موقف الإمام الصَّادق(ع) في حركة العزّة والحريّة

ألقى سماحة العلامة السيد علي فضل الله ، خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عددٍ من الشخصيّات العلمائيّة والسياسيّة والاجتماعيّة، وحشدٍ من المؤمنين، ومما جاء في خطبتيه:

 

الخطبة الأولى

 

قال الله سبحانه وتعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً}..

 

عادت إلينا في السابع عشر من ربيع الأول ذكرى الولادة المباركة لواحد من أئمة أهل البيت(ع) وهو الإمام جعفر بن محمد الصادق(ع)، هذا الإمام الذي ملأ الواقع الإسلامي علماً وعبادة وخلقاً وحركة..

 

وقد شهد بذلك حتى الذين لم يلتزموا إمامته كما ورد عن مالك بن أنس إمام المذهب المالكي وهو ممن تتلمذوا على يديه: ما رأيت أفضل من جعفر بن محمد الصادق علماً وعبادة وورعاً…

 

وقد سئل إمام المذهب الحنفي وهو أيضاً ممن تتلمذ على يديه عن أفقه الناس في زمانه فقال وبدون أي تردد: جعفر بن محمد الصادق.. وهو الذي قال عن نفسه: لولا السنتان لهلك النعمان..

 

ونحن اليوم في ذكرى ولادته سنتوقف عند واحدة من كلماته التي تعبر عن مدى وعيه لقيمة نحن أحوج ما نكون إلى استحضارها عندما قال:

 

«إنّ الحُرّ حُرّ على جميع أحواله، إن نابته نائبة صبر لها، وإن تداكّت عليه المصائب لم تكسره وإن أسر وقهر، واستُبْدِل باليسر عسراً، كما كان يوسف الصّديق الأمين، لم يُضْرِر حريّته أن استُعبد وقهر وأسر، ولم تُضرِره ظلمة الجبّ ووحشته، وما ناله أن مَنَّ الله عليه فجعل الجبّار العاتي له عبداً بعد إذ كان له مالكاً».

 

إنّ الإمام الصّادق(ع) في تحديده لمصدر الحرية التي تميز إنسانية الإنسان، يؤكد أن أحداً لن يمنحك الحرية، بل هي تنبع من قرار ذاتي يتخذه الإنسان، بأن يملك قراره بيده، ويعمل على التحلي بكل المزايا الفكرية والنفسية التي تمنح إرادته الحافز بممارسة قرار حريته في أن لا يخضع ولا يتراجع أمام أية مغريات أو ضغوط، بحيث يصبح قادراً هو بنفسه على أن يقول نعم، وأن يقول لا، وأن يبني مواقفه على هذا الأساس، فلا تكون إرادته مرتهنةً بحيث ينفِّذ ما يُملى عليه.

 

وعندما تكون الحريّة كذلك، فسيكون من يملكها حرّاً، حتّى لو كان في غياهب السّجون مقيّداً بالأغلال، ممنوعاً من التّعبير والحركة.

لذا لا يغرنك صورة الطليق القادر على الحركة ساعة يشاء، يأمر وينهى… وقد يكون هو ممن يودع النّاس في السّجون، فتعتبره حراً، ذلك أنك إذا بحثت سوف تجد أن حريته رهينة إرادة الآخرين، وأنّه مجرّد أداة لتنفيذ أوامرهم، أو هو ممن أسرته أطماع السّلطة، ومغانم الجاه والشّهوات، فصار عبداً لشهواته، تأمره فيطيع.

 

أيّها الأحبّة:

لقد قدّم الإمام الصّادق(ع) النبيّ يوسف(ع) كأنموذجٍ يُقتدى به في الحريّة، والنّماذج كثيرة في الماضي والحاضر، فهذا النبيّ كان عبداً عند عزيز مصر الّذي كان يعبد أصناماً، ومن الطبيعيّ أن ينصاع العبد لإرادة سيّده، لكن ماذا فعل يوسف؟ لقد وقف موقفاً حرّاً ليقول وبكلّ جرأة: {أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ* مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَاؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ} (يوسف/39-40).

 

وكان النبيّ يوسف(ع) حراً عندما راودته امرأة العزيز عن نفسه، كان الشابّ الذي يتفجّر في كيانه دم الشّباب، تراوده الّتي يعيش في بيتها عن نفسه، وتؤمّن له كلّ الدلال، لكنّه وقف حينها ليقول لها: {مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ}(يوسف/23).

وها هو يقف الموقف نفسه أمام نساء مصر اللّواتي بُهرن بجماله وقطّعن أيديهنّ من الدّهشة والإعجاب به، وقال حينها: {رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ}(يوسف/33). لقد فضّل حياة السّجن، حيث الظّلمة والمعاناة وهو حرّ، على أن يكون عبداً ذليلاً خاضعاً لشهواته. فضّل أن يتنفّس الحريّة ولو كانت ممزوجةً بهواء ثقيل على النّفس والرّوح، لكنّه سيظلّ منعشاً ما دام نافذةً مفتوحةً على رحاب الله.

 

فالحريّة منزّهة عن السّقوط في رقّ الشّهوات والأطماع، وكما يقول عليّ إمام الأحرار: "من ترك الشهوات كان حرّاً".

لقد كان الدّين، ومنذ انطلاقته، نافذة الإنسان إلى الحريّة، عندما دعاه إلى أن يكون عبداً لله وحده، فهو خالقه ورازقه، وبيده أمره وتدبيره… فيما هو حرّ وسيّد أمام الآخرين، لا يخضع لإرادة أحد، مهما كان هذا الأحد، ولذلك كانت الكلمة الأولى الّتي كان يلهج بها الأنبياء والرّسل، هي "أن اعبدوا الله وحده، لا إله إلا هو"، وهذا ما نجده واضحاً في دعوة رسول الله(ص)، فهو عندما انطلق في مكّة، كانت دعوته: "قولوا لا إله إلا الله تفلحوا".

 

وهذا الإحساس بالحريّة، ليس خياراً يمكن للإنسان أن يأخذ به أو لا يأخذ، بل هو واجب، هو إعلانٌ عبّر عنه الإنسان عندما التزم بالإسلام، فهو يقول ويشهد: أشهد أن لا إله إلا الله، وهو الّذي يكرّره كلّما صلّى وقرأ القرآن وذكر الله.

وإلى هذه الحريّة يشير أمير المؤمنين عليّ(ع)، عندما قام خطيباً: "أيّها النّاس، إنّ آدم لم يلد عبداً ولا أَمَةً، وإنّ النّاس كلّهم أحرار"، وفي حديث آخر يستصرخ إرادة الإنسان: "لا تكن عبد غيرك، وقد خلقك الله حرّاً".

 

إن الإسلام أيها المؤمن هو الذي يحررك {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ}، فكلما اقتربت من العبودية الكاملة لله، وأسلمت له قياد نفسك وروحك وكيانك، كلما كنت قوياً في مواجهة كل من يريد استعبادك أو سلبك حقوقك وحقوق أمتك أو انتهاك مقدساتك.. أو انتزاع إيمانك.. حتى تبقى عزيزاً.. سموت وحلّقت وأسقطت كلّ القيود التي تذلّك، أكانت قيوداً تفرضها شهواتك وأطماعك، أم قيود خنوع وظلم وعدوان واحتلال يقيّدك بها ظالم أو حاكم أو محتلّ، وبذلك تصبح حراً أمام العالم كلّه.

 

حتّى العبادات الّتي نحن مأمورون بها، أيّها الأحبّة، دورها أن تؤكّد للإنسان هذه القيمة؛ فالصلاة تحرّرك، تقوّيك في معاركك ضدّ الفحشاء والمنكر، والصّوم يربّيك كيف تقاوم شهواتك وأطماعك، يربّيك أن تلجم نفسك، فلا تكون أسيراً لجوعك وعطشك وشهواتك، وهذا قمّة الحريّة، والحجّ يعزّز لديك نداء التّلبية: "لبّيك اللّهمّ لبّيك، لبّيك لا شريك لك لبّيك"،  والخمس والزّكاة يحرّرانك من الأنانيّة والبخل.

 

وكما العبادات، كذلك باقي مفردات هذا الدّين، كالصّدقة، والصّلوات المستحبّة، والتّواصل والتّراحم، والجهاد، والأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر… إنّ تطبيق الدّين وإن كلّفك قيوداً، إلا أنّه يزيدك تحرّراً وعزّةً وكرامة.

 

أيّها الأحبّة:

ومن وحي هذا الإيمان، أراد لنا الإمام الصادق(ع) أن نفهم بأن الدين ليس قيداً، وأن العبودية لله هي التزام بالحرية في أسمى معانيها.. نعم الدين هو المحرر للإنسان من كل ما يمنعه أن يحقق إنسانيته.. وقد ورد في الحديث عن الإمام الصّادق(ع) في معرض تفسيره لقول الله: {وَلِلَّه الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ}: "إنّ الله فوّض إلى المؤمن أموره كلها ولم يفوض له أن يذل نفسه".

 

وكان يقول: "إن المؤمن أعز من الجبل إن الجبل يستقل منه بالمعاول والمؤمن لا يستقل من دينه شيء".. "إنّ المؤمن أشدّ من زبر الحديد ، إنّ الحديد إذا أُدخل النار تغيّر وإنّ المؤمن لو قتل ثمّ نشر ثمّ قتل لم يتغيّر قلبه".. ولم تتغير مواقفه..

 

أيها الأحبة:

لقد رسم الإمام الصادق(ع) لشيعته معالم طريقهم نحو حياة حرة عزيزة، وكان من آخر وصاياه:

"أوصيكم بتقوى الله، والورع في دينكم، والاجتهاد وطول السجود، وأدّوا الأمانة إلى من ائتمنكم عليها برّاً أو فاجراً، وصلوا عشائرهم، واشهدوا جنائزهم، وعودوا مرضاهم، وأدّوا حقوقهم، فإنّ الرّجل منكم إذا ورع في دينه، وصدق الحديث، وأدّى الأمانة، وحسُن خلقه مع النّاس، وقيل هذا جعفريّ، يسرّني ذلك، وقيل هذا أدب جعفر، وإذا كان على غير ذلك، دخل عليّ بلاؤه وعاره"..

 

والصلاة على الصادق، يوم ولد، ويوم انتقل إلى رحاب ربه، ويوم يبعث حياً..

 

 

الخطبة الثانية

 

عباد الله، أوصيكم وأوصي نفسي بما أوصانا به الإمام الصادق (ع)، ونحن لا نزال نعيش ذكراه، عندما قال لأحد أصحابه، وهو ابن جندب:

"يَا ابْنَ جُنْدَبٍ، قَالَ اللَّهُ جَلَّ وَعَزَّ فِي بَعْضِ مَا أَوْحَى، إِنَّمَا أَقْبَلُ الصَّلَاةَ مِمَّنْ يَتَوَاضَعُ لِعَظَمَتِي، وَيَكُفُّ نَفْسَهُ عَنِ الشَّهَوَاتِ مِنْ أَجْلِي، وَيَقْطَعُ نَهَارَهُ بِذِكْرِي، وَلَا يَتَعَظَّمُ عَلَى خلْقِي، وَيُطْعِمُ الْجَائِعَ، وَيَكْسُو الْعَارِيَ، وَيَرْحَمُ الْمُصَابَ، وَيُؤْوِي الْغَرِيبَ، فَذَلِكَ يُشْرِقُ نُورُهُ مِثْلَ الشَّمْسِ أَجْعَلُ لَهُ فِي الظُّلْمَةِ نُوراً وَفِي الْجَهَالَةِ حِلْماً أَكْلَؤُهُ بِعِزَّتِي، وَأَسْتَحْفِظُهُ مَلَائِكَتِي، يَدْعُونِي فَأُلَبِّيهِ، وَيَسْأَلُنِي فَأُعْطِيهِ…".

 

بهذه الصورة، أراد الإمام (سلام الله عليه) أن يبيّن لنا قيمة الصلاة، فالله يريد للصلاة أن تشع داخل قلب الإنسان وعقله وروحه، طهارة وصفاء ونقاء، تنعكس أخلاقاً وسلوكاً وخيراً للآخرين، وعند ذلك يستحق الإنسان أن يقول: أقمت الصلاة، وإلا فستضرب بوجوهنا، ويقال لنا لم تقبل صلاتكم، وستكون حسرة وندامة، ذلك ما أخبرنا الله عنه، عندما قال: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً}..

 

جعلنا الله ممن تقبل صلاتهم، ومتى فعلنا ذلك، فستكون حياتنا وحياة الآخرين أفضل، وسنكون أكثر قدرة على مواجهة التحديات، وما أكثرها!

 

القدس

والبداية من القدس، التي تستصرخ ضمائرنا وإيماننا وإسلامنا وعروبتنا وإنساننا، بعد أن اتخذ الرئيس الأميركي قراره بالاعتراف بها عاصمة للكيان الصهيوني، في أفدح تجاوز لقرارات ما يسمى بالشرعية الدولية التي تولي في قراراتها القدس مكانة خاصة، وفي استخفاف فاضح بالحكومات العربية والإسلامية التي احتفت به منذ أشهر وكرمته، والمفارقة أنها كانت تعرف أنه سوف يصدر قرار نقل سفارته إلى القدس، وبلا مبالاة شديدة باستفزاز المشاعر الإسلامية إزاء "أولى القبلتين، وثالث الحرمين، ومسرى رسول الله (ص)، ومنطلق معراجه"، وبعدم اعتبار للمشاعر المسيحية إزاء القدس؛ "مهد السيد المسيح(ع)"، واستهانته بشعب القدس وشعب فلسطين، مروراً بالاستهتار بكل النصائح الدولية والإقليمية من مغبة مثل هذا القرار وانعكاسه السلبي على أوضاع المنطقة المضطربة أصلاً.

 

لقد جاء هذا القرار من الرئيس الأميركي استثماراً لظروف عربية وإسلامية، يرى أنها في أسوأ أحوالها، بفعل الصراعات المدمرة في المنطقة التي أصابت أكثر من بلد له دور في المواجهة مع العدو.

 

وفي ظل لهفة أكثر من طرف عربي وإسلامي للتطبيع مع الكيان الصهيوني فوق الطاولة وتحتها، نخشى أن يكون بعض هذه الأطراف مشاركين فيما جرى، وسط استمرار الضغوط على الدول الحاملة للواء مقاومة العدو الصهيوني، واستمرار الحصار عليها بكل عناوينه.

 

إنّنا نرى في الرفض العالمي الواسع لهذا القرار، وفي كل التوقعات الغربية المحذرة والقلقة من المواجهة المرتقبة للسياسات الأميركية، وفي التطورات المستجدة في المنطقة، علامات واضحة بأن القرار الأميركي ليس قدراً مفروضاً، وأن بالإمكان إسقاطه في حال توفرت شروط الثبات على المواقف السياسية الرافضة وتطويرها، والحضور الشعبي في الساحات، فضلاً عن المواجهة الفلسطينية اليومية للاحتلال، وهذا ما نأمل أن يحصل.

 

إننا في هذا الظرف الدقيق والحساس، نقدر كل المواقف الدولية والإقليمية التي أعلنت رفضها للقرار، ولكننا نشدد على ضرورة أن يرتقي الموقف العربي والإسلامي المستنكر والرافض إلى المستوى الذي يأخذ بالحسبان خطورة هذا الحدث وآثاره وتداعياته، ويليق بالموقع الذي تحتله القدس في قلوب مئات الملايين من المسلمين ومن غير المسلمين، لبذل كل الجهود لحمايتها من التهويد، وإلى المستوى الذي يناسب حق الشعب الفلسطيني المظلوم في استعادة أرضه وعاصمته.. وإن كنا لا نعول كثيراً على ذلك، فالعرب والمسلمون، على مستوى الحكام، لم يبذلوا ما هو مجدٍ لفلسطين كل هذه السنوات الماضية، بل إن سياساتهم ساهمت في الوصول على هذا الوضع.
 

إننا في مثل هذا الظرف، لا نريد تسجيل النقاط أو التحريض على أي طرف، لكننا نقول: حذار من الوقوع في الخداع مرة بعد مرة. والسؤال الذي كان مطروحاً برسم جميع الذين راهنوا على موقف أميركي وسيط ونزيه فيما يسمونه حلاً عادلاً للقضية الفلسطينية، سواء عبر مفاوضات ثنائية أو حتى عبر ما يسمونه "صفقة القرن"، جاءت إجابته واضحة عبر قرار الرئيس الأميركي الذي يؤكد الاصطفاف الكامل للسياسة الأميركية مع الكيان الصهيوني؛ الابن المدلل لها، وأن لا حلفاء له إلا هذا الكيان، مهما قدم العرب من مغريات سياسية ومالية واستراتيجية للإدارة على حسابه، بل إن الأمور دائماً عنده لحسابه.
 

لذلك، نحن نقول لكل الدول والشعوب العربية والإسلامية إنَّ القدس اليوم هي عنوان عزتكم وكرامتكم وإيمانكم. ومن دونها، أنتم في مهب رياح كل طامح في النيل من عزتكم وكرامتكم، ولا تظنوا أنكم آمنون بوجود هذا الكيان وغطرسته.. وعليكم أن تعرفوا أن معاناتكم هي من خلال وجود هذا الكيان وبسببه، ولذلك لا تتخلفوا عن اتخاذ موقف واضح وجريء للتاريخ، بعد أن اتضحت الصورة للجميع، بأنَّ كل حديث عن حل ترعاه أميركا هو سراب في سراب.. هو تضييع وقت، وإن حصل، فليس لمصلحة الشعب الفلسطيني والعرب.. هو نتاج ضعفهم.
 

إننا نأمل أن نكون على مستوى هذه المسؤولية الكبرى، فالقدس أمانة في أعناق الجميع، وحفظها من حفظ الوجود العربي والإسلامي ومن حفظ مصيره. وتبقى القدس تمثل خط الدفاع الأخير عما تبقى من كرامة واعتبار للعرب والمسلمين.
 

إن أقل ما تستحقه القدس من الحكام هو موقف الدعوة إلى قمة عربية إسلامية تتجاوز كل الصراعات الداخلية، وتعمل على وقف كل الخلافات أو تجميدها لحساب القضية الفلسطينية. لذلك، فإننا في الوقت الذي نهيب بالقيادات والمرجعيات الدينية في العالم الإسلامي لقول كلمتها الفصل في حماية القدس.. نؤكد على كل الطاقات الحيّة في الأمة أن تتحرك، وعلى جميع المستويات، لوضع خطة إعلامية، سياسية حركية مقاومة، لمواجهة هذا القرار، ومنع أية محاولة لشطب القدس من الواقع والذاكرة، لأن حياة الأمم والشعوب تُقاس بمواقفها التاريخية، وبمدى التزامها بحماية مقدساتها وتحرير أرضها، وتمسكها بمبادئ الحرية والعزة والكرامة في حياتها.
 

وبانتظار وقفة عربيّة وإسلاميّة مسؤولة، سوف تبقى عقولنا وقلوبنا مع الشعب الفلسطيني المضحي المقاوم، الذي أثبت من خلال التضحيات والدماء التي بذلها، أنه يمنح فلسطين كل يوم أملاً واقعياً جديداً ورجاء كبيراً بأنها سوف تعود إلى أهلها، وأنه هو وحده سيخيب كل المراهنين على أن الأيام والشهور والسنين كفيلة بطي صفحة هذه القضية وإطفاء شعلتها.

إننا نرى أن ما جرى ينبغي أن يعجّل في تحقيق اللحمة بين مكونات الشعب الفلسطيني، لإزالة الانقسام ما بين السلطة الفلسطينية وبقية فصائل المقاومة الفلسطينية، لتكون كل الجهود في خدمة الشعب الفلسطيني وقضية القدس، والتي لأجلها تجمد كل الخلافات.

لبنان

ونعود إلى لبنان، الذي استطاع أن ينهي آثار استقالة رئيس الحكومة، وأن يعيد الانتظام إلى جلسات الحكومة. ونحن في ذلك نثمن كل الجهود التي بذلت من أجل إنجاز صيغة توافق وطني على قضية النأي بالنفس، ونأمل أن تساهم بمفاعيلها العملية في إزالة أي توتر داخلي أو على صعيد علاقة لبنان بمحيطه العربي، وأن تؤمن الاستقرار الذي ينشده اللبنانيون.
 

في هذا الوقت، ندعو الحكومة إلى التعويض لمواطنيها عن فترات الانقطاع القسري للجلسات، للعودة إلى القيام بمسؤولياتها تجاههم، فهناك الكثير من القضايا المطروحة أمامها على مستوى موضوع الكهرباء والنفط ومكافحة الفساد والاهتمام الجاد بالوضع الاقتصادي، ولكن لا بدَّ من التوقّف عند التقرير الخطير لهيومن رايس ووتش، الذي يتحدث عن المخاطر الصحية لحرق النفايات، والذي يستوجب معالجة سريعة لأزمة النفايات وكل آثارها البيئية والصحية.

 

المكتب الإعلامي لسماحة العلامة السيد علي فضل الله

التاريخ:21ربيع الاول 1439هـ الموافق: 8كانون الأول 2017م

 

 

Leave A Reply