هل يعلم الغيب غير الله ؟

ألقى سماحة العلامة السيّد علي فضل الله، خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عددٍ من الشخصيّات العلمائيّة والسياسيّة والاجتماعيّة، وحشدٍ من المؤمنين، ومما جاء في خطبتيه:

 
الخطبة الأولى
 

قال الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز: {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَآَمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ}.

 

إن لدى الإنسان تطلعاً لمعرفة ماذا سيجري له في المستقبل وما يخبئ له، وما قد يحدث في هذه المساحة الزمنية التي تندرج في عالم الغيب، وهي سميت بذلك لكونها مساحة غائبة عن معرفته، وقد لجأ البعض إلى استغلال هذا التطلع الإنساني الفطري للإيحاء بأنهم يملكون هذه المعرفة وقادرون على كشف ما سيحدث فيها. ومن هنا كان من الضروري أن نبيّن نظرة الدين إلى الغيب حتى لا نسمح لمدعي معرفة المستقبل من خلال الفلك أو التنجيم أو الجن والفنجان من التلاعب بالدين وأعصاب الناس وعقولهم أن يجدوا محلاً لرحالهم..

 

لقد بيّن الله وبوضوح في هذه الآية التي قرأناها، وبما لا يقبل الشك، أن أمر الغيب بكل حقائقه هو بيد الله تعالى، فالله هو من يملك أمر الزمن وما جرى وما يجري وما سيجري فيه، وعلمه هو الحقيقة التي لا حقيقة غيرها، وهذا ما أشار الله إليه:

{قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} وقال تعالى: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} {وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ}.

 

وقد بيّن الله سبحانه وتعالى تفاصيل هذا الغيب، فقال جلّ وعلا: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ}. وقد جاءت هذه الحقيقة على لسان النبي(ص) أقرب الناس إلى الله وأعز رسله لديه حين أمره الله أن يُعلن {قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ}، ويقول في آية أخرى مؤكداً على هذه الحقيقة من خلال واقع حاله: {قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ}.

 

نعم، الله سبحانه أعطى غيبه لمن اختارهم من رسله ليؤدوا دورهم ويقوموا بمسؤولياتهم، وهذا ما قاله سبحانه وتعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا* إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ}، فهو حدد الصفة التي يعطيه الغيب لأجلها، وهي كونه رسولاً.. وقال في آية أخرى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ}.

 

وهذا ما يفسِّر كل الغيبيات التي تحدث عنها رسول الله(ص) وبعده أهل البيت(ع)، فهي من وحي الله لرسوله(ص) وليست ذاتية لهم. وهنا نشير إلى كلام لأمير المؤمنين(ع) عندما سُئِل: أُعطيت يا أمير المؤمنين علم الغيب؟ قال(ع): "لا، وإنما هو تعلمته من ذي علم، علّمه الله لنبيّه فعلّمنيه".

 

وقد أشار القرآن الكريم إلى بعض هذا الغيب الذي أخبر به رسوله(ص) عندما تحدث عن غلبة الروم على الفرس بعدما غُلِبوا سابقاً كما في مطلع سورة الروم.. فقال: {غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ}.. وقد ورد هذا الإخبار بالغيب في الحديث عن النصر الذي سيتحقق في معركة بدر رغم أن ظروفه لم تكن مهيأة، فقال: {وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ}.

أيضاً، كان الإخبار لرسول الله(ص) وبعد صلح الحديبية بقدوم النصر الحاسم للمؤمنين، رغم أن رسول الله لم يكن قد فتح مكة بعد، حينها نزلت الآية: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً}.

 

كما أخبر الله نبيّه(ص) عما سيجري في المستقبل حين يتحقق الانتصار للمستضعفين على المستكبرين في نهاية الزمان، والذي سيكون على يد الإمام المهدي(عج)، عندما قال: { ونريد أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ}.

 

إذاً، هناك حقيقة ينبغي أن لا تغيب على أحد، وهي أن مجريات المستقبل ليست بيد أحد، بل بيد الله تعالى، لذلك لا يملك أحد الإخبار عنها سوى الله أو من يبلغ عنه..

 

وهذه قناعتنا نحملها إلى أي إنسان يتحدث عما سيجري في هذا البلد أو ذاك، أو لهذا الشخص أو ذاك، نسأله: من أين لك كل هذا؟ هل لك سند من الله أو من رسوله؟ ومن هنا لا بد أن نواجه هذه الظاهرة التي تنتشر وتنتقل عبر وسائل الإعلام والتواصل ممن يتحدثون عن امتلاكهم لمعرفة الغيب من خلال إدعاء تواصلهم مع الجن أو حركة النجوم أو قراءة الكف أو بفتح القرآن أو برؤيا رآها.. لئلا يخضع الكثيرون لما يُثار ويأخذوا به، وقد يرتبون عليه آثاراً نفسية أو عملية سيما إذا برر أولئك أقاويلهم ذلك بالاستناد إلى نصوص دينية.

 

وما يهمنا هنا، هو نزع البعد الديني عن كل هذه الأقاويل والإثارات. فمثلا الحديث عن معرفة الغيب من خلال التواصل مع الجن، فهذا مما يكذبه القرآن الذي أظهر بكل وضوح، وعلى لسان الجن أنفسهم أنهم لا يعلمون الغيب، وذلك عند حديثه عن وفاة النبي سليمان حين قال: {فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ}.

 

أما القول بإخبار الغيب عبر النظر في حركة النجوم والأفلاك، مما يعبر عنه بالأبراج أو التنجيم، واعتبار حركة الكواكب والنجوم لها دور في التأثير على حياة الإنسان وعلى سعادته وشقائه وصحته ومرضه، فهذا لا مستند دينياً له ولا دليل علمياً عليه..

 

وقد نفى رسول الله(ص) أي دور للكواكب في حركة الإنسان فبعدما توفي ولده إبراهيم، وقد كسفت الشمس آنذاك، وراح البعض يقول إن ذلك بسبب وفاة إبراهيم، قال رسول الله(ص) إن الشمس والقمر آيتان لا ينكسفان بموت أحد ولا لحياته، وإن رأيتم  شيئاً من ذلك فافزعوا إلى الصلاة خشوعا لله مدبر الآيات.

 

وقد جاءت الأحاديث لتبيّن الرفض الشديد للأخذ بأقوال المتنبئين الذين يدّعون معرفة المستقبل..فقد ورد في الحديث: "من صدّق كاهناً أو منجماً فهو كافر بما أنزل على محمد".. وفي حديث آخر: "المنجّم كالكاهن، والكاهن كالساحر، والساحر كالكافر، والكافر في النار".

 

والأمر نفسه حتى بالنسبة للبعض الذي يرى ذلك من خلال فتح القرآن أنه يكشف عن المستقبل من زواج وطلاق أو نجاح وفشل وما إلى ذلك، فالقرآن الكريم حدد دور القرآن الكريم بهداية الناس وإرشادهم وبأنه شفاء لما في الصدور ونور يضيء للناس معالم طريقهم، ولم يتحدث عن أنه كاشف عما سيجري للناس.. والأمر نفسه في المنامات، فمن قال أن المنامات تعبر عن حقائق فأغلبها أضغاث أحلام وإذا كان من تفسير لبعضها فمن أين لنا أن نعرف من يملك حقيقة هذا العلم، وكيف يمكن التمييز بين ما هو تفسير حقيقي وغير حقيقي.. وإذا كان من تفسير وارد عن النبي(ص) أو أئمة أهل البيت(ع) فهو خاضع لظروف الأشخاص الذين رأوا هذه المنامات وتفسيرها يختص بهم، فلكل منام ظروفه، فلذلك نقول إذا رأيت مناماً جيداً فادع الله أن يحققه وإذا رأيت ما تخاف منه فتصدق.

 

إذاً لا بد من التنبّه والحذر، من كل أولئك الذين صاروا يمتهنون التلاعب بأعصاب الناس ومصيرهم من خلال الإيحاء بأنهم يمتلكون علم الغيب، ويستغلون بساطة البعض أو رغبتهم بالتعرف إلى المستقبل لخوفهم مما قد يحصل، والتهيؤ لمواجهته، اعتقاداً منهم بأن ذلك من الدين أو من العلم، وهوليس من الدين أو العلم بشيء..

 

أيها الأحبة, إن الإيمان بالغيب هو أصل من أصول الإسلام، وهو أول صفات المؤمنين، كما ورد في سورة البقرة: {الم* ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ* الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ}.. فنحن نؤمن بالغيب، ولكن هذا لا يعني أن نؤمن بأي غيب سوى ذلك الصادر عن القران أو الثابت المتواتر من السنة النبوية وسيرة الأئمة (ع)، وعندما نفهم الغيب بهذه الصورة فإننا سنكون أكثر وعياً ولن ندع أحداً يستغلّنا أو يستدرجنا إلى حيث يريد المتاجرة بنا، بحجة أنه له تواصل مع مصادر الغيب، فإيماننا يدعونا إلى اعتبار كل مساحات الكون الحاضرة والغائبة والخفية عن أسماعنا وأبصارنا، بيد الله وإليه نرجع في كل أمورنا.. وبذلك نصبح أكثر احتراماً لعقولنا وأكثر وعياً في التعامل مع قضايا الكون والحياة والإنسان.

 

 

الخطبة الثانية

 

عباد الله، أوصيكم وأوصي نفسي بوصيَّة الإمام الحسن العسكريّ (ع)، الَّذي نستعيد في هذا اليوم، في الثامن من شهر ربيع الآخر، ذكرى ولادته المباركة، حين قال: "أحبتي، أوصيكم بتقوى الله، والورع في دينه، والاجتهاد لله، وصدق الحديث، وأداء الأمانة إلى من ائتمنكم من برٍ أو فاجر، وطول السجود، وحُسن الجوار، فإنّ الرجل منكم إذا ورع في دينه، وصدق في حديثه، وأدى الأمانة، وحسّن خلقه مع الناس، وقيل هذا شيعيّ، فيسرّني ذلك. اتقوا الله، وكونوا زيناً ولا تكونوا شيناً، جرّوا إلينا كلّ مودة، وادفعوا عنّا كل قبيح، أكثِروا ذكر الله وذكر الموت وتلاوة القرآن والصلاة على النبيّ (ص)، فإنَّ للصَّلاة على رسول الله (ص) عشر حسنات، فاحفظوا ما أوصيكم به، وأستودعكم الله، وأقرأ عليكم السّلام".

 

هذا هو الميزان الَّذي حدّده لنا الإمام (ع)، لنعبّر من خلاله عن مدى ولائنا وحبّنا لأهل البيت (ع)، ونستحقّ به الانتساب والانتماء إليهم، فالدّين جاء لتعزيز هذه القيم، وهي الهمّ الذي حمله أهل البيت مع رسول الله، ولأجله قدّموا الأثمان الغالية والتضحيات.. فلا تُنال القربى منهم بالعواطف والتمنيات فقط، بل لا بدَّ من أن تقترن بهذه القيم والمبادئ. وبهذه القيم، نبلغ قلوب الناس، ونواجه التّحدّيات…

 

الإرهاب العالمي

لا يزال العالم بأجمعه، وخصوصاً العربيّ والإسلاميّ، يعاني الإرهاب الّذي لم يعد له سقف ولا حدود في الزمان والمكان، فهو يقتل الأبرياء، ويفجِّر في مناطقهم حين تغفل عنه عيون الأمن، من دون أن يراعي طبيعة المكان ومن يتواجد فيه، وقد عبث في الأسبوع الماضي بنفوسٍ بريئة في تركيا، وكان بعض ضحاياه من اللبنانيين، والأمر نفسه في بغداد والنّجف والقاهرة وليبيا وسوريا، ولم يكن من ذنبٍ لهؤلاء سوى تواجدهم في المواقع الّتي خطّط لاستهدافها، من دون أيّ وازع من ضمير أو دين أو قيم.

 

ونحن ـ وخلافاً للذين لا يزالون يدّعون أنّ السّبب في كلّ ذلك هو الإسلام ـ نعيد التأكيد أنَّ هذا الادعاء ظلم للدين الإسلامي، فالإسلام الذي جاء رحمةً للعالمين، وليتمّم مكارم الأخلاق، لا يمكن أن يبرّر مثل هذا الإجرام الذي تختفي وراءه قلوب قاسية وحقد وعداوة ورفضٌ للآخر، كلّ آخر.. والَّذي يقتل ولا يفرّق بين مسلم وغير مسلم، وبين مذهب وآخر..

 

نعم، قد يبرّر هؤلاء إجرامهم بأنَّ لديهم منطلقات من نصوص قرآنية أو أحاديث دينية، بحجة أن ما يفعلونه يوصلهم إلى الله، ولكن ذلك لا يثبت أمام الفهم الصَّحيح للإسلام، هم يُخرجون هذه النصوص من سياقاتها أو من ظروفها، ويكفي للدّلالة على أنَّ هذا المنطق غريب عن الإسلام، أن نستذكر كل التاريخ الماضي، حيث عاش المسلمون مع أهل الديانات، دون أن نلحظ مثل هذه الأحداث، فلم نرَ هذا القتل أو هذا العنف أو هذا التدمير، رغم وجود خلاف دينيّ ومذهبيّ وتنوّع حضاريّ في المنطقة.

 

إنّنا لا ننفي وجود هذا المنطق التكفيري والإلغائي، فقد كان موجوداً في السابق وله منظِّروه، لكنه كان هامشياً، ولم يكن القاعدة في الساحة الإسلامية أو العربية، ولم يُحسب له حساب.. نعم، لقد وجد له في هذه المرحلة متنفساً، من خلال تفاقم التناقضات السياسية والقومية والدينية والطائفية والمذهبية التي شهدها ويشهدها العالم العربي والإسلامي بين دوله أو داخل كل دولة، وجاء من يسعى إلى استثمار هذا المنطق وتقويته وتجييشه، للعب أدوار أمنية وعسكرية في إطار الصراع الجاري الذي تعددت أهدافه، بين من يريد أن يخلق من خلاله الفوضى لتغيير خرائط هذه المنطقة، أو يضرب عناصر القوة في هذه الأمة، أو لتصفية الحساب مع هذا البلد أو ذاك، خدمة للكيان الصهيوني، بما يشوّه إلى حدّ كبير صورة الإسلام.

 

إنَّ المطلوب في هذه المرحلة، وفي ظلّ كلّ هذا التوظيف، أن لا نقف مكتوفي الأيدي، بل أن نواجه هذا المشروع التدميري من خلال فضح مسوّقيه وأهدافه الواضحة ونتائجه التدميرية والتفتيتية، والعمل على معالجة التناقضات التي تمثل البيئة الحاضنة لهذا الإرهاب.. ولذلك، نحن مع كل جهد يوقف النزيف الذي تشهده الساحات المختلفة، سواء في سوريا أو العراق أو اليمن، بما يضمن لهذه البلدان الاستقرار، ويمنعها من أن تكون ممراً للإرهاب أو مقراً له.

 

لبنان

ونعود إلى لبنان، الَّذي تستمرّ قواه الأمنيَّة في مواجهة الإرهاب وملاحقة خلاياه وكشفها، وآخرها الخليّة التي كانت تعدّ لأعمال إرهابيّة في الساحة اللبنانية.. وهنا، نقدر للقوى الأمنية دورها في حماية هذا البلد، وندعو إلى استمرار العمل لتعزيز الاستقرار الداخلي، والذي تجلّى في الإيجابية التي برزت في جلسات مجلس الوزراء، وساهمت في صدور العديد من القرارات التي طالما انتظرها اللبنانيون، ولا سيما القرار المتعلق باستخراج النفط، لما له من فائدة على الاقتصاد الوطني ومعالجة الأزمة الاقتصادية..

 

وهنا، نأمل أن تكون هذه القرارات بعيدة عما اعتدنا عليه من محاصصة، وأن تحظى بالشفافية المطلوبة، ولا سيّما في أمرٍ سيادي، كما هو موضوع النفط، الّذي يسيل لعاب الكثيرين لأجله.

 

وفي هذا الوقت، يستغرب اللبنانيون عدم الإسراع في إيجاد آليات لتثبيت قانون الانتخاب، ويتساءلون عن سبب ذلك، فهل التأخير مقدمة للتمديد أو لإعادة الاعتبار لقانون الستين؟ إنّنا نأمل أن لا تكون الصّورة كذلك، وأن تسارع الحكومة إلى تحقيق آمال اللبنانيين في التغيير، من خلال قانون يؤمِّن وصول طبقة سياسية تعبّر عن طموحاتهم ورغباتهم.

 

أزمة الصحافة المكتوبة

ونبقى في لبنان، لنشير إلى الأزمة الّتي باتت تعانيها الصّحافة المكتوبة، والتي تمثّلت مؤخراً بإقفال جريدة السّفير، لعدم قدرتها على الاستمرار بسبب العبء الماليّ الّذي تتحمّله، ومنافسة الإعلام المرئي ومواقع التواصل الاجتماعي.. إنّنا في الوقت الذي نحزن لغياب هذا الصّوت الّذي طالما صدح داعماً للقضايا الكبرى، وكان صوت الذين لا صوت لهم، وللآثار الاجتماعيّة الّتي ستواجهها عائلات كانت تعتاش من هذه الجريدة، فإننا نرى في ذلك إضعافاً لموقع لبنان الإعلاميّ، وللتنوع الذي طبع به هذا البلد.

 

ومن هنا، فإنّنا ندعو الدولة وكلّ الحريصين على صورة البلد، إلى مد يد العون إلى هذه الصحافة، مع الحفاظ على حريتها وتوازنها، بما يضمن لها البقاء والاستمرار، وخصوصاً أن مواقع التواصل لن تكون بديلاً منها، كما يُخيّل إلى البعض.

 

جريمة أنغولا

وأخيراً، نتوقَّف عند الجريمة الأليمة التي أودت بحياة أحد المغتربين اللبنانيين في أنغولا، وهو رجل الأعمال الحاج أمين بكري، الّذي خرج من بلده إلى عالم الاغتراب، باحثاً عن عيش كريم له ولكثير من عائلات وطنه.. إنّنا في الوقت الّذي نعزي أهل الفقيد وأحباءه، ندعو الدولة اللبنانية إلى تحمّل مسؤولياتها تجاه المغتربين، وتأمين سبل الرّعاية والحماية لهم، كي لا يستمروا في تقليع أشواكهم بأظافرهم، ويقدّموا بذلك أرواحهم دونما سند أو نصير من دولتهم.

 

المكتب الإعلامي لسماحة العلامة السيد علي فضل الله

التاريخ: 8ربيع الثاني 1438هـ الموافق :6 كانون الثاني 2017م

 

Leave A Reply