“لا إله إلا الله”: إعلانٌ يختصر التَّوحيد

بسم الله الرّحمن الرّحيم

ألقى سماحة العلامة السيّد علي فضل الله، خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عددٍ من الشخصيّات العلمائيّة والسياسيّة والاجتماعيّة، وحشدٍ من المؤمنين، ومما جاء في خطبتيه:

 

الخطبة الأولى

بعد قبول الإمام الرّضا(ع) بعرض الخليفة العباسيّ المأمون بخلافته بولاية العهد، توجّه الإمام إلى خراسان، وكانت آنذاك مقرّاً للخلافة العباسيّة، وحرص(ع) خلال رحلته من المدينة المنوّرة أن يتوقّف في محطّات للقاء النّاس، الّذين كانوا يتوافدون إليه من كلّ حدب وصوب لرؤية طلعته الشّريفة، والتزوّد من معين أحاديثه. وفي نيشابور، طلب علماؤها من الإمام أن يُسمعهم حديثاً يُغنيهم عن أحاديث كثيرة، فهم لن يستطيعوا أن يروه في كلّ وقت، فروى لهم الإمام(ع) حديثه الّذي سمي فيما بعد بحديث السّلسلة الذّهبيّة، قال:

«حدّثني أبي موسى بن جعفر الكاظم، عن أبيه جعفر الصّادق، عن أبيه محمد الباقر، عن أبيه عليّ زين العابدين، عن أبيه الحسين شهيد كربلاء، عن أبيه علي بن أبي طالب، أنّه قالحدّثني حبيبي وقرّة عيني رسول الله عن جبرائيل أنه قالسمعت ربّ العزّة يقول: كلمة لا إله إلا الله حصني، ومن دخل حصني أمن من عذابي».

وحرصاً منه على أن لا يفهم النّاس الحديث خطأً، فيكتفوا بنطق "لا إله إلا الله"، عقّب الإمام وقال لهم: «لا إله إلا الله بشرطها وشروطها، ثم قال: وأنا من شروطها». والإمام عادةً عندما يقول أنا، فهي لا تنمّ عن الشّخصنة، بل كان يريد أن يقول لهذا الجمع من النّاس، إنّه لا يكفي الأخذ بالكلمة ظاهريّاً، بل إنّ التلفّظ بها هو تتويج لقناعة عميقة وواعية للالتزام بالقرآن وعترة رسول الله أهل بيته. والإمام الرّضا(ع) هو من هذا النّسل الطّاهر، هو سليل بيت النبوّة، هو الإمام السّادس من أئمّتنا الإثني عشر، والّذي نستعيد هذه الأيّام ذكرى ولادته المباركة (الّتي مرّت علينا في الحادي عشر من شهر ذي القعدة). وقد تعلّمنا منه ومن أئمّة أهل البيت جميعاً، أنّ إحياء ذكراهم، كما إحياء ذكرى رسول الله(ص)، هي محطّات للحبّ والوعي، هم لا يريدون منّا تعصّباً وحبّاً أعمى، إنما يريدون منّا أن نفقه نهجهم، ونقتدي بسيرتهم.

حديث يختصر التّوحيد

وحديث السّلسلة الذّهبيّة يتطلّب منّا أن نقف طويلاً أمام معانيه، ولماذا اختاره الإمام بالذّات وهو في هذه العجالة وفي هذا الظّرف.

وهذا الحديث الّذي توارثه الأئمة(ع) عن جدّهم رسول الله، مروراً بجبريل، هو إعلان يختصر التّوحيد؛ التوحيد الّذي هو هدف رسالة الإسلام وباقي الرّسالات الّتي كانت كلّ حركتها تتمحور حول تحقيقه. فرسول الله عندما انطلق برسالته، كان شعاره : «قولوا لا إله إلا الله تفلحوا». وقد ورد عن النبيّ موسى(ع) قوله: «يَا رَبِّ، عَلِّمْنِي شَيْئًا أَذْكُرُكَ وَأَدْعُوكَ بِهِقَالَقُلْ يَا مُوسَىلا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، قَالَكُلُّ عِبَادِكَ يَقُولُ هَذَاقَالَقُلْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُقَالَلا إِلَهَ إِلا أَنْتَ، إِنَّمَا أُرِيدُ شَيْئًا تَخُصُّنِي بِهِ.قَالَيَا مُوسَى، لَوْ أَنَّ السَّمَوَاتِ السَّبْعَ، وَعَامِرَهُنَّ غَيْرِي، وَالأَرَضِينَ السَّبْعَ فِي كِفَّةٍ، وَلا إِلَهَ إِلا اللَّهُ فِي كِفَّةٍ، مَالَتْ بِهِنَّ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ».

وهنا يجب أن نتيقّن أنّ الإقرار بالتّوحيد هذا، لا يحتاج إليه الله في شيء، فهو الغني الحميد، وهو الّذي يملك كلّ شيء، إنما الإعلان مطلوب من أجل أن نفهم حقيقة الكون، فهو منهج حياة، والأساس الّذي نقف عليه، نحن المخلوقين، لنحدّد علاقتنا بالخالق، كي نحيا حياة رشيدةً، حياة تهيّئ للحياة الحقيقيّة، يوم نلقى ربّ العباد بعد الموت، فقد ورد عن رسول الله(ص): «ليس على أهل لا إله إلا الله وحشة في الموت ولا في القبور ولا في النّشور، كأنّي أنظر إليهم عند الصّيحة ينفضون رؤوسهم، يقولون الحمد لله الّذي أذهب عنّا الحزن».

الملاذ والحصن المنيع

أيّها الأحبَّة: يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز: {قل هو الله أحد * الله الصّمد * لم يلد ولم يولد * ولم يكن له كفواً أحد}. ولم يكتف بذلك، بل شرح لنا الأسباب: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ}[الأنبياء: 22]، وفي آية أخرى: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ}[المؤمنون: 91]، فبالتَّوحيد توحَّدنا، يحكمنا ربّ واحد، ونظام واحد، وقوانين واحدة.. وحدانيَّة الله هي جوهر الحياة، وسبب النّعمة الّتي نحيا فيها..

وللمفارقة، أنَّه في واقعنا، اعتدنا أن نخشى من سيطرة الفرد الواحد، والقوَّة الواحدة، والرَّقم الأوحد، ولا سيَّما إذا كان الفرد يملك قوّةً وجبروتاً وقدرة، لهذا تشعر بأنَّ الأمر مرعب ومخيف. ولكنّ الأمر عند الله مختلف تماماً، فهو رغم قوّته الّتي قهر بها كلّ شيء، وجبروته الّذي غلب به كلّ شيء، وعزّته الّتي لا يقوم لها شيء، وعظمته الّتي ملأت كلّ شيء، فإنّ كلمة "لا إله إلا الله"، تشكّل ملاذ الخلق وحصنهم، كما قال الإمام الرّضا(ع). لماذا ؟ بكلّ بساطة لأنّ رحمته وسعت كلّ شيء..

الله عزّ وجلّ لا يتحدَّث عن وحدانيته إلا ويُقرنها برحمته ورحمانيّته وصفاته وأسمائه الحسنى: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ}[البقرة: 163]، {لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}[آل عمران: 6]، {لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَىٰ}[طه: 8]… {هُوَ اللهُ الذِي لَا إِلَهَ إِلاّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ…}[الحشر: 23].

معنى التّوحيد

أليس في هذا، أيّها الأحبَّة، دعوة لنا كي نتخلَّق بأخلاق الله؟ إنَّ مفهوم الوحدانيَّة والتفرّد عند العباد في الحكم أو السّلطة، أو في أيّ موقع أو ظرف، أو في أيّ فرصة تتاح للإنسان ليكون المتفرّد في مكانه أو زمانه، يعني أنّه الأوحد الّذي يحلّ ويربط، هو الآمر فيها والنّاهي، وأحياناً قد يكون كذلك كلّ العمر ومدى الحياة.. هنا قد تصبح الوحدانيَّة نقيض الحياة. لماذا؟ لأنَّها إذا لم تنضمّ إليها الخصال الحميدة والصّفات الحسنة والرّحمة والعطف والمحبّة والتّواضع، فإنّها تغدو أمراً خطيراً. وليس النّاس كلّهم عبيد الحقّ، وسيوف العدل… ولأنّ الموقع أو السّلطة باب من أبواب الشيطان، فقد تصبح استكباراً وطغياناً وتجبّراً إذا لم تكن تهتدي بهدي الله ورحمته.

لهذا، فإنّ التوحيد وإعلان "لا إله إلا الله"، ليس كلمة تُقال، ولا علماً يُرفع، ولا مجرّد هويّة ننتمي إليها، بقدر ما هو عقيدة تعيش في العقل، وأحاسيس تتحرّك في القلب، وسلوك يتحرّك في الواقع.

إنّ معنى التّوحيد في العقيدة، أن تؤمن بإله واحد في الذّات والصّفات والألوهيّة والربوبيّة والخالقيّة، أحد فرد صمد، هو الأوّل والآخر والظّاهر والباطن، لا شيء قبله، ولا شيء بعده.

ومعنى التّوحيد في القلب والمشاعر، أن لا يكون حبّك لأحد يوازي حبّ الله أو يعلو عليه: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللّهِ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبّاً لِّلّهِ}[البقرة: 165].

ومعنى التّوحيد في السّلوك، أن لا تعبد أحداً إلا الله، ولا تطيع أحداً إلا من خلاله، وأن لا تتحرّك أو تلتزم بقانون أو تشريع يخالف ما يريده الله..

ونحن كجماعة وأمّة، ومع كلّ شهادة "أن لا إله إلا الله" تصدح من مآذننا، نجدّد العهد لله أن لا نشرك به شيئاً، أن لا نعود إلى جاهلية ولا إلى شرك، أن نكون أمّة جديرة بحمل اسمها، أمّة "لا إله إلا الله" الّتي تعرف جيّداً ما لها وما لله، لا تتعدّاه. بعض النّاس ـ للأسف ـ تراهم يتصرّفون وكأنّهم آلهة على الأرض، يريدون أن يشاركوا ربّ العزّة في الحكم على النّاس، وفي إدخال النّاس إلى النّار أو إلى الجنّة، وفي طرد النّاس من رحمة الله، يتصرّفون كأنّهم يشاركون الله في معرفة الغيب.. أناس لا يتركون لله عمله، ويتصرّفون كأنّهم الناطق الرّسميّ باسمه، وكأنّ الله لم يهد سواهم، فيكفّرون من يخالفهم، وهم بهذا يشكّلون أزمة للحياة، ومبعث عدم استقرارها، حتى وإن كان مسلكهم هذا هو في معرض الهداية أو النيّة الحسنة.. اسمعوا ماذا يقول الله لرسوله: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَن فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ}[يونس: 99]، {لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ}[البقرة: 272].

وأخيراً، فإنّنا في كلّ لحظة نردّد فيها: "لا إله إلا الله"، في صلاة أو غير صلاة، علينا أن نجدّد النيّة على الإخلاص لله وحده، فلا ندع في العقول أو القلوب أيّ موقع لصنم أو لشخص أو هوى أو مال أو منصب أو عصبيّة نخضع لها من دون الله.

والله يدعوك، قل "لا إله إلا الله" واتخذني وكيلاً. قل "لا إله إلا الله" واتخذني حامياً ونصيراً. قل "لا إله إلا الله" واتخذني رازقاً وداعماً. قل "لا إله إلا الله" واتخذني كاشفاً للكرب والهمّ والغمّ…

وعندما تكون علاقتك هكذا مع الله، مبنيّة على "لا إله إلا أنت"، فأنت بلا شكّ مستغن عن أن تذلّ نفسك، أو ترجو من لا يرحم، أو تطلب من لئيم أو من مخلوق فانٍ لا يملك لنفسه ضرّاً أو نفعاً.

هذه مدرسة "لا إله إلا الله"، التي أراد الإمام الرّضا لمحبّيه أن يتربّوا فيها، وأن يعيشوها ويسيروا بهديها.. جعلنا الله من أولئك.

والحمد لله ربّ العالمين.

 

الخطبة الثّانية

عباد الله، أوصيكم وأوصي نفسي بتقوى الله. ومن التَّقوى الاهتداء بما ورد في هذه القصَّة، حيث ورد أنَّ شابّاً من الأنصار في زمن رسول الله(ص)، جمع مالاً كثيراً، ولما كان على فراش الموت، عاده النبيّ(ص) في جماعة من أصحابه، فقال له الشّاب: "أوصيك بأن تتصدَّق بمقدار كبير من مالي بعد وفاتي"، فاستجاب رسول الله(ص) لرغبته، وتصدَّق بعد وفاته بما أوصاه به. ولكنَّه، وبعد أن ترحّم عليه، وقدّر عطاءه وبذْلَه وإحسانه، توجَّه إلى أصحابه قائلاً: "والّذي أرسلني بالحقّ نبيّاً، لو تصدّق هذا الشابّ بتمرةٍ واحدةٍ مما تصدّق في حياته، لكان خيراً له من كلّ ما تصدّقت به عنه بعد وفاته". وفي ذلك قول أمير المؤمنين(ع): "كُن وصيّ نفسك، وافعل في مالك ما تحبّ أن يفعله فيه غيرك".

أيّها الأحبَّة، بهذه الروحيّة ينبغي أن نتحمَّل مسؤوليّاتنا، فلا نتركها ليقوم بها الآخرون من بعدنا، فقد يسوّفون ولا يقومون بها، سواء كانت واجبات عباديّة عالقة في ذمّتنا، كالصّلاة والصّيام والحجّ، أو ماليّة، كالزّكاة والكفّارات والخمس، أو مستحبّات أو صدقات، أو أعمالاً خيريَّة أو غير ذلك. فعلينا أن نكون أوصياء على أنفسنا، نقوم بما يمكننا القيام به بأيدينا وبإرادتنا.

أيّها الأحبّة، حرص رسول الله(ص) على بناء المجتمع المسؤول؛ المجتمع غير الاتّكاليّ، وبهذا المجتمع، واجه كلّ التحدّيات وحقّق الانتصارات. وبهذا المجتمع نستطيع نحن أيضاً تحقيق الانتصارات ومواجهة التحدّيات، وهي كثيرة.

"صبرا وشاتيلا": إجرام الصّهاينة

وفي هذه الأيَّام، نستعيد الذّكرى الواحدة والثّلاثين للمجزرة المروّعة الّتي حدثت في مخيّمي صبرا وشاتيلا، والَّتي أودت بحياة الآلاف من الضّحايا، ممن قُتلوا على أيدي الصّهاينة وعملائهم. ونحن نريد لهذه المجزرة أن تبقى حاضرةً في الذّاكرة، فلا تُنسى كالكثير من المجازر الّتي نفّذها العدوّ، لتبقى شاهداً حيّاً على طبيعة الكيان الصّهيونيّ الإجراميّة، وما الّذي يمكن أن يفعله لو تُرك يعبث بأرضنا ولم نملك القوّة لمواجهته.

وفي هذا المجال، لا بدَّ من تقدير جهود كلّ الّذين يعملون على متابعة تداعيات هذه المجزرة الفظيعة، إعلاميّاً وسياسيّاً، وفي المحافل الدّوليّة، ولدى المنظّمات الحقوقيّة، للمطالبة بمعاقبة المجرمين، وإبراز الوجه البشع لهذا الكيان، كي لا تضيع هذه الدّماء ولا تتكرَّر المأساة.

العدوّ يستبيح الأقصى

وفي موقعٍ آخر، وفي القدس بالتَّحديد، يتابع العدوّ الصهيونيّ ممارساته العدوانيَّة بحقّ المسجد الأقصى، وليس آخرها ما قامت به قوّاته من اقتحام المسجد والانتشار في ساحاته بعد منع المسلمين من الدّخول إليه، بهدف السّماح للمستوطنين الصّهاينة بممارسة طقوسهم في ما يسمّى عند اليهود بـ"عيد العرش".

وكان قد سبق ذلك دعوات من داخل الكنيست الصّهيوني إلى تقسيم الحرم القدسي بين اليهود والمسلمين، كما حصل في اتّفاق الحرم الإبراهيمي، تمهيداً للسَّيطرة عليه.

ومع الأسف، يأتي هذا الحدث وغيره في ظلِّ صمتٍ عربيٍّ وإسلاميٍّ مطبقٍ حيال المسألة الفلسطينيّة بشكلٍ عام، وحيال الأقصى والقدس الشّريف بشكل خاصّ، فلم تعد هذه القضيّة تحرّك أيَّ ساكنٍ في العالم العربي والإسلامي، فضلاً عن باقي أنحاء العالم.

ومن هنا، فإنّنا ندعو الفلسطينيّين إلى الخروج من حالة الانقسام الّتي يعيشونها، وتوحيد جهودهم، وقطع الطَّريق على العابثين داخل السّاحة الفلسطينيّة والمصطادين في الماء العكِر، لمواجهة مخطَّطات العدوّ الصّهيوني معاً، فهذا العدوّ لن يألو جهداً للاستفادة من مرحلة انشغال العرب والمسلمين بالفتن الّتي تجري في مختلف ساحاتهم، للإجهاز على القضيَّة الفلسطينيّة…

كما أنّنا نعيد التّأكيد على الشّعوب العربيّة والإسلاميّة وقياداتها، بضرورة إبقاء بوصلتها باتجاه هذا العدوّ، وعدم السّماح له بتمرير مخطّطاته في المسجد الأقصى وفي فلسطين، وعدم نقل البندقيّة من مواجهة هذا الكيان إلى السّاحات الداخليّة وإلى بعضهم البعض، حتّى لا يرتاح العدوّ ويعيش بأمانٍ ويزداد قوَّة.

مفاوضات بلا جدوى

وفي هذا الإطار، لا بدَّ لنا من أن نعيد السّؤال الّذي كرَّرناه أكثر من مرّة للمفاوض الفلسطيني: ما جدوى استمرار كلّ المفاوضات مع العدوّ بعدما سيطر على 45 في المئة من مساحات الضفّة الغربيّة، من خلال حركة الاستيطان الّتي لم تتوقّف ولن تتوقّف؟ فأيّة دولة فلسطينيّة ينتظرها المفاوض؟ وأيّ كيان فلسطيني مستقلّ ينشد في ظلّ هذه السّيطرة المباشرة على القدس والأقصى، ثم على الضفّة بأجزائها الكبرى وعلى المعابر، وفي ظلِّ استمرار سياسة الاعتقال والإعدام، كما حصل مع أحد النّشطاء الفلسطينيّين في مخيّم جنين، وعلى مرأى من أهله وأخوته، وأيضاً في ظلّ الواقع العربي المترهّل والتّأييد غير المحدود للكيان الصّهيونيّ؟

ونحن في الوقت الّذي نشعر بمعاناة الفلسطينيّين في الدّاخل الفلسطيني وخارج حدود وطنهم، وفي المخيّمات الفلسطينيّة تحديداً، ندعو إلى تنظيم العلاقات بين الشّعبين اللّبناني والفلسطيني وترتيبها، وإعادة الثّقة الّتي نخشى من أن تكون قد اهتزَّت بفعل ما حصل أخيراً من إشكالات، ولا سيَّما أنَّ هناك من يعمل لتوتير الأجواء في هذه السّاحة وإثارة الحساسيّات، بما ينمّي مشاعر التفرقة والانقسام، خدمةً لأهداف القوى المعادية لفلسطين وشعبها.

مصير سوريا رهين الصّراعات

وليس بعيداً من فلسطين، فإنَّ النّزف يبقى مستمرّاً في الدّاخل السّوريّ، وسط الحديث المتزايد عن استقدام سلاح ومسلّحين، في الوقت الّذي بات مصير هذا البلد رهين صراع الدّول الكبرى وتفاهماتها. وهي، بالطّبع، لن تأخذ بعين الاعتبار مصالح الشَّعب السّوريّ، بل ستكتفي بتدمير الأسلحة الكيميائيَّة حمايةً للكيان الصّهيونيّ، لينتقل بعدها الحديث إلى الملفّ النّوويّ الإيراني، بينما لا نسمع أيَّ حديث جدّيّ عن الترسانة الكيماويّة والنّوويّة الصّهيونيّة.

ومن هنا، نعيد التّأكيد على الشعب السوريّ، أن يعي ما يريد هذا العالم منه، ليكون ذلك دافعاً له للوصول إلى صيغة للحلّ، تمنع هذا النّزف، وتعيد إلى هذا البلد دوره الرّياديّ.

العراق: ترحيب بوثيقة الشّرف

ونحن أمام هذا المشهد، وفي الوقت الّذي ندين كلّ مظاهر الإجرام الّتي تزيد الواقع العربي والإسلامي انقساماً، كما هو الحال في العراق، حيث تتواصل العمليّات التفجيريّة فيه، وكما هو الحال في مصر، حيث الانقسامات الدّاخليّة واضحة، إنّنا أمام هذا المشهد، نرحِّب بتوقيع المسؤولين العراقيّين على وثيقة الشّرف وصيغة التّفاهم بين مكوّنات الشّعب العراقي، لدرء الفتنة المذهبيَّة والطائفيَّة، وتعزيز مناخات التوافق الدّاخلي، كما نرحّب بالسّعي لإعادة الحرارة إلى العلاقات بين الجمهوريّة الإسلاميّة في إيران والمملكة العربيّة السّعوديّة، بالنّظر إلى أهميّة ذلك، ليس على مستوى العلاقة بين هاتين الدَّولتين فحسب، بل على مستوى الواقع الإسلاميّ كلّه، وعلى صعيد مسيرة الوحدة بين المسلمين، وحلّ الكثير من المشكلات الّتي تعصف بالواقع الإسلاميّ، والوقوف معاً في مواجهة التحدّيات الّتي تواجههم.

البحرين: إجراءات تضرُّ بالحوار

أمَّا في البحرين، فقد كنَّا ننتظر من السّلطات هناك المزيد من العمل من أجل تهيئة مناخات الحوار والتَّمهيد لصياغة الحلول، ولا سيَّما بعد استعداد الجهات المعارضة لذلك، ومن ثم إعادة الأمور إلى نصابها، بدلاً من السَّعي لاعتقال القيادات الوسطيَّة، كما حصل مؤخّراً باعتقال القيادي في جمعيّة الوفاق البحرينيّة خليل مرزوق، وكما يظهر من توجّهاتٍ لحلّ المجلس الإسلامي العلمائي والتّضييق على دوره.

إنّنا نجدّد الدّعوة للسّلطات في البحرين، أن تعيد النّظر في هذه الإجراءات الّتي تضرّ بالبحرين وبصورتها، ليبقى هذا البلد عنواناً للتَّعايش والتَّلاقي والحوار.

لبنان: فرصة لتأليف الحكومة

أمَّا في لبنان، فإنَّنا نرى في بعض ما صدر من ترحيب بإعادة إطلاق ورشة الحوار الدّاخليّ على أساس المبادرات الأخيرة من رئيس المجلس النيابي وغيره، فرصةً سانحةً لترتيب البيت اللّبناني الدّاخلي في لحظة إقليميَّة عاصفة، وندعو إلى تلقّف هذه الفرصة لتبريد الجوّ الدّاخلي، وتعزيز الأمل بولادة حكومة جديدة تفتح الأبواب على حلول سياسيّة واقتصاديّة واجتماعيّة راسخة، ولا سيَّما بعد فشل الرّهانات الّتي بنيت على ما يجري من تطوّرات في المحيط، وبعدما تبيَّن للجميع أنَّ الدّول الكبرى لا تفكّر إلا في مصالحها، وعلينا دائماً أن نقلّع أشواكنا بأظافرنا.

ومن هنا، نعيد التّشديد على المسؤولين بأن يفكّروا جيّداً بإنسان هذا البلد ومعاناته والهاجس اليوميّ الّذي يعيشه، ولا سيّما أنَّ الخوف يتزايد لديه على أمنه ومعيشته ومستقبله ومستقبل أولاده.

 أيّها المسؤولون، اخرجوا من بروجكم العالية، وانزلوا إلى معاناة هذا الإنسان، لعلَّ ذلك يرقّق قلوبكم، ويجعلكم أكثر رحمة ومسؤوليّة تجاه قضاياه، ولإزالة خوفه المتزايد. نحن نعرف أنّكم ربما لا تستطيعون أن تعالجوا كلّ القضايا، ولكنّكم تستطيعون حلّ الكثير منها، مما يهمّ المواطن ويوفّر له سبل العيش الكريم.

 

 

Leave A Reply