مواجهة التحدّيات بالصّبر والثّبات

ألقى سماحة العلامة السيّد علي فضل الله، خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عددٍ من الشخصيّات العلمائيّة والسياسيّة والاجتماعيّة، وحشدٍ من المؤمنين، ومما جاء في خطبته السياسية:

 

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}[آل عمران: 200].

نعم، في زمن الفتن، يظلّ الاعتصام بحبل الله القويّ المتين هو الحصن، والسّلاح، والردّ.

الآن، وفي هذا الزّمن الصّعب، هذا الزّمن الرديء، يتبيّن الرّشد من الغيّ، ويتبيّن المؤمن الحقّ من غيره.

لقد حدّثنا رسول الله عن هذا الزّمن، وهو الّذي عانى الكثير الكثير ليرسي كلمة الحقّ والموقف الحقّ، إذ قال: "يأتي زمانٌ على أمّتي، القابض على دينه كالقابض على الجمر".

إنّها حكاية بدأت منذ بدء الخليقة، وستستمرّ إلى يوم الحقّ؛ حكاية الصّراع وحكاية الثّبات؛ ثبات المؤمنين الصّابرين الّذين يقرّرون أن يصبروا ويصابروا ويرابطوا، ويظلّوا ثابتين على إيمانهم. إنها حكاية أصحاب الأخدود الّتي تتكرّر في كلّ زمان ومكان، كلّما واجه الحقّ باطلاً.

أصحاب الأخدود

أصحاب الأخدود ضربوا المثل الأعلى في ثبات النّفس والإرادة والكلمة، وحكاية أصحاب الأخدود وإن كانت ظروفها مختلفة، لكنّ المغزى هو هو.

وملخّص الحكاية الّتي من المفيد اليوم أن نعود إليها ونستعيدها، أنّ الملك "ذو نواس"، آخر ملوك قبيلة حِمْير في اليمن، وهو ما اتّفقت عليه روايات عديدة، اعتنق اليهوديّة، وراح يفرضها فرضاً حتّى صارت القبيلة كلّها على اليهوديّة. وأُخبر ذو نواس أنّ بنجران قوماً ما زالوا على دين عيسى بن مريم، ويعملون بأحكام الإنجيل ـ وقد كان دين تلك المرحلة  قبل الإسلام ـ فسار إلى المدينة، وجمع من كان فيها على دين المسيحيّة، وعرض عليهم التخلّي عن دينهم والدّخول في اليهوديّة، فأبوا، وثبتوا على إيمانهم، رغم التّهديد والوعيد، فما كان من الملك إلاّ أن حفر أخدوداً، أي خندقاً، مُلئ حطباً، وأُشعلت فيه النّار، وصار يُؤتى بالرّجل أو المرأة، ويُخيّر بين رمْيِهِ في النّار أو التّراجع عن دينه. وقد ذكرت الرّوايات الكثير من وقائع التّضحية، ومنها أنّ امرأة ومعها صبيّ لها، تقاعست أن ترمي نفسها عندما لفحها وهج النّار، فتراجعت، فناداها ولدها: يا أمّاه اصبري، فإنّنا على حقّ، فرمت نفسها وولدها معاً في النّار. وفيها نزلت الآيات: {قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ * النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ * إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ * وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ * وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلاَّ أَن يُؤْمِنُوا بِاللهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ}[البروج: 4- 8].

 

 مواجهة السّلاح بالموقف

أيّها الأحبّة: قصّة هذه الفئة من القصص الّتي يوردها القرآن الكريم لغايات تربويّة، كغيرها من القصص القرآنيّة، فأصحاب الأخدود فئة ضعيفة بمقاييس القوة الظاهريّة وبمقاييس النّاس، لكنّها ليست كذلك في مقاييس القوى الّتي تحرّك التّاريخ وتغيّر مسارات الأحداث.

هذه الفئة الضّعيفة ظاهريّاً، قرّرت التمرّد على ضعفها وذلّها وخوفها، وأخذت القرار أن تواجه السّلاح بالموقف، والنّار بالإيمان، والطّغيان بعدم الخضوع له والنزول عند إرادته.

والصّراع بين الحقّ والباطل، أيّها الأحبَّة، ليس حالة طارئة في حياة البشريَّة، هو موجود منذ أن وجد الإنسان، ومنذ أن وجد الخير والشّرّ، ورحى هذه المعركة مستمرّة في الدّوران، فثمَّة معسكران في كلّ مرحلة؛ الأوَّل طواغيت وفراعنة وجبابرة ومستكبرون يظنّون أنَّ الحياة خُلقت من أجلهم ومن أجل أذنابهم ممن يسبِّحون بحمدهم أو ينفّذون خططهم لقاء فتات موائدهم، والمعسكر الثّاني معسكر الحقّ والعدل والحريّة ورفض الظّلم والطّغيان، وقادته الأنبياء والرّسل ومن اتّبعوهم بإحسان ممن هم على استعداد للتّضحية بالغالي والنّفيس لأجل تثبيت ما آمنوا به.

ومن الطبيعيّ أن يسعى الأنبياء لمواجهة منطق الجبابرة والمستكبرين والطّغاة لتثبيت منطقهم، وهذا ما يحتاج إلى تقديم التّضحيات وتحمّل الأعباء.

عن الخبّاب بن الأرث قال: شكونا إلى رسول الله(ص) وهو متوسّد بردةً له في ظلّ الكعبة. قلنا له: ألا تستنصر لنا، ألا تدعو الله لنا؟ قال: "كان الرَّجل فيمن قبلكم يُحفر له في الأرض، فيُجعل فيه، فيُجاء بالمنشار فيُوضع على رأسه، فيُشقّ باثنتين، وما يصدّه ذلك عن دينه، ويُمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه من عظم أو عصب، وما يَصدّه عن دينه. والله ليُتمنَّ هذا الأمر حتّى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلاّ الله أو الذّئب على غنمه، ولكنّكم تستعجلون".

خلق الثّبات

أيّها الأحبَّة: لقد قصّ القرآن الكثير من وقائع هذا الثّبات والتمسّك بالإيمان، ولعلَّ النّمرود ـ الّذي وقف في مواجهة دعوة النبيّ إبراهيم(ع) وحكم عليه بالحرق بالنَّار ـ  ليس أوّل نيرون في التّاريخ سعى لإسكات صوت الحقّ، ولن يكون آخره، فهناك أكثر من نيرون أتى بعد ذلك، وهو موجود الآن، وسيأتي في المستقبل..

لقد كان لسلاح الثّبات على المبدأ، والصّبر على تحمّل تبعات الموقف، الدّور الحاسم في استمرار مسيرة الإيمان، الّتي كان يتسلّم رايتها نبيّ لاحق من نبيّ سابق.

من هنا سرّ تركيز القرآن على خُلُق الثّبات في صناعة شخصيّة المؤمن. فهذا الثّبات كان الكيمياء السحريّة الّتي أنتجت شخصيّات لا تهزّها مغريات الدّنيا ولا أسلحة الطّواغيت في مسيرة الإسلام، أمثال عائلة ياسر، وبلال، وأبي ذرّ، ومالك الأشتر، والمقداد، وغيرهم الكثير، مثل هؤلاء الكثير ممن استجابوا لله حين ناداهم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}[آل عمران: 200].

{وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِين * إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ *وَلِيُمَحِّصَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ *أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ}[آل عمران: 139- 142].

إنَّ التربية الإلهيَّة للأنبياء على الثّبات، ومواجهة أيّ تهديد لضرب الرّسالة، تنطلق من إعداد نفسيّ متين للمؤمنين: {وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ }[آل عمران: 146].

 

 المؤمن لا يهزم

ونعود إلى أصحاب الأخدود لنسأل: من أين استمدَّ هؤلاء القدرة على الصّمود، وكيف استطاعوا مواجهة أسواط القهر، ورعب التَّهديد بالحرق؟!

كان الدِّين ـ أيُّها الأحبَّة ـ يتوجَّه دائماً إلى تحرير الإرادة من أزمة الارتهان لخوف أو رغبة أو مصلحة أو ضعف أو قهر، كانت الإرادة تُوجَّه دائماً إلى نقطة رجاء واحدة: الله الواحد الأحد.    {لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا}، {كَلاَّ إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ}، {وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ}…

كان الدّين ولا يزال يكرِّس عند المؤمن حقيقة غير قابلة للتّغيير أو التّمييع: المؤمن المؤمن، والمؤمن الموقن بالله، لا يُهزم مهما كانت نتائج المواجهة أو المعركة، فالثّبات على الحقّ والدّفاع عن الموقف، والصّمود في وجه أيّ باطل، هو بحدّ ذاته تأسيس لنصر…

إرهاصات هذا النّصر تتراكم يوماً بعد يوم، وما لا أنجزه أنا وأنت، سينجزه آخرون غداً وبعد غد، المهمّ أن تستمرّ المسيرة.

الدّين يكرّس عند المؤمن أنَّ بلوغ الجنّة بالثّبات: { إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ}[فصّلت: 30]. {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ}[البقرة: 214].

إرادة التَّاريخ

أصحاب الأخدود، هذه الفئة سيقت لتُعرض على خندق طويل عريض من النّار، سجّرها ملِك ظنّ أنّه ينفّذ خدمةً لله، خدمةً لدينه، إذا استطاع إجبار هذه الفئة على ترك دينها، لكنّها أبت أن ترضخ لإرادة جبّار عاتٍ.

هنا الأمور لا تخضع لمعايير ومعادلات وحسابات معسكر الشّرك والكفر والمصالح والنّفاق والتجارة مع الشّيطان. ببساطة، كانت هذه الفئة على استعداد لأن تبيع حياتها ولا تتنازل عن معتقداتها ودينها، وهذا لم يكن  تعصّباً.

أين التعصّب في شخص يرفض أن يبيع إيمانه، أن يتراجع عنه أو أن يستبدله رغبةً أو رهبة. ذو نواس كان يخدم نفسه وعرشه ومصالحه بمحاولة فرض دينه على ناس ضعفاء. هذه الفئة لم تنتصر نصراً مادّياً، لم تحقّق أيّ نصر ظاهريّ، بل دفعت حياتها ثمناً لثباتها على الإيمان، وقُتل أفرادها صبراً واحتساباً، فهل ضاع دم هؤلاء هدراً؟ لم يضع دمهم، إذ جاء بعدهم من حوّل هذه الآلام إلى نصر.

 هذه الفئة صبرت وثبتت، فكانت جديرةً بأن تصبح علماً من أعلام مسيرة الهداية الإلهيّة، وأنشودةً لكلّ الصّابرين الثّابتين، ومثلاً يُقتدى بهم.

مثل هؤلاء تتغيَّر وجوههم وأسماؤهم، لكنّ حقيقتهم ثابتة لا تتغيّر، تبقى على امتداد المسيرة، هم مؤمنون رساليّون، ويمثّلون إرادة التّاريخ القائم على رسالات الأنبياء.

نعم، هؤلاء يصنعون تاريخهم، فهم كما وصفهم الإمام عليّ(ع): "عظم الخالق في أعينهم، فتصاغر الطّغاة أمامهم"، لهذا لم يعد للخوف مكان في قلوبهم، ولا للتردّد مجال إلى إراداتهم.

كم نحن بحاجة إلى هذا الثّبات، نربّي عليه أنفسنا، وندعو إليه غيرنا، لنواجه به التحدّيات؛ تحدّيات الانحراف والطّغيان والظّلم، كي لا تهتزّ الأقدام وتتزلزل المواقف وتضعف النّفوس. حيث بات القابض على دينه وعلى مبادئه وعلى مقاومته وعلى كرامته كالقابض على جمر ويسير عكس التيّار، ولا بدّ من أن يعاني.

وليكن دعائنا: اللّهمّ ثبّتنا على دينك ما أحييتنا، كما ثبّتّ المجاهدين في سبيلك من قبلنا، ولا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا، كما هديت المؤمنين بك منذ بدء الخليقة، وهب لنا من لدنك رحمة، بما أنت رحمة للعالمين، إنّك أنت الوهّاب.

ربّنا وأفرغ علينا صبراً وثبّت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين.

بسم الله الرّحمن الرّحيم

الخطبة الثّانية

عباد الله، أوصيكم وأوصي نفسي بتقوى الله، هذه التَّقوى الّتي تدعونا إلى أن لا نسقط، وأن لا نضعف، ولا ننهزم، ولا نتراجع أمام التّحدّيات الَّتي تواجهنا، والبلاءات الّتي تصيبنا، بل أن نزداد صلابةً وقوّةً، ونقول ما علّمنا الله إيّاه: {الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ}[البقرة:156]، وأن نردِّد ما قاله رسول الله(ص) عندما كانت الدّماء تسيل من رأسه وقدميه، وهو يدعو الله في الطّائف: "إلهي إن لم يكن بك غضبٌ عليّ فلا أبالي". وأن نقول ما قاله الإمام الحسين(ع) في كربلاء ودماء ولده الرّضيع تجري بين يديه، بعدما أصابه سهمٌ من الأعداء: "هوّن ما نزل بي أنّه بعين الله".

ولنلتفت بعدها إلى حديثه الَّذي وجّهه إلى كلّ هؤلاء الَّذين اعتقدوا أنّهم بهذه الآلام والجراح سيسقطون عنفوانه ويهزمون إرادته، عندما قال: "والله، لا أعطيكم بيدي إعطاء الذّليل، ولا أقرّ لكم إقرار العبيد… يأبى الله لنا ذلك ورسوله والمؤمنون… هيهات منَّا الذلّة".

هذه الرّوح نفسها تجسّدت في مواقف الإمام زين العابدين(ع)، ولا سيّما أمام عبيد الله بن زياد، عندما أراد قتله، حيث قال له: "إنَّ القتل لنا عادة وكرامتنا من الله الشّهادة".

لن تهزمنا الجراح

ومن هنا، وأمام مشهد الدّماء البريئة الطّاهرة الّتي نزفت، والبيوت الّتي دُمّرت واحترقت، وفي ظلّ كلّ هذه الآلام، نقول: إنّنا في هذه المنطقة ـ ونقولها بلسان كلّ أبنائها ـ لم تهزمنا الجراح الماضية؛ لا جراح مجزرة بئر العبد، ولا حرب تموز، ولا المتفجّرة السّابقة، ولا الصّواريخ المجهولة والمعروفة الغايات، ولا كلّ ما يخطَّط لنا ويدبَّر. وبالطّبع، لن تهزمنا الجراح الحاضرة ولا حتى المستقبليَّة، فنحن شعب يحبّ الحياة، لا كما يقول البعض، بأنّ ثقافتنا هي ثقافة الموت، نحن نحبّ الحياة ونعتبرها نعمة الله علينا، ولكنّنا نريد أن نكون أعزّاء، لا نريد العزّة لأنفسنا فقط، بل نريدها للجميع. نريد أن يعيشها كلّ اللّبنانيّين، ونريدها لكلّ عالمنا العربي والإسلامي، ولكلّ المستضعفين في العالم.

لقد شكّلت هذه المنطقة، بكلّ تنوّعاتها، خزّاناً دائماً للمقاومين الرّافضين لأيِّ ذلّ، سواء الذلّ الداخليّ أو الخارجيّ، وتحمَّلت من أجل ذلك الكثير، وهي على استعداد لأن تتحمَّل المزيد. إنَّ الصّورة كانت واضحة عند أبناء الضّاحية الجنوبيَّة، فقد كانوا يدركون أنَّ هذا الخيار لن يكون خياراً سهلاً، وأنّه سيخلّف الكثير من التّبعات، ويستدعي الكثير من المخطّطات والهجمات التي ينظّمها العدوّ الصّهيونيّ، وكلّ الَّذين لا يعون منطق العزّة ولا يعيشونها، ولا يريدون أن يضبطوا متلبّسين بها، لأنّهم أدمنوا الذلّ والهوان، ولا يريدون للآخرين أن يظهروا بمظهر مغاير.

ومن هنا، وانطلاقاً مما حدث، لا بدَّ من أن نشدّد على المنطق الَّذي سمعناه من الّذين أصيبوا، والحرص الّذي شهدناه منهم على مواجهة مخطّطات العدوّ الصّهيونيّ. إنَّ كلّ هذا لن يمنع شعب هذه المنطقة من خياره في مواجهة غطرسة العدوّ ومكره وخداعه، ولن يستدرجه أحد للدّخول في الزّواريب الداخليّة، أو للإيقاع به في أتون الفتنة الّتي يُراد للمنطقة أن تحترق بها.

لقد كان أبناء هذه المنطقة حريصين دائماً على أن يعضّوا على الجراح، منعاً لأيّ فتنة طائفيّة أو مذهبيّة أو سياسيّة، وكان شعارهم دائماً: "لأسلمنّ ما سلمت أمور المسلمين"، ولأسلمنّ ما سلمت أمور اللّبنانيّين وأمور العرب.. وسيستمرّ هذا الشّعار على قوّته وزخمه، فلن يسمح أهل هذه المنطقة لكلّ المصطادين بالماء العكِر والدّاعين إلى الفتنة، بأن يستغلوا الدماء التي نزفت لتحقيق مآربهم وأهدافهم.

ثبات البوصلة باتّجاه العدوّ

ستبقى البوصلة واضحةً في مواجهة هذا العدوّ، كما حصل في اللبّونة وفي كلّ مكان، لمنعه من أن يحتلّ الأرض مجدّداً، أو أن يستبيح قرانا، أو يهدّد استقرارنا. سيكون ردّنا على كلّ هذه المتفجّرات وما سبقها، أو ما قد يليها ـ لا سمح الله ـ بمزيد من الثبات على هذا الخطّ والصّبر عليه، والعمل لتعميق أواصر الوحدة الداخليّة والوحدة الإسلاميّة والوطنيّة، لمواجهة منطق صنَّاع الفتن ومستبيحي الدِّماء؛ دماء المسلمين ودماء غيرهم، لأنَّه منطق الحقد والكراهية، منطق الرَّفض للآخر لكونه آخر، ومنطق الّذين يريدون لهذه المنطقة أن تكون ساحةً لتنفيس أحقادهم أو لتصفية الحسابات الإقليميَّة والدّوليَّة.

إنَّ علينا أن نكون حذرين من كلِّ الأصوات الّتي ستنطلق، ومن باب ادّعاء الحرص على استقرار هذه المنطقة، لتحمِّل المسؤوليَّة للضَّحايا بدلاً من تحميلها للجلادين، ولإثارة التوتّر في ساحتنا.

الرّدّ الحاسم

ومن هنا، سيكون ردّنا الحاسم على ما جرى، تأكيد الخيار الّذي نريد للوطن أن يلتزمه؛ خيار الوحدة في الدّاخل لمواجهة عدوّ الخارج؛ هذا الخيار الّذي جرّبناه في هذا البلد، فلا نتردّد في التّشديد عليه في الاستراتيجية الدفاعيّة الّتي نرسمها، ولا سيَّما أنَّ هذا العدوّ لن يستكين ولن يهدأ حتّى يثأر لهزيمته، ولعلّ ما حصل هو بعض الثّأر منه، فلنعمل على منعه من استكمال مشروعه المستقبليّ.

ولهذا، ندعو إلى المزيد من العمل على تقوية الجبهة الداخليّة، وذلك بحكومة وحدة وطنيّة، وبالكفّ عن التّصويب على كلّ مواقع القوّة في هذا البلد، سواء الجيش اللّبنانيّ أو المقاومة. وعلينا، في المقابل، العمل على تعميق الوحدة بين أبناء الشّعب الواحد.

أيّها الأحبَّة، إنَّنا نعيش في مرحلة الفتن والاهتزازات؛ مرحلة تصادم المشاريع في المنطقة كلّها، حيث يراد للمواقع الأساسيّة فيها أن تبقى في دائرة الاضطراب، وأن يضرب اللااستقرار في كلّ مكان، تحت عناوين مذهبيّة وسياسيّة متعدّدة، وهذا ما نراه في العراق، وما نشهده في سوريا، وما نعيشه في مصر، حيث يخشى من دخولها في حالة الفوضى الكبرى.

إنّهم يريدون للمنطقة كلّها أن تبقى رهينة الفوضى والفتن المتنقّلة والحرائق المنتشرة هنا وهناك، ليبقى الكيان الصّهيونيّ وحده في حال من الرّاحة وحتّى الاسترخاء، ليفرض ما يريده على الفلسطينيّين وعلى العرب والمسلمين كلّ يوم. وعلينا أن نرفض ذلك كلّه بوحدتنا وتماسكنا وسعينا الدّائم لإسقاط الفتنة؛ فتنة الأعداء ومن يخدمهم بطريقة أو بأخرى.

وأخيراً، إنّنا نتقدّم من كلّ أهالي الشّهداء، باسمكم جميعاً، بأحرّ التّعازي، داعين الله أن يتغمّدهم بواسع رحمته، وأن يعافي الجرحى، متوجّهين إلى الجميع للتّعاون لمساعدة كلّ المتضرّرين والمنكوبين في بيوتهم، لإعادة الوضع إلى أحسن مما كان عليه.

Leave A Reply