معركةُ أحد: امتحانُ المسلمين الصّعبُ

العلامة السيد علي فضل الله Sayyed Ali fadlullah

بسم الله الرّحمن الرّحيم

الخطبة الدينية

قال الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز: {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ الله وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُم بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُم مِّن بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنكُمْ وَالله ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ}[آل عمران:152].

قريش تُعِدُّ للثّأر

في الخامس عشر من شهر شوّال من السنة الثالثة للهجرة، كانت معركة أحد؛ هذه المعركة ابتدأتها قريش لتثأر لهزيمتها النّكراء في معركة بدر الّتي كانت حصلت قبل سنة من تاريخه، لتردّ الاعتبار إلى صورتها التي اهتزَّت في الجزيرة العربيَّة.

وقد أعدّت قريش لهذه المعركة كلّ ما يؤمّن لها الانتصار من العدّة والعديد: فقد جهّزت لذلك ثلاثة آلاف مقاتل، إضافةً إلى النّساء والأطفال الّذين جيء بهم إلى أرض المعركة لتحفيز المقاتلين على الاستمرار بالقتال وعدم الفرار من أرض المعركة.

وصل خبر خروج قريش إلى رسول الله (ص)، فأعدّ العدّة لمواجهتها، وكان آنذاك بالخيار بين أن يقاتل من داخل المدينة ويشارك في هذا القتال كلّ أهلها، أو أن يقاتل خارجها، فاستشار رسول الله (ص) في ذلك أصحابه، جرياً على عادته في مواجهة كلّ حدث، فما كان رسول الله ليدخل في أمر إلّا بعد استشارة أصحابه فيه، وبنتيجة المشاورة، أخذ برأي الأغلبيّة ممن رأوا الخروج لملاقاة جيش قريش قبل وصوله إلى المدينة.

وبالفعل، التقى المسلمون بجيش المشركين عند جبل أُحُد على تخوم المدينة المنوّرة، وكان عددهم لا يزيد عن سبعمائة مقاتل، وقد اعتمد رسول الله في خطّته للمواجهة، على جعل ظهر جيشه إلى جبل أحد، ليكون مانعاً طبيعيّاً وحامياً يحفظ الجيش من الخلف، فيما بقيت ثغرة طبيعيّة كان رسول الله (ص) يخشى أن يتسلّل منها العدوّ وأن يباغتهم من ورائهم، فعمل على سدّها بوضع خمسين من الرّماة الماهرين، مع قائد لهم هو عبدالله بن جبير، على جبل سمّي لاحقاً بجبل الرّماة، وأوصاهم وشدَّد عليهم آنذاك: “انضحوا الخيل عنّا بالنّبل، لا يأتونا من خلفنا!! إن كانت الدّائرة لنا أو علينا”.

هزيمةٌ بعد انتصار

وبدأت المعركة، ولم يمض وقت طويل، حتى هُزمت قريش، ووضعت أسلحتها، وفرَّت من أرض المعركة مخلّفةً وراءها الغنائم الكثيرة.

وفي لحظةٍ غير متوقّعة من عمر الزَّمن، صاح أحد الرّماة الخمسين: “الغنيمة الغنيمة قبل أن يأخذها غيركم!”، فترك أربعون ممن كانوا معه مواقعهم، ولم يبق سوى عشرة من الرّماة لسدّ هذه الثّغرة مع قائدهم عبد الله بن جبير.

في هذا الوقت، كان خالد بن الوليد، وكان أحد قادة جيش المشركين، متربِّصاً بهذه الثّغرة وعينه عليها، ما شكّل فرصة دفعته للهجوم على الثّغرة، وقتل قائد الرّماة عبد الله بن جبير والرّماة القلّة العشرة الذين بقوا معه، وسمح له ذلك بأن يباغت جيش المسلمين، فتفرّقت جموعهم وفرّ الكثيرون منهم، فاستشهد حينها سبعون صحابياً، ومنهم صاحب لواء رسول الله (ص) مصعب بن عمير وحمزة عم النبيّ (ص) وجرح مثلهم، فيما كسرت رباعية رسول الله (ص) وشجَّ رأسه، ولولا القلّة التي ثبتت مع رسول الله (ص)، لتحوَّلت هذه المعركة إلى هزيمة نكراء للمسلمين.

وكان عليّ (ع) هو من أبرز أولئك القلة الّذين قاتلوا مع رسول الله (ص) حتى انكسر سيفه، فأعطاه يومها رسول الله (ص) سيفه “ذو الفقار”، فما زال يدافع به عن رسول الله (ص)، حتى نزل جبريل قائلاً عنه وعن سيفه: “لا فتى إلّا عليّ، ولا سيف إلّا ذو الفقار”.

وممن ثبتوا، أبو دُجانة الّذي بلغ في حرصه على حياة رسول الله (ص) أن جعل من نفسه ترساً يقي النبيّ (ص) من سيوف الكفّار ورماحهم وأحجارهم.

وقد جاء أنّ رسول الله (ص) قال له يوم أُحُد بعد أن فرّ وانهزم معظم أصحابه: “يا أبا دجانة، أما ترى قومك؟ الحق بقومك، وأنت في حلّ من بيعتي.. فبكى..

وقال: لا والله، لا جعلت نفسي في حلّ من بيعتي؛ فإلى من أنصرف يا رسول الله؟ إلى زوجة تموت، أو ولد يموت، أو دار تخرب ومال يفنى وأجل قد اقترب؟!

وبقي يقاتل دون رسول الله (ص) حتى أثخنته الجراح، فلمّا سقط، احتمله عليّ (ع)، فجاء إلى النبيّ فوضعه عنده فقال: يا رسول الله، أوفيت ببيعتي؟! قال: نعم.

ومن هؤلاء الذين ثبتوا، أنس بن النضر الّذي عندما سمع من يقول: إنّ محمداً قد قتل، فارجعوا إلى قومكم قبل أن يأتوكم، راح ينادي برفيع صوته: يا قوم، إن كان محمد قد قتل، فقاتلوا على ما قاتل عليه رسول الله (ص)، وموتوا على ما مات عليه. ثم قال: اللّهمّ إني أعتذر إليك مما جاء به هؤلاء.. ثم شدّ بسيفه حتى استشهد.

وكان للمرأة نصيبها في الجهاد في الدفاع عن رسول الله (ص)، ومن النساء، أمّ عمارة نسيبة بنت كعب الأنصارية، التي كان رسول الله (ص) إذا تحدَّث عن يوم أُحُد يذكرها فيقول: “ما التفتّ يميناً ولا شمالاً يوم أحد إلّا رأيتها تقاتل دوني”.

امتحانٌ ودروسٌ

لقد شكّلت معركة أحد امتحاناً قاسياً للمسلمين، ولكنّهم تعلّموا دروساً في ضرورة الثبات والصبر، وأنه لا يكفي أن يكونوا على حقّ، وأن من يواجههم على باطل حتى يتحقّق لهم النصر، بل لا بدّ بالأخذ بشروط النّصر وأسبابه، وقد أشارت معركة أُحُد إلى أنّ أهمّ شرط، هو أن لا يدخل مجدَّداً إلى قلوبهم حبّ الدنيا وكراهية الموت في سبيل الله.

لقد عانى المسلمون عندما تغلغل في نفوس البعض حبّ المال وحبّ الدنيا، وهو ما كان حذّر منه رسول الله (ص) عندما قال: “أَخْشَى أن تُبْسَطَ الدُّنْيا عليكُمْ كما بُسِطَتْ على مَنْ كَانَ قبلَكُم فَتَنافَسُوها.. إنّ الدّينار والدّرهم أهلكا من كان قبلكم، وهما مهلكاكم.. ما أخشى عليكم الفقر، وإنما أخشى عليكم الدّنيا أن تُبسط عليكم”. إنّه ليس لأنفسكم ثمن إلّا الجنّة، فلا تبيعوها إلّا بها”.

لقد وعى المسلمون دروس معركة أُحُد، ولذلك تلاحقت انتصاراتهم بعد ذلك في الأحزاب وخيبر والنّصر المؤزّر في فتح مكّة.

ونحن اليوم نسأل الله سبحانه أن ينزع عنا كما نزع عن هؤلاء حبّ الدنيا، وأن يكون لسان حالنا: إن لم يكن بك غضب علينا، فلا نبالي إن وقعنا على الموت أو وقع الموت علينا، وأن نكون ممن يستحقّون وعده بالنّصر والتّأييد، إنّه أرحم الراحمين.

الخطبة السياسية

عباد الله، أوصيكم وأوصي نفسي بأن نستعيد في هذه الأيّام ما جرى للمسلمين بعد معركة أُحد، حيث تذكر السّيرة، أنَّ أبا سفيان، وبعدما غادر أُحد عائداً إلى مكَّة منتشياً بنصره وبالثّأر من رسول الله (ص) وأصحابه، ندم على تسرّعه، وقرَّر أن يعود إلى المدينة للانقضاض على المسلمين فيها، مستفيداً من ضعف معنويّاتهم والجراحات التي ألمّت بهم.

يومها، عرف رسول الله (ص) والمسلمون بقرار أبي سفيان، فخرجوا جميعاً لملاقاته والتصدّي لجيشه، وحتى الجرحى خرجوا متثاقلين على جراحهم، فلمّا علم أبو سفيان بعزيمة المسلمين وتصميمهم على نصرة دينهم، وأنّ ما حصل في أُحُد لم يفتّ في عضدهم، قرَّر العدول عن رأيه والمضيّ عائداً إلى مكّة.

وقد سجَّل القرآن الكريم هذا العنفوان الَّذي كان المسلمون عليه، فقال: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ}.

إنّنا أحوج ما نكون إلى أن نستهدي هذه الآية، بأن نردّد عند كلّ تحدّ: “حسبنا الله ونعم الوكيل”، لنحظى بنعمةٍ منه وفضلٍ لا يمسّنا سوء، وبذلك نكون أقوى وأقدر على مواجهة التحدّيات.

لبنان: التّصعيد مستمرّ!

والبداية من لبنان، حيث كنا ننتظر مع كل اللبنانيين أن يساهم ما صدر عن المجلس النيابي في تحريك ملفّ تأليف الحكومة اللّبنانيّة، وأن يكون ما صدر تعبيراً عن آمال هذا الشّعب الذي من الواضح أنّه لم يعد قادراً على تحمّل المزيد من المعاناة والإذلال والقهر الّذي بات خبزه اليوميّ، إن على صعيد تأمين الدّواء والغذاء أو الكهرباء أو المحروقات، أو عدم قدرته على تحمّل الارتفاع المتزايد لأسعار السِّلع والخدمات.

ورغم ما يشاع من أجواء إيجابيّة من ذلك، لا يزال التصعيد سيّد الموقف، حيث بات من الصعب الحديث عن تأليف الحكومة في القريب العاجل، وما على اللّبنانيين إلا الانتظار، وقد يكون طويلاً.

إننا أمام ذلك، نناشد اللّبنانيّين، ونقول لهم القرار بأيديكم، ولا وسيلة لكم للخروج من هذا الانهيار الذي دخل البلد فيه، إذا لم يشعر من هم في مواقع المسؤوليّة بأنكم غير راضين عن البقاء على حال المراوحة في تأليف الحكومة، أو أن تبقى أسيرة الصراعات والمناكفات والمصالح الخاصّة أو الفئويّة.

لقد راهنوا ولا يزالون يراهنون على استنفار غرائزكم الطائفية والمذهبية، وعلى إقناعكم بأنّ ما يفعلونه وما يرتكبونه هو لحسابكم ولحساب طوائفكم ومذاهبكم، فيما هم يعملون لحساب تثبيت مواقعهم، فلا تدعوهم يستمرّون في هذه اللّعبة، وأشعروهم بأنهم بما يقومون به، يخربون هذا الوطن ومستقبله بكلّ طوائفه ومذاهبه ومواقعه السياسية.

بهذا وحده تستطيعون أن تخرجوا من هذا الواقع، وإلّا ستبقون في حال المراوحة وانتظار مبادرات الدّاخل والخارج، وهي لن تأتي، ودونها عقبات باتت واضحة.

إنّنا بذلك لا ندعو إلى فوضى أو حراك غير مسؤول، بقدر ما ندعو إلى أن ترتفع أصواتكم، ولتقولوا بلسان واحد لكلّ من يعطّلون الحكومة، كفى تلاعباً بمصير هذا البلد وناسه، عبّروا عن ذلك بإبداء سخطكم وغضبكم وأقلامكم وبمواقفكم.. وأنتم قادرون على تغيير هذا الواقع إن شعر هؤلاء بأنهم أمام شعب أخذ قراره ولن يتراجع.

وسنبقى في الوقت نفسه نراهن على صحوة ضمير من هم في مواقع المسؤوليّة، في أن يعيدوا النظر في حساباتهم، وأن ينظروا ولو لمرة واحدة إلى المصير الذي سيؤول إليه هذا البلد إن استمرّ الواقع على هذا الحال، كما نراهن على الذين كانوا دوماً صمّام أمان، ولم يوفّروا جهداً لرأب الصّدع وحلحلة العقد.

تحدّيات وتداعيات

وفي مجال آخر، نحذّر من الخطاب الذي يعيد استحضار ما جرى في الحرب الأهليّة الّتي نريد لصفحتها أن تطوى، في وقت نحن أحوج ما نكون إلى التراصّ والوحدة لمواجهة تحدّيات الداخل والخارج.

وفي الوقت نفسه، ننبّه إلى التداعيات التي تنتج من الاستمرار في تفاقم الوضع الاقتصاديّ والمعيشيّ على أمن المجتمع وسلامته، حيث بدأنا نشهد زيادةً في منسوب السرقات والجرائم والمشاكل، ما يدعو الجميع إلى العمل لمعالجة هذه الأوضاع، والحدّ من تداعياتها السلبيّة والخطيرة.

الشّعبُ السوريُّ يختار

وبالانتقال إلى سوريا، فإنّنا نأمل أن تؤدّي الانتخابات الرئاسيّة الأخيرة في هذا البلد، إلى فتح صفحة جديدة تساهم في تعزيز الاستقرار والوحدة، وإلى عودة سوريا للعب دورها الريادي على المستوى العربي والإسلامي، وعلى العالم أن يعي أن لا خيار له إلّا احترام إرادة الشّعب السوري.

العدوُّ يلتفُّ على الانتصار

ونصل إلى فلسطين، بعد أن مرّ أسبوع على توقف الهجمة العدوانية الصهيونية على الحجر والبشر فيها، وخصوصاً في قطاع غزّة، فبعدما عجز العدوّ عن تحقيق انتصار مباشر على الفلسطينيّين، أخذ يسعى جاهداً للالتفاف عليهم، ومنع الشعب الفلسطيني من استثمار إنجازه بالضّغط والتهويل والاعتقال، واستمرار محاولات تدنيسه للمسجد الأقصى، وسعيه المستمرّ لتهجير المقدسيّين، للإيحاء بأنّ زمام الأمور لا يزال بيده، وأنّ شروطه لا تزال هي السّارية المفعول.

إننا نثق بأنّ هذا الشعب الذي هبّ هبّة واحدة، وتوحّد وجدانياً وميدانياً، لن يفسح في المجال مجدّداً لمحاولات تمزيقه وتفتيته وإجهاض ما تحقّق من إنجازات.

وعلينا جميعاً كشعوب عربية وإسلامية، أن نواكب هذا الشّعب، وأن تتضافر جهودنا في مساعدته ومدّه بكلّ وسائل الصّمود، حتى يحقّق أهدافه وغاياته، ويصون حقوقه، ويحمي قضيّته، ويستعيد أرضه.