وعدُ اللهِ المؤمنينَ بالنَّصرِ مرهونٌ بالتَّضحياتِ والصَّبر

قال الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ}[البقرة: 214]. صدق الله العظيم.

نزلت هذه الآية في أثناء معركة الخندق، يوم كان المسلمون بقيادة رسول الله (ص) يواجهون تكالب قوى الشِّرك عليهم، وجاؤوهم من كلِّ مكان يريدون اقتلاعهم من المدينة واجتثاث جذور الإسلام منها، وقد أشار الله سبحانه إلى ما كان حال المؤمنين عليه: {إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً}[الأحزاب: 10].

الجنَّةُ محفوفةٌ بالتَّضحيات

وقد أراد الله سبحانه وتعالى من خلال هذه الآية أن يذكِّر المؤمنين في ذلك الوقت، وفي كلِّ وقت، بحقيقتين ينبغي ألَّا تغيبا عن بالهم؛ أوَّلاً: أنَّ الجنَّة الّتي وعدوا بها ويسعون إليها، لن يبلغوها ويحصلوا على نعيمها بالتمنيات والأماني والأحلام، من دون بذل جهد وتحمّل مشاقّ وصبر، وتقديم تضحيات كتلك الَّتي قدَّمها الأنبياء والرسل والصَّالحون، والتي وصلت أن راحوا يستغيثون بالله أن متى يأتي نصرك الَّذي وعدت، والذي أشارت إليه الآية التي تلوناها: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ}، وفي آية أخرى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ}[آل عمران: 142]، وقوله سبحانه وتعالى: {إِنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ}[التّوبة: 111]، وقال: {إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا}[المؤمنون: 111].

وقد ورد في الحديث: “الجنَّة محفوفة بالمكاره والصَّبر، فمن صبر على المكاره في الدّنيا، دخل الجنَّة”.

وإلى هذا أشار أمير المؤمنين (ع) للّذين كانوا يعتقدون أنَّه بقليلٍ من العمل، وبدون تعب وجهد وتحمّل المعاناة، يستطيعون نيل الجنَّة وبلوغها: “أبهذا تريدون أن تجاوروا الله في دار قدسه، وتكونوا أعزَّ أوليائه عنده؟ هيهات! لا يخدع الله عن جنَّته، ولا تنال مرضاته إلَّا بطاعته”.

وعدٌ إلهيٌّ بنصرِ المؤمنين

أمَّا الحقيقة الثّانية، فهي أن النَّصر هو وعد الله للمؤمنين، وهو الَّذي أشارت إليه العديد من الآيات: {وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ}[الرّوم: 47]، وفي آية أخرى: {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ}[غافر: 51]، وعندما قال: {إِنَّ اللهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا}[الحجّ: 38]. هذا الوعد لن يتحقَّق بمجرَّد الالتزام بالإيمان، بل يحصل عندما يظهر المؤمنون صدق إيمانهم عليه، وهذا لا يحصل في  الظروف العاديَّة، بل عندما يقفون في مواجهة عند التحدّيات واشتداد الضّغوط عليهم، سواء كانت ضغوط الحاجة إلى المال أو الشَّهوات أو ضغط الحصار، أو نقص من الأموال والأنفس والثَّمرات، وهذا ما أشار إليه الله سبحانه عندما قال: {الم* أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ}[العنكبوت: 1- 3].

والفتنة التي ِأشار إليها الله عزَّ وجلَّ هنا، يقصد بها الامتحان الصَّعب الَّذي يهزّ أعماق الإنسان ويزلزل كيانه. وهذا يعرف من أصل هذه الكلمة، فالفتنة تعني في أساسها صهر الذَّهب بالنَّار، لينقى مما علق به. فالفتنة عندما تحصل للإنسان، تصهره لتخرج جودته وأصالته، أو ضعفه وانهزامه أمام شهواته وغرائزه وعصبيَّاته وأمام أعدائه.

وقد كان الله عزَّ وجلَّ واضحاً عندما أشار إلى مظاهر هذا البلاء، عندما قال: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ}[البقرة: 155]، وقال: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ}[محمّد: 31].

وفي حديث أمير المؤمنين (ع) عن مدى تأثير البلاء والاختبار: “لتبلبلنّ بلبلة، ولتغربلنَّ غربلة، حتى يعود أسفلكم أعلاكم، وأعلاكم أسفلكم، وليسبقنَّ سبّاقون كانوا قصَّروا، وليقصّرنّ سبّاقون كانوا سبقوا”.

لا نصرَ بالمجَّان

إذاً، أيُّها الأحبّة، إنَّ الله سبحانه لن يهب النَّصر بالمجان للمؤمنين لكونهم مؤمنين، بل للمؤمنين الذين يعبِّرون عن إيمانهم في ساحات التحدي وأمام الضغوط التي تواجههم، للذين يثبتون ولا ينهزمون عندما يواجهون البلاء عند الامتحان.

 وقد أراد الله سبحانه أن يثبّت هذه الحقيقة لدينا عند حديثه عن الرّسل والأنبياء والأولياء والصالحين، وكيف أنه أحاطهم بنصره وتأييده عندما خاضوا الصّراع وواجهوا التحدّيات، وبعدما ثبتوا ولم يتراجعوا.

وهذا ما أشار إليه القرآن الكريم عندما تحدَّث عن الرعاية التي خصّ بها النبيّ نوحاً (ع)، بعد معاناته الطَّويلة مع قومه الّتي استمرَّت تسعمائة وخمسين عاماً، فقال: {وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ * وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ * وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمْ الْبَاقِينَ}[الصّافّات: 75 – 77].

وقد أشار إلى حمايته لنبيِّه إبراهيم (ع) من النَّار ونجاته منها، بعدما تحدَّى الأصنام الّتي كان يعبدها قومه وحطَّمها، حتى حكموا عليه بإلقائه في النَّار، فقال: {فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَن قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنجَاهُ اللهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}[العنكبوت: 24].

وكان نصره للنبيّ موسى (ع) ولقومه، عندما لاحقه فرعون بجيشه ليعيدهم إلى حظيرته، بعدما قرَّروا الخروج من تحت نيره، فكان ما أشار إليه الله سبحانه: {لَمَّا تَرَاءى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ * قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ* فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ * وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ * وَأَنجَيْنَا مُوسَى وَمَن مَّعَهُ أَجْمَعِينَ * ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ * إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ}[الشّعراء: 61 – 67].

وبدت هذه الرّعاية للنبيّ محمّد (ص) في كلّ مراحل دعوته، وقد أشار الله إلى أن هذا التّأييد له ظهر ذلك جلياً، عندما لاحقه المشركون إلى حيث كان في غار ثور مع صاحبه، وقد وصلوا إلى فم الغار، حيث يقول سبحانه: {إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}[التّوبة: 40].

وهكذا تجلَّت في كل المعارك التي خاضها (ص)، في بدر وأحد والأحزاب وخيبر، حيث استطاع أن ينتصر فيها، والتي توِّجت بفتح مكَّة وانصياع الجزيرة العربيَّة له، وهي تمت رغم عدم تكافؤ القدرات والإمكانات بينه وبين قريش وحصون اليهود وإمكاناتهم، والتي أشارت إليها الآية: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً * لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً * وَيَنْصُرَكَ اللهُ نَصْراً عَزِيزاً}[الفتح: 1 0 3] .

وهذه الرّعاية لن تقف عند ذلك، بل هي رعاية ستمتدّ وستكون حاضرة عند كلِّ الذين يثبتون في مواقع التحدّي ويخلصون لله في كلِّ خطواتهم: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ}[الصافّات: 171 – 173].

الثِّقةُ بنصرِ الله

إنَّ هذه الرّعاية الإلهيّة، والثقة بوعد الله عزَّ وجلَّ لعباده بالفرج والنَّصر والتّأييد، نحن أحوج ما نكون إليها في هذه المرحلة لمواجهة كلِّ التحدّيات التي تواجهنا وتهدِّدنا، حتى لا نهزم نفسيّاً أمام التّهاويل والوعيد والتَّخويف، وحتَّى تبقى لدينا الثّقة بالله، ولا نصاب باليأس والإحباط وينهكنا التَّعب.

لكن علينا لبلوغ ذلك أن نقول، كما قال المؤمنون في معركة الأحزاب لما رأوا تكالب الأعداء عليه وإحاطتهم بالمدينة: {هَذَا مَا وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَاناً وَتَسْلِيماً}[الأحزاب: 22]، كانت لهم الثّقة بأنَّ الله ناصرهم ومؤيّدهم ومعزهم، فكان أن ردَّ الكافرين بغيظهم، وما قاله المسلمون حين أرادت قريش أن تدخل المدينة، مستفيدةً مما حصل في معركة أحد من آلام وجراحات، والَّذي أشار إليه الله سبحانه بقوله: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ}[آل عمران: 173 – 174].

جعلنا الله من أولئك الثّابتين والمستقيمين الّذين لا تجعلهم أنفسهم الأمَّارة بالسّوء، ولا شياطين الجنِّ والإنس، ولا كلّ صعوبات الحياة وتحدّياتها، ينحرفون عن الخطّ، ليحظوا بنصره وتأييده في الدنيا، وإعزازه لهم في الآخرة.

بسم الله الرّحمن الرّحيم

الخطبة الثّانية

عباد الله، أوصيكم وأوصي نفسي بما أوصانا به الإمام الحسن العسكريّ (ع)، عندما قال لأحد أصحابه: “أوصيك بتقوى الله، وإقامة الصَّلاة، وإيتاء الزّكاة، فإنّه لا تقبل الصَّلاة من مانعي الزّكاة، وأوصيك بمغفرة الذَّنب، وكظم الغيظ، وصلة الرَّحم، ومواساة الإخوان (في إشارة إلى المؤمنين، لأنَّ المؤمن أخو المؤمن)، والسّعي في حوائجهم في العسر واليسر، والحلم عند الجهل، والتفقّه في الدّين، والتثبّت في الأمور، والتعاهد للقرآن، وحسن الخلق، والأمر بالمعروف، والنَّهي عن المنكر. قال الله عزَّ وجلَّ: {لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِن نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْـلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَآءَ مَرْضَاتِ الله فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيم}، واجتناب الفواحش كلّها، وعليك بصلاة اللَّيل، فإنَّ النبيَّ (ص) أوصى عليّاً (ع)، فقال: يا عليّ، عليك بصلاة اللّيل، ثلاث مرات، ومن استخفّ بصلاة اللّيل فليس منّا. فاعمل بوصيَّتي، ومر شيعتي حتى يعملوا عليه”.

هذه هي وصيَّة الإمام الحسن العسكريّ (ع) لنا. لقد أرادها أن تكون منهجاً لشيعته في السّلوك، ويكون إخلاصنا له بمقدار العمل بها، لنكون بذلك أوفياء له، وأكثر قدرةً على مواجهة التحدّيات.

غزَّةُ تحتَ وقعِ المجازر

والبداية من غزَّة التي لا يكفّ العدوّ الصهيوني فيها عن ارتكاب فظائعه ومجازره بحقّ المدنيّين، والاستمرار في التدمير الممنهج للقطاع، ما أودى حتى الآن بآلاف الضّحايا الشّهداء، وجلّهم من النساء والأطفال والشّيوخ، وأدَّى إلى هدم آلاف العمارات السكنيَّة على رؤوس ساكنيها، ولم يستثنِ من ذلك المستشفيات وأماكن إيواء اللاجئين والمساجد والكنائس.

وهو في ذلك يسعى للثَّأر من هؤلاء، للهزيمة النكراء التي حلَّت بكيانه، والإذلال الذي حلَّ بمنظومته العسكرية والأمنية، ولاستعادة هيبته، والإيحاء مجدَّداً بأنَّه لا يزال الجيش الذي لا يقهر، بعد أن عجز عن ذلك في الميدان، وهو يعتقد أنَّه بذلك يفتّ من عضد المقاومة الفلسطينيَّة وصمود أهل غزَّة وثباتهم في أرضهم.

ومع الأسف، يجري كلّ ذلك في ظلّ تمادي التغطية والدَّعم الغربيَّين الكاملين له، ومنحه الحريَّة الكاملة لأن يفعل ما يريد، ويتجاوز في ذلك الأعراف الدوليَّة والقيم الإنسانيَّة والشرائع السماويّة، تحت عنوان حقّ هذا العدوّ بحماية نفسه، من دون أن يأخذ بالاعتبار ما يرتكبه هذا الكيان بحقّ الشَّعب الفلسطيني، وحقّه في أن يعيش على تراب وطنه، ويحظى بالحرية الكاملة عليها، وأن تتوافر له مقوِّمات العيش الكريم ويعود إليه أسراه.

واجبُ التّضامنِ مع غزّة

إنَّنا أمام ما يجري، نحيِّي صمود الشعب الفلسطيني وثباته، والَّذي يثبت كلَّ يوم مدى صموده وتشبّثه بأرضه، رغم كلِّ الجراح والآلام التي يتعرَّض لها، ورفضه لأن تتكرَّر المأساة التي حصلت له عندما هجِّر من أرضه، ونحيِّي المواقف البطوليَّة لحماة هذه الأرض والمدافعين عنها، وتضحيات العاملين في المجال الطبّي الَّذين يوصلون اللَّيل بالنَّهار لمعالجة الجرحى وتضميد جراحهم، ومن يعملون في الشأن الإعلامي الَّذين يسعون لتقديم الصورة الحقيقيَّة عن مجازر هذا العدوّ، ويبذلون لأجل ذلك التضحيات من أنفسهم وعائلاتهم.

ونقدِّر كلَّ المواقف والأصوات التي تقف اليوم مع هذا الشَّعب، وترفع صوت مظلوميَّته، وتدافع عن حقوقه المشروعة، إن في المحافل الدوليَّة أو غير الدوليَّة.

ونجدِّد في الوقت عينه دعوتنا للدّول الغربيّة الداعمة لهذا الكيان، أن لا تتنكَّر لشعاراتها في احترام شرعة حقوق الإنسان وحقّ الشعوب في تقرير مصيرها، وعدم المسّ بالمدنيّين، وهي من كانت تقيم الدنيا ولا تقعدها، وتشنّ الحروب لأجلها عندما تمسّ، لكن دائماً عندما يكون ذلك لحسابها أو حساب الكيان الصهيوني، وأن تكفَّ عن أن تنظر بعين هذا العدوّ وبما يمليه عليها، بل أن تنظر بعين العدالة إلى مأساة الشعب الفلسطيني، والذي تعرضه كلَّ يوم شاشات التلفزة ووسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي الَّذي يكذب كلَّ ما يدَّعيه العدوّ من أنَّه هو من يعاني ومن يتعرَّض مدنيّوه للاعتداء.

وهنا، لا بدَّ أن نحيّي كلَّ الأصوات الحرَّة التي ارتفعت في هذه البلدان لفضح جرائم العدوّ، رغم كلِّ الإجراءات التي اتخذت وتتّخذ لمنعها من التَّعبير، ولم تنطل عليها كلّ دعايات الإعلام الصّهيوني والإعلام المضلَّل، وخرجت لتعبِّر عن تضامنها مع الشعب الفلسطيني وأهالي غزَّة، ورفضها لدعم حكوماتها لهذا الكيان وجرائمه، ونأمل أن تتوسَّع دائرة هذه المواقف، وترتفع مستويات الضّغط لإحداث تغييرات في سياساتها لحساب وقف هذه المجزرة المتواصلة.

لقد أصبح واضحاً مدى الحاجة إلى مواقف حازمة من الدّول العربيَّة والإسلاميَّة وأحرار العالم، ومن لديه حسّ إنساني وإيمانيّ، لمواجهة آلة الحرب الصهيونية التي لا تكفّ عن القتل والتدمير، بعد فشل الجهود الدبلوماسية، إن على المستوى الإقليمي والدولي في تحقيق ذلك، ولقد شهدنا أخيراً ما حصل في مجلس الأمن من رفض غربيّ فاضح لإصدار قرار دولي لإيقاف نزيف الدَّم والدَّمار، وما واجهه أمين عام الأمم المتَّحدة من ردود فعل سلبيَّة، وصلت إلى حدّ مطالبته بالاستقالة، لأنه طالب بوقف نزيف الدّم في غزَّة، حتى إنَّه اضطرَّ إلى أن يعدِّل نسبياً من تصريحاته بسبب الضّغوط التي مورست عليه.

لبنانُ يساندُ غزّة

ونعود إلى لبنان الَّذي يثبت يوماً بعد يوم وقوفه مع الشعب الفلسطيني في معاناته من خلال قواه الحيَّة، وهو لا يكتفي ببيانات الدَّعم والإدانة، بل يقدّم التضحيات في هذا الطريق، بما يملك من قدرة لوعيه لمخاطر نجاح هذا العدوّ في حرب الإبادة وانعكاسه على قوَّة لبنان، مع وعي تامّ ومسؤول لواقع هذا البلد والظّروف التي يعانيها.

وهنا، لا بدّ أن نثمّن غالياً التضحيات التي قدِّمت، والتي تشير إليها أعداد الشّهداء الَّذين سقطوا، وما يتعرَّض له أهالي الشَّريط الحدودي في أراضيهم وممتلكاتهم، ومن اضطرار بعضهم لمغادرة قراهم وبيوتهم إلى أماكن أكثر أمناً، وهنا ندعو إلى الاحتضان الشَّعبي لهؤلاء، والتضامن معهم، وتأمين كلِّ سبل الدعم لهم، كما نحيّي كلَّ المواقف الصَّادرة عن بعض القيادات اللبنانيَّة المسؤولة، التي دعت إلى فتح الأبواب لكلِّ الذين تسبَّب العدوّ أو قد يتسبَّب في تهجيرهم، ومن المؤسف أن نجد هناك من يتحدَّث بلغة سلبية تسيء إلى روح التَّضامن التي يجب أن تتَّسع على المستوى الوطني، أو نجد من يستغلّ حاجة من اضطرّتهم الظروف لمغادرة قراهم وبيوتهم برفع الإيجارات، من دون الأخذ في الاعتبار ظروفهم والأسباب التي دعتهم إلى أن يغادروا بيوتهم، في الوقت الَّذي ندعو الحكومة اللبنانيَّة إلى القيام بمسؤوليَّتها على كلّ الصّعد، ودراسة كلّ السّبل الكفيلة بتعزيز صمود الأهالي، ومعالجة أيِّ أزمة قد تنشأ من استمرار العدوان الصّهيوني على لبنان، وتداعيات ما يحصل في غزَّة.

وهنا نؤكِّد على الحكومة والمجلس النيابي، العمل لتجاوز كلِّ الاعتبارات التي كانت تمنع من انعقاد مجلس الوزراء كاملاً أو المجلس النيابيّ، لمواكبة كلِّ التطورات، ومعالجة أي تداعيات، ونرى أنَّ الوقت بات أكثر إلحاحاً للإسراع في انتخاب رئيس للجمهوريَّة، وتأمين الاستحقاقات، إن على صعيد الحكومة، أو الفراغ في قيادة الجيش، حرصاً على قوَّة هذا البلد واستقراره، وجعله قادراً على مواجهة التحدّيات، ولمعالجة الأزمات التي تشغل المواطنين على الصّعد المعيشيَّة والاقتصاديَّة والمالية كافّة.

***