذَٰلِكَ جَزَاءُ ٱلْكَٰفِرِينَ}.

وما هي إلّا ساعات حتَّى انهزم المشركون، وفرَّ مالك بن عوف ومن معه من رجالات قومه، والتجأوا إلى الطَّائف، وتحصَّنوا بها، تاركين وراءهم مغانم كثيرة.

وسرعان ما عادوا بعد ذلك إلى رسول الله (ص) تائبين معلنين إسلامهم، بعدما رأوا بأمّ أعينهم سماحة رسول الله (ص) وحلمه، عندما منع التعرض لنسائهم وأطفالهم رغم قدومهم لحربه.

وهكذا، تحوَّلت الهزيمة التي عاشها المسلمون إلى نصر مؤزّر، الهزيمة الّتي كادت تودي بهم لولا حكمة رسول الله وثباته وثقته الكبيرة بنصر ربِّه وتسديده.

دروسُ حُنَين

أيّها الأحبّة: لقد كان درس حنُين بليغاً، ونحن أحوج ما نكون إلى التوقّف عند بعض العبر:

أوّلاً: أنّ النصر لا يتحدّد بكثرة العدد والعتاد ولا بقلّته، فقد نصر الله سبحانه وتعالى المسلمين في بدر رغم أنهم كانوا قلّة في العدد والعتاد، وقد قال الله سبحانه:}كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإذْنِ اللهِ}[البقرة: 249]، وقال: }وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ{[آل عمران: 124]، فيما هم هزموا في بداية هذه المعركة رغم كثرة عددهم وعتادهم، ما يعني أن النصر لا يتحقق إلّا بالأخذ بأسبابه؛ من الإيمان بالله والتوكّل عليه، وأن يكون الهدف منه هو الله والاستعداد للتضحية في سبيله، وحسن التّخطيط والإدارة للمعركة، وعدم الغرور والاستهتار بالعدوّ.

ثانياً: لقد أشارت هذه المعركة إلى خطورة العُجب، وما قد يتركه من تداعيات سلبية على النفوس على المستوى الفرديّ، وأيضاً على المستوى الجماعيّ، فالتاريخ ينبئنا كم من الدّول والحضارات والجيوش سقطت تحت تأثير شعورها المفرط بالقوَّة، فلم تعد تبالي بكلِّ نقاط الضَّعف الّتي كانت تنخر جسدها، ولم تلحظ مواقع القوَّة المتنامية لدى الآخرين، لذلك حذَّرت الأحاديث من هذه الآفة، حيث ورد: “العجب يفسد العقل”، “العجب يظهر النقيصة”، و”من دخله العجب هلك”.

ثالثاً: لقد تحدَّث الله في الآيات التي أشارت إلى هذه المعركة إلى نعمة السّكينة والطّمأنينة التي يمنحها الله للمؤمنين بها، وإلى التّسديد الذي يحظون به عندما ينزل الله ملائكته ليثبّتهم في مواقعهم، عندما يخلصون النيّة والإيمان والعمل في المعركة. قال الله تعالى: {ثُمَّ أَنَزلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنزَلَ جُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا وَعذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَذَلِكَ جَزَاء الْكَافِرِينَ}.

وإلى هذا، أشار الله في آية أخرى: { هُوَ الَّذِي أَنزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَاناً}.

ولأنَّ الله مع المؤمن، فإنّ المؤمن لا يمكن إلّا أن يكون رابط الجأش في الشّدائد والصّعوبات، حافظاً لسكونه عند الزّلازل والهزّات، كما ورد في الحديث: “في الزلازل وقور، وفي المكاره صبور، وفي الرّخاء شكور”.

رابعاً: لقد أظهر رسول الله (ص) في هذه المعركة رحمة الإسلام، عندما سمع أنّ هناك من أصحابه من يريد قتل الأطفال المشركين، ثأراً لما أصابهم في هذه المعركة، إذ قال لهم: “ما بال أقوام ذهب بهم القتل حتى بلغ الذرّية؟! ألا لا تقتل الذرّيّة. فقالوا: يا رسول الله، إنّما هم أولاد المشركين! فقال (ص): أوَليس خيارُكم أولادَ المشركين؟! كلّ نسمة تولَدُ على الفطرة حتى يعرب عنها لسانُها…”.

أيّها الأحبّة: إنّنا أحوج ما نكون ونحن نواجه التحدّيات إلى أن نستلهم كلّ هذه المعاني التي تجعلنا أقوى وأشدّ وأقدر على مواجهتها، وتؤدّي بنا إلى النصر والعزّة، وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِندِ اللهِ.

الخطبة السياسية

عباد الله، أوصيكم وأوصي نفسي بما أوصانا به أمير المؤمنين (ع): “إنّما الدّنيا دار مجاز والآخرة دار قرار، فخذوا من ممركم لمقركم، ولا تهتكوا أستاركم عند من يعلم أسراركم، وأخرجوا من الدّنيا قلوبكم من قبل أن تخرج منها أبدانكم، ففيها اختبرتم، ولغيرها خلقتم. إنّ المرء إذا هلك قال النّاس ما ترك، وقالت الملائكة ما قدَّم”. فلينظر كل منا إلى ما قدَّم إلى ذلك اليوم، وما أعدّ له من عدّة، ومتى فعلنا ذلك، سنكون أكثر وعياً ومسؤوليّةً وقدرةً على مواجهة التحدّيات.

فلسطينُ تقاوم

والبداية من فلسطين الَّتي أظهرت في الأيّام العشرة الماضية، مدى شموخ شعبها وعنفوانه في التصدّي للعدوان الغاشم عليها، وأثبتت للعالم أنّ هذا الشعب هو عصيّ على الكسر والهزيمة.

لقد استطاع هذا الشّعب بصموده وصبره أن يمنع العدوّ الصّهيوني من أن يحقّق الأهداف التي أرادها من عدوانه، فلم يتمكّن من أن يوقف إطلاق صواريخ المقاومة على مستوطناته ومدنه، ولا الحدّ من مسيرات الاعتراض على احتلاله وإذلاله، واستطاع بذلك أن يرسم معادلة جديدة لا تراجع عنها، وهي أن لا أمن ولا استقرار ولا مستقبل لهذا الكيان إن لم يحصل الشعب الفلسطيني على الأمن والاستقرار والحريّة والأمل بالمستقبل لأبنائه.

إننا لن نهوّن مما جرى على الشّعب الفلسطيني من تداعيات هذا العدوان، من مجازر ودمار وسقوط عشرات الشهداء ومئات الجرحى بما قد لا يتحمّله شعب آخر…

ولكن بات واضحاً، ومن تجارب الشعب الفلسطينيّ مع العدوّ، أنه لا يمكن مواجهته إلّا بصناعة القوّة، وبالأسلوب الذي يفهمه ويردعه، فهو لن يتنازل بالتسويات ولا بالتّطبيع معه، وهذا ما أثبتته التجارب السابقة.

لقد راهن العدوّ الصهيوني على أن تخضعوا تحت وطأة إرهابه ومجازره في الحجر والبشر، حتى يخرج من المأزق الذي دخل فيه، سواء على الصعيد الداخليّ أو الخارجيّ، لكنكم بصبركم وجهادكم صنعتم مستقبلكم ومستقبل الأمّة وكلّ من يعاني غطرسة هذا العدوّ.

إننا نشدّ على أياديكم في البقاء على ما أنتم عليه من الثّبات والصّبر والتحدّي والإعداد، لأن هذا العدو لن يستكين لهزيمته، وسيبقى يسعى جاهداً لإعادة الاعتبار إلى جيشه، وثقة مجتمعه به عندما تحين الفرص له، وفي الوقت نفسه، ندعو الشّعوب العربية والإسلامية وكلّ الأحرار في العالم، أن يقفوا الآن مع الشّعب الفلسطينيّ بكلّ ما لديهم من وسائل، كما وقفوا معه خلال العدوان لمساعدته على لملمة جراحاته وبناء ما تهدَّم.

الدّعم العربيّ والوحدة!

إنّنا ندعو الدّول العربيّة والإسلاميّة إلى أن تعتبر أنَّ مطالب الفلسطينيّين مطالبها، فلا ينبغي لها أن تكون وسيطةً بينهم وبين عدوّهم، أو أن تفرِّط فيها، سواء التي تتعلَّق بالقدس أو بالمسجد الأقصى، أو ما يتصل بالضفّة الغربيّة، أو في الحفاظ على كرامة الشعب الفلسطيني داخل أراضي 48. أما العالم الذي يتحدّث عن حقوق الإنسان وحريّة الشعوب، ويرى نفسه معنيّاً بذلك، فإنّنا ندعوه أن لا يستمرّ في سياسة الموازنة بين الجلاد والضحية.

في الوقت نفسه، نريد لهذه الوحدة الفلسطينيّة التي عُمّدت بالدم، وتأصَّلت في فترة العدوان، أن تتعزَّز وتتجذَّر، ولا سيَّما أنَّ هناك تحدّيات كثيرة تنتظر هذا الشّعب، ابتداءً من عمليّة إعمار ما تهدَّم، أو مواجهة الضّغوطات التي سيتعرّض لها في أيّ مفاوضات من قبل العدوّ، فهو لن يستطيع أن يحقّق ما يصبو إليه إلّا من خلالها، فهي الطّريق الصّحيح نحو تحرير أرضه واستعادة حقوقه المسلوبة.

إننا نتوجه بالتحيّة إلى كلّ المقاومين والصابرين في غزّة والضفة الغربية وفي الداخل، لنقول لكم إنّكم بجهادكم وصبركم وثباتكم، أعدتم العزّة والكرامة إلى هذه الأمَّة، وأثبتّم أنكم أوفياء للقدس والمسجد الأقصى وللقضيّة التي قدَّمتم ولا تزالون تقدمون التضحيات الجسام من أجلها.

لبنان المتأزّم

ونعود إلى لبنان الذي يستمرّ التأزّم فيه على الصعيد المعيشي والاقتصادي، على مستوى الغذاء والدواء والمحروقات والكهرباء، من دون أن يبدو أنَّ هناك أيّ بارقة أمل تخرج هذا الوطن من الانهيار الّذي من الواضح أننا سنصل إليه.

ولا تزال الحكومة التي تشكّل وسيلة الخلاص لما يعانيه البلد، والشّرط الوحيد لمساعدة لبنان ممن يريد مساعدته من الخارج، أسيرة المناكفات والصّراعات وتبادل الاتهامات بين المعنيّين بتأليفها، أو بانتظار ما يأتي من الخارج، فيما يستمرّ المشهد على حاله، حيث من المؤكّد أنّه ليس هناك من أحد من المسؤولين في وارد التّنازل للآخر. وإذا كان هناك من يسعى لتحريك المياه الرّاكدة من خلال مجلس النوّاب، فإننا نرى أنّ هذه الخطوة لن تؤدّي إلى شيء في ظلّ الانقسام الداخليّ، وليس هذا هو الطريق المناسب لتأليف الحكومة، فالطريق لها واضح، وهو التواصل المباشر، والاستعداد لتقديم التّنازلات لحساب وطن على الجميع العمل لكي لا يتداعى.

إنّنا نعيد التّأكيد على كلّ من هم في مواقع المسؤوليّة، أن يتقوا الله في هذا البلد وإنسانه، فلا يضيّعوه بفسادهم أو بمصالحهم الخاصّة، ولا بمواقفهم التي تهدِّد سلامة البلد الداخليّة وعلاقته مع محيطه.

عنفٌ مستنكَر

ونبقى في لبنان، لنحذّر من العنف الذي تمَّ التعامل به من قبل البعض مع الإخوة السوريّين، والّذي أثيرت معه الأحقاد والعصبيات واستنفار الغرائز، بما يسيء إلى العلاقة بين الشعبين اللّبناني والسوري، ويترك آثاره السلبية على الداخل اللبناني.