ميلاد المسيح(ع): جسر محبة وتفاهم بين المسلمين والمسيحيين

ألقى سماحة العلامة السيّد علي فضل الله، خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عددٍ من الشخصيّات العلمائيّة والسياسيّة والاجتماعيّة، وحشدٍ من المؤمنين، ومما جاء في خطبتيه:
 
الخطبة الأولى
 

قال الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آَدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ * الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} صدق الله العظيم.

 

يحتفل المسلمون والمسيحيون في الخامس والعشرين من شهر كانون الأول بإحياء ذكرى ولادة السيد المسيح(ع) روح الله وكلمته التي ألقاها إلى مريم.. وهي مناسبة يستعيدون من خلالها ومن خلال كل النصوص الدينية الواردة الموقع الذي بلغه السيد المسيح عند الله والتكريم الذي حظي به والمعاني الروحية والإيمانية والأخلاقية التي جسدها في سلوكه ومواقفه وكلمات ، وهذا معنى الإحياء الحقيقي له..

 

ونحن في هذه المناسبة العزيزة سنستعيد بعض ما أشار إليه القرآن الكريم عن موقعه والدور الذي قام به وأداه.. فالسيد المسيح هو بشارة الله إلى أمه مريم.. بشرتها به الملائكة: {يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ * وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصَّالِحِينَ}.

 

وعندما استغربت أمه السيدة مريم(ع) أن يكون لها ولد من دون أن يمسها بشر، جاءها الجواب من الله سبحانه أن هذا المولود لن يكون ولداً عادياً بل هو آية من آيات الله ومظهراً لمشيئة الله وقدرته وتتجسد فيه كلمته "كُنْ فَيَكُونُ" {قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيّاً * قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آَيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْراً مَقْضِيّاً}،  {إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ}..

 

وقد أظهر الله أهمية موقعه في حديثه عند ولادته، عندما هيأ لأمه كل سبل الرعاية والعناية التي أشار الله إليها: {فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيّاً * فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيّاً * وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيّاً * فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيّاً}.. وأنطق الله السيد المسيح في مهده ليدافع عن نفسه وعن أمه..

 

وتجلى التكريم الإلهي أيضاً بما أمد الله به هذا النبي من مؤهلات وقدرات ومعجزات أجراها الله على يديه ليكون قادراً على أن يؤدي مسؤولياته ويواجه التحدي ممن سيقفون في وجه رسالته {إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي}..

 

واستمر هذا التكريم له عندما هيأ الله له أنصاراً يؤيدنه ويقفون معه، حيث يقول الله عن ذلك: {وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آَمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آَمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ}، وبقي إلى آخر مرحلة من وجوده بين قومه حيث حماه الله من أعدائه، فلم يدع الحاكم الروماني ومن ورائه اليهود أن يصلبونه.. وهذا ما أشار إليه الله عندما قال: {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ}، {إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ}.. وسيبقى هذا التكريم له إلى حين يخرج في آخر الزمان ليملأ مع المهدي(عج) الأرض قسطاً وعدلاً بعدما ملأت ظلماً وجوراً 

 

وعندما نتحدث التقاء المسلمين والمسيحيين على عظمة هذا النبي وتكريمه لا يعني إننا نتنكر للاختلاف حول معالم شخصية هذا النبي(ع)… فهناك اختلاف بين الديانتين في النظرة إلى طبيعة هذا النبي وإلى الدور الذي لأجله أرسله الله وما حصل له قبل أن يغادر ساحة الحياة.

 

فالمسيحية وإن كانت تقر بوحدانية الله، إلا أنها ترى للسيد المسيح بعداً آخر غير بشري وهو كونه ابناً لله وواحد من الأقانيم الثلاثة التي تذكر عندهم لصورة الله الواحد: الأب والابن والروح القدس، وأن دوره الذي أرسل لأجله هو أنه جاء ليخلص أبناء آدم من الخطيئة التي ارتكبها أبوهم آدم والتي بسببها أُخرج هو وزوجته من الجنة واستحق هو وأبناؤه البعد عن رحمة الله.. وكان الصلب هو مظهر هذا الخلاص وبه تحقق الفداء..

 

فيما يرى الإسلام أن الإنسان لا يرث الخطيئة من أحد، وأن توبته هي التي تغفر له خطاياه، وأن السيد المسيح هو عبد الله ورسوله وأنه يأتي في السلسلة الأخيرة من الأنبياء والتي ختمت برسول الله وأن دوره الذي جاء لأجله هو التبشير بما جاء به من عند الله ومعالجة الانحراف عند بني إسرائيل..

 

وهذا ما عبرت عنه الآيات: {قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آَتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيّاً * وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنْتُ ‎وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيّاً}، {وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ}.

 

ولكن هذا الاختلاف رغم وجوده لم يلغ اللقاء بين الديانتين على الكثير من العناوين والمفردات الإيمانية والأخلاقية، ولم يدعه الإسلام سبباً للتنافر والتنازع وصولاً إلى ما وصل إليه البعض، ممن لم يفهموا قواعد الدين وأسسه على حقيقتها، إلى حد إشعال الفتن واستباحة الدماء، فهو لم يتعامل مع المسيحيين من موقع أنهم مشركون، رغم إيمانهم بالأقانيم الثلاثة، وأن المسيح ابن الله.. كان يكفيهم لجعلهم في صف التوحيد أن يقولوا بعد الأب والابن وروح القدس إلهاً واحداً..

 

وقد أشار إلى رغبته بالتلاقي والعمل المشترك على القيم الروحية والإيمانية التي تتلاقى عليها الديانتان، والحوار في مواقع الاختلاف على القواسم المشتركة {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ}.. تعالوا لنؤكد على مواقع اللقاء وهي إعلان العبودية لله وإن اختلفنا في ذاته، والرفض لأية عبودية أخرى.. ورفض منطق التسلط على الآخرين باسم الله، وأن يكون بالفكرة الأحسن والسلوك الأحسن والكلمة الأحسن: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}.

 

ولم يقف الإسلام عند هذا الحد، بل أظهر القرآن الكريم الصفات الروحية والأخلاقية التي اتسم بها أتباع الديانة المسيحية، والتي تميزهم عن المشركين واليهود في قوله: {وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آَمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ}..

 

وقال سبحانه في آية أخرى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ… ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آَثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآَتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً}..

 

وقد تجلى هذا التميز عملياً في مرحلة الإسلام الأولى.. ونشير بذلك إلى نموذجين:

 

النموذج الأول حين قدم نصارى نجران إلى المدينة المنورة رغبة في الحوار مع النبي(ص)، وهم يلبسون أزياءهم الكنيسية ويحملون الصلبان في أعناقهم، فلم يعترضهم النبي(ص) ولا المسلمون على ذلك رغم موقفهم من الصليب.. وعندما حان وقت الصلاة وكانوا في مسجد النبي(ص) وأرادوا الصلاة بصلاتهم في المسجد أذن لهم النبي(ص) بذلك، فدقوا الناقوس في المسجد وصلوا على مرأى المسلمين جميعاً.

 

والنموذج الآخر حصل عندما تعرض الروم المسيحيون لنكسة أمام الفرس، يومها حزن المسلمون كثيراً لما تعرض له المسيحيون رغم اختلافهم، فنزلت الآيات القرآنية لتزيل حزنهم ببشارتهم أن وراء هذه الهزيمة نصراً مما بدل حزنهم فرحاً.. وقد وردت سورة في ذلك: {الم * غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ}…

 

إن هذه العلاقة العملية والشعورية التي أسس لها القرآن الكريم وعبر عنها النبي(ص) في سلوكه ومواقفه هي التي ساهمت في تعميق أواصر التعاون والاحترام المتبادل، والذي كان من ثمراته حفظ الوجود المسيحي في بلاد المسلمين، والارتقاء به إلى ما نشهده في عصرنا الراهن من تواصل وتفاعل وعمل مشترك في ميادين متعددة..

 

أما المشاكل التي كانت تحصل أو التي تحصل الآن فهي في جوهرها لم تنطلق من قواعد الإسلام وأخلاقه ولا من قواعد المسيحية ومنطلقاتها، ولا هي قاعدة يقيم بها هذا التواصل أو يؤسس للمستقبل، هي حالة شاذة وستزول.

 

إننا معنيون في ذكرى ولادة المسيح(ع) التي تتلاقى مع ذكرى ولادة رسول الله(ص) أن نجعل من هاتين المناسبتين سبيلاً للعمل على تعزيز القيم التي عبر عنها هذان الرسولان في سيرتهما، قيم المحبة والرحمة، والعدل في وجه دعاة الحقد والعداوة والظلم والاستكبار والفساد، لا سيما الذين يعنون أنفسهم بعنوان الإسلام والمسيحية..

 

وبذلك يتحقق الإحياء الحقيقي والإتباع الحقيقي.. فالإحياء لا يتم بالكلمات والطقوس، أو بوضع شجرة ميلاد من سرو أو نخل أو بأناشيد وموالد واحتفالات، بل بأن نعالج ما فسد من قلوبنا وعقولنا وعملنا لنكون على حسب ما دعوا وعملوا…

إن أولى الناس بالأنبياء هم الذين أشار إليهم الله، هم الذين حولوا إيمانهم إلى عمل وسلوك: {إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً}.

 

 

الخطبة الثانية

عباد الله، أوصيكم وأوصي نفسي بوصية السيد المسيح (ع) حين قال: "أيها الناس، لن أقول لكم كما تقولون، صِلوا من وصلكم، وأعطوا من أعطاكم، واعفوا عمّن عفا عنكم، بل سأقول لكم، صلوا من قطعكم، وأعطوا من منعكم، وسلّموا على من سبّكم، وأنصفوا من خاصمكم، واعفوا عمّن ظلمكم، كما تحبون أن يُعفى عن إساءاتكم، وبذلك تتخلّقون بأخلاق ربكم، ألا ترون أن شمسه تشرق على الأبرار والفجار، وأن مطره ينزل على الصالحين والخاطئين، وأن خيره يصيب الجميع، حتى الذين جاهروه بالعداوة، وإن كنتم لا تحبون إلا من أحبكم، ولا تحسنون إلا لمن أحسن إليكم، ولا تكافئون إلا من أعطاكم، فما فضلكم على غيركم!؟ أيها الناس، إذا أردتم أن تكونوا أحباب الله وأصفياءه، فأحسنوا إلى من أساء إليكم، واعفوا عمّن ظلمكم، وسلّموا على من أعرض عنكم.. اسمعوا قولي، واحفظوا وصيتي، وارعوا عهدي، كيما تكونوا علماء فقهاء".

 

هذه الوصية هي وصية رسول الله (ص) نفسها، عندما دعانا إلى مكارم الأخلاق، وعنون رسالته بها، وقال: "إنما بُعِثتُ لأتمِّم مكارم الأخلاق"، وهي وصية الله حين يقول: {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ}، وهي سيرة أولياء الله وأحبائه.

 

بهذه الأخلاق، نرتقي عند الله لنكون من أحبّ خلقه إليه وأقربهم منه، وبها نزرع الخير والحب، ونزيل الأحقاد والعداوات من قلوب الآخرين، ونحقّق السّلام لأنفسنا وللآخرين، ونصبح أكثر قدرةً على مواجهة التحدّيات..

 

لبنان

والبداية من لبنان، الذي نعم أخيراً، وبعد طول انتظار، بحكومة تحمل عنوان حكومة وحدة وطنية، على الرغم من أنها لم تحوِ كل المكونات السياسية كما ينبغي، حتى يصدق عليها هذا العنوان. ومما يستحق التّقدير في هذه الحكومة، استحداث وزارات جديدة، وإن كان عنوانها وزارات دولة، كوزارة دولة تُعنى بمواجهة الفساد، بعد أن اكتوى اللبنانيون بهذا الداء الذي أصبح يهدد كيان البلد ومقدراته، وأخرى لشؤون المرأة، رغم المفارقة المتمثلة بأن من يتولاها رجل، وهو أمرٌ إيجابي أن يطالب رجل بحقوق المرأة، ووزارة لشؤون النازحين بعدما كثر عددهم، حيث باتت الحاجة ماسّة إلى الاهتمام بهذه القضية التي تحمل البعد الاجتماعيّ والإنسانيّ والأمنيّ والسياسيّ.

 

ونحن في الوقت الَّذي نهنئ اللبنانيين على هذا الإنجاز الذي سيكلّل بنيل الثقة، ولا نعتقد أن ثمّة عقبات في هذا المجال، فإننا ندعو الحكومة إلى أن ترتقي إلى حجم المسؤوليات الملقاة على عاتقها، لتكون حكومة عاملة لا تكرّر تجارب فاشلة، وأن لا تكون حكومة مناكفات كغيرها، أو تتحول إلى ساحة صراع داخلي يعكس صراعات المحاور في الخارج.

 

إنّ اللبنانيين ينتظرون من هذه الحكومة الكثير من الأعمال، بدءاً من إقرار قانون انتخابي يضمن صحة التمثيل، ويأخذ بالاعتبار هواجس الطوائف والمذاهب، لا هواجس الأشخاص، ومن يُصنّفون على أنهم رموز الطوائف والمذاهب، واستنفار كل جهودها لمعالجة المشكلات والأزمات التي يعانيها المواطنون، في الماء والكهرباء والصحة وملف النفايات وأزمة السير الخانقة التي يشهدها لبنان، ومواجهة الفساد. ولا ينبغي في ذلك التذرع بقصر عمر الحكومة وضيق الوقت، فهذا عذر العاجزين لا العاملين.

 

ونبقى في لبنان، لنشير إلى خطورة ما يجري في مخيم عين الحلوة من تصفيات ومعارك، على أمن المخيم ومحيطه، لئلا يعمِّق حالات اليأس والإحباط في النفوس.. ونحن أمام ذلك، ندعو القيادات الفلسطينية إلى تحمّل مسؤوليتها في حفظ أمن المخيم، بالتعاون مع الجيش اللبناني، لمواجهة أي فريق يحاول أن يستخدم المخيم كورقة في صراعات المنطقة، ومعالجة تفلّت السلاح من العناصر غير المنضبطة، فهذا السّلاح وجد أساساً لمواجهة العدو وحفظ المخيم، ويجب أن يبقى كذلك، وأن لا يكون مشكلة له ولمحيطه.

 

سوريا

وإلى سوريا، حيث لا تزال الكثير من الدول المؤثّرة في هذا البلد، تتعامل مع قضيته بعناوين إنسانية ترفع لتحقيق مصالح خاصّة، من دون أن تقدم فعلياً، ولو الحدّ الأدنى، من المساعدات التي تخفّف من مشكلات الناس وتسدّ بعض حاجاتهم. وهنا، ندعو كل الغيورين على سوريا إلى دعم الجهود التي بدأها وزراء خارجية ودفاع إيران وروسيا وتركيا، لمعالجة الأزمة القائمة، بما يؤدي إلى تحريك عجلة الحوار الداخلي، لإخراج البلد من معاناته، ومنع تحوّله إلى ساحة تقاسم نفوذ، أو إلى مكان يعبث به الإرهاب، ومنه ينطلق إلى العالم، وإن كنا نعتقد أن أوان الحل لم يحِن بعد، في ظل استمرار رهان البعض على إبقاء الحرب مشتعلة في هذا البلد، واستنزافه واستنزاف ما تبقى من مواقع قوة في العالم العربي والإسلامي، وإن كان هامش الحركة بدأ يضيق بعدما جرى أخيراً في حلب.

 

وليس بعيداً عن سوريا، فقد شهد الأسبوع الماضي العديد من الأحداث الدامية، سواء الاعتداء الذي جرى في الأردن على موقع سياحي، أو اغتيال السفير الروسي في تركيا، أو الشاحنة التي دهست مواطنين آمنين في ألمانيا، أو ما جرى ويجري من تفجيرات في العراق.

 

إننا في الوقت الذي ندين كلّ هذه الاعتداءات، نعيد الدّعوة إلى العمل المشترك على كل المستويات الإقليمية والدولية، لمواجهة هذه الظواهر، ومعالجة أسباب نموّها، من خلال معالجة التوترات الحاصلة في المنطقة، والتي تشكّل حواضن لها.

 

تونس

وإلى تونس، حيث يستمر الغموض المحيط بالاغتيال الذي تعرّض له محمد الزواري، وهو أحد قادة حماس، وإن كانت أصابع الاتهام تبقى موجهة إلى العدو الصهيوني؛ صاحب السوابق في اغتيال قادة المقاومة وغيرهم من العلماء الذين يعملون لصناعة القوة التي تدفع عدوانه. وهذا الأمر إن صحّ، فإنه يشير إلى عمق الاختراق الذي تعانيه الساحة العربية والإسلامية، والذي يدعونا إلى المزيد من اليقظة والالتفات أكثر إلى هذا العدو، الذي يستفيد من الفتن والصراعات الداخلية لتصفية مقاومي مشاريعه، ليكون هو الأقوى في المنطقة.

 

ميلاد السيد المسيح

وأخيراً، نتوجّه بالتهنئة إلى المسيحيين والمسلمين بميلاد السيد المسيح (ع)، الذي هو ميلاد للقيم الروحيّة والإيمانيّة الّتي حملها وعبّر عنها بسلوكه وتعاليمه، والّتي عانى وتألم وقدّم التّضحيات لأجلها..

إننا نريد لهذه المناسبة أن تعيد تعزيز قيم المحبة والرحمة والعدل، في مواجهة منطق الحقد والعداوة والغلبة، الذي بات يتحكم بالكثيرين ممن ينتسبون إلى الأديان السماوية، ويحولها إلى مشكلة، بينما كانت هي الحل، وستبقى كذلك.

 

المكتب الإعلامي لسماحة العلامة السيد علي فضل الله

التاريخ :24 ربيع الأول 1438هـ الموافق : 23 كانون الأول 2016م

 

Leave A Reply