يوم الغدير: يوم تثبيت الإيمان بخطِّ أهل البيت (ع)

ألقى العلامة السيّد علي فضل الله، خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عددٍ من الشخصيّات العلمائيّة والسياسيّة والاجتماعيّة، وحشدٍ من المؤمنين، ومما جاء في خطبتيه:

 
 

الخطبة الأولى

‮‬قال الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز: {الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِيناً..}‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬. صدق الله العظيم.

في‮ ‬السنة العاشرة للهجرة، لم‮ ‬يكن الحجّ حجّاً‮ ‬عاديّاً‮،‮ ‬بل كان حجّاً‮ ‬مميَّزاً؛‮ ‬إنّه حجٌّ مع رسول الله،‮ ‬وأيّ‮ ‬حجٍّ هو أكثر بركةً وخيرٌ ‬من هذا الحجّ؟‬‬‬‬‬‬‬‬‬!

يومها، قَدِم المسلمون من كلّ حدبٍ وصَوْب، بعد أن جاءتهم الأخبار بنيّة رسول الله (ص) الذَّهاب إلى مكَّة، وأداء فريضة الحجّ‮. وكانت الحجَّة الوحيدة لرسول الله (ص) الّتي‮ ‬لم‮ ‬يَطُل بعدها الزّمان، حتّى التحق برحاب ربّه‮، ‬ولهذا سميّت حجّة الوداع.‬‬‬‬

 

ماذا تبلَّغ المسلمون؟!

وانتهى الحجّ، وانطلق المسلمون بصحبة رسول الله (ص) ‬عائدين إلى بلادهم‮، وفي الطّريق، ولأمر مهمّ، انطلق النِّداء من منادي رسول الله (ص)، داعياً الجميع إلى التوقّف عند‮ ‬غدير خمّ القريب من ميقات الجحفة.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬

فقد نزل جبريل بالوحي‮ ‬على رسول الله (ص)‮ قائلاً له: {‬يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ‮ ‬بَلِّغْ‮ ‬مَا أُنزِلَ‮ ‬إِلَيْكَ‮ ‬مِن رَّبِّكَ‮ ‬وَإِن لَّمْ‮ ‬تَفْعَلْ‮ ‬فَمَا بَلَّغْتَ‮ ‬رِسَالَتَهُ‮ ‬وَاللهُ‮ ‬يَعْصِمُكَ‮ ‬مِنَ‮ ‬النَّاسِ‮}‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬.

لقد جاء الأمر حاسماً من عند الله عزَّ ‬وجلَّ لرسوله (ص) في‮ ‬ذلك التّوقيت وذلك المكان، في أن يبلّغ ما أمره الله به،‮ ‬وقبل أن‮ ‬يتفرَّق النَّاس، ‬فالكلّ لا بدَّ أن‮ ‬يسمع، وإلّا، ‬فستذهب كلّ الجهود الكبيرة الّتي‮ ‬بذلها رسول الله (ص) لإيصال رسالته إلى الناس أدراج الرّياح‮.

يومها، وقف رسول الله خطيباً، فقال‮: "أمَّا بعد، أيّها النَّاس‮… ‬يوشَك أن أُدعى فأُجيب، وإنّي‮ ‬مسؤولٌ وإنَّكم مسؤولون، فماذا أنتم قائلون؟"، قالوا… نشهد أن لا إله إلا الله، وأنَّ محمّداً‮ ‬عبده ورسوله‮، ‬وأنَّ جنَّته حقّ،‮ ‬وأنّ ناره حقّ، وأنَّ الموت حقّ، وأنَّ السّاعة آتية لا ريب فيها، وأنَّ الله‮ ‬يبعث من في‮ ‬القبور وإليه النّشور.. فقال: ‬"اللَّهمَّ اشهد"، ثم قال: "‬أيّها النّاس، ألا تستمعون؟"، قالوا‮: ‬نعم‮.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬

قال‮: ‬"فإنّي‮ ‬فرطٌ على الحوض‮ (‬متقدّم عليه‮)… ‬فانظروا ‬كيف تخلفوني‮ ‬في‮ ‬الثّقلين"،‮ ‬فنادى منادٍ‮: ‬وما الثّقلان‮ ‬يا رسول الله؟‮ ‬قال‮: "‬الثّقل الأكبر‮: ‬كتاب الله… والآخر الأصغر‮: ‬عترتي‮، ‬وإنّ اللّطيف الخبير نبّأني‮ ‬أنّهما لن‮ ‬يفترقا حتّى‮ ‬يردا عليّ‮ ‬الحوض… فلا تقدَموهما فتهلكوا، ولا تقصروا عنهما فتهلكوا‮".‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬

ثمّ أخذ بيد عليّ ‮(‬ع‮)، ‬فرفعها، حتّى رؤي‮ ‬بياض آباطهما، وعرفه القوم أجمعون، ثم قال‮: "‬أيّها النّاس‬،‮ ‬من أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟"، قالوا‮: ‬الله ورسوله أعلم‮.‬‬‬‬‬‬‬‬

قال‮: "‬إنّ الله مولاي‮، ‬وأنا مولى المؤمنين، وأنا أولى بهم من أنفسهم،‮ ‬فمن كنت مولاه فعليّ‮ ‬مولاه‮" (‬قالها ثلاثاً‮)، ‬ثم قال‮: ‬"اللّهمَّ والِ من والاه، وعادِ من عاداه، وأحبّ من أحبّه، وأبغض من أبغضه، وانصر من نصره، واخذل من خذله،‮ ‬وأدر الحقّ معه حيث دار"‮.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬ ثمّ قال‮: ‬"ألا فليبلّغ‮ ‬الشَّاهد الغائب".

وحتى تترسَّخ في النفوس الأهمية الكبيرة لهذا الحدث، نزلت الآية: {الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ‮ ‬أَكْمَلْتُ‮ ‬لَكُمْ‮ ‬دِينَكُمْ‮ ‬وَأَتْمَمْتُ‮ ‬عَلَيْكُمْ‮ ‬نِعْمَتِي‮ ‬وَرَضِيتُ‮ ‬لَكُمُ‮ ‬الإِسْلامَ‮ ‬دِينً}‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬.

عليّ (ع) خليفة المسلمين

إذاً، ما جرى في غدير خمّ، استوجب يأس الّذين كفروا، فهم كانوا يخطّطون للإجهاز على الرسالة بعد غياب رسول الله، بعدما عجزوا عن الإجهاز عليها في حياته. ولكنّ ما ما حدث في الغدير فاجأهم وخيَّب آمالهم، عندما عيَّن (ص) عليّاً (ع) خليفةً للمسلمين، وإماماً لهم وحامياً لمسيرة الإسلام، ليكتمل به الدّين، وتتمّ به النعمة. وحتى لا يشكّكنّ أحد بوقوع هذا التبليغ، دعا رسول الله (ص) المسلمين أن يبايعوا عليّاً فرداً فرداً، وأن يهنّئوه، وطلب من شاعره حسان بن ثابت أن يسجّل ما حدث شعراً.

هذا‮ ‬هو يوم الغدير أيّها الأحبَّة، ‬يوم تتويج عليّ (ع) ليكون إماماً وخليفةً وقائداً. وتتويجه (ع) لم يكن أمراً ‬طارئاً‮ أو مستجدّاً، بل هو تتويجٌ كان قد بدأ الإعداد له منذ أن فتح عليّ‮ (‬ع‮) ‬عينيه في‮ ‬بيت الله،‮ وامتدّ‮ ‬طوال مسيرته‮،‮ ‬‬‬‬‬‬‬‬‬فهو الذي ‬نعم بتربية رسول الله (ص‮) ‬له منذ سنيه الأولى.

وهو من قال عنه رسول الله (ص): "‬أنا مدينة العلم وعليٌّ‮ ‬بابها".

وفيه نزلت الآية‮: {‬وَمِنَ‮ ‬النَّاسِ‮ ‬مَن‮ ‬يَشْرِي‮ ‬نَفْسَهُ‮ ‬ابْتِغَاء مَرْضَاتِ‮ ‬اللهِ‮ ‬وَاللهُ‮ ‬رَؤُوفٌ‮ ‬بِالْعِبَادِ‮}‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬.

وقوله: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ}. وكان بطل كلّ حروب رسول الله (ص) في بدر وأُحد والأحزاب وخيبر، ومن قال عنه رسول الله (ص): "برز الإيمان كلّه إلى الشِّرك كلّه".

وقال عنه في خيبر: "لأعطينَّ الرّاية غداً رجلاً يحبّ الله ورسوله ويحبّه الله ورسوله، يفتح الله على يديه".

وهو الّذي قال عنه رسول الله (ص): "أنت منّي بمنزلة هارون من موسی، إلا أنّه لا نبيّ بعدي".

إمام الحقّ والعدل

وجاءت التّجربة لتؤكّد الموقع الّذي أُسند إلى عليّ (ع)، ‬بدءاً من الموقف التّاريخيّ الرّائد تجاه ما حصل في سقيفة بني ساعدة: ‬"لأسلمنّ ما سلمت أمور المسلمين"، إلى ممارسته دور ‬المرجع الّذي عاد‬ إليه الجميع،‮ ‬حتّى الخليفة الثّاني‮‬ الّذي قال عنه‮: "‬لولا علي‮ّ ‬لهلك عمر"‮، ‬و"لا كنت لمعضلةٍ ليس لها أبو الحسن‮".‬‬‬‬‬‬‬‬

وفيما بعد، أكَّدت ممارسة عليٍّ ‬للحكم، موقعه الفريد في‮ تقديم أنموذجٍ إسلاميّ. وأوَّل ما بدأ به، هو ترسيم حدود علاقته بالنَّاس، قائلاً‮: "‬لا تكلّموني‮ ‬بما تُكلَّم به الجبابرة، ولا تتحفَّظوا منّي بما يتحفَّظ به عند أهل البادرة،‮ ‬ولا تخالطوني‮ ‬بالمصانعة، ولا تظنّوا بي استثقالاً في حقٍّ قيل لي، ولا التماس إعظامٍ بنفسي، فإنّه من استثقل الحقّ أن يقال له، أو العدل أن يعرض عليه، كان العمل بهما أثقل عليه".‬‬‬‬‬‬

‮ ‬و‬لم‮ ‬يعش عليّ (ع) الحكم إلا مسؤوليّةً عن النَّاس وقضاياهم ومستقبلهم،‮ ‬ولهذا لم‮ ‬يساوم على مصلحتهم، ولا على العدل في‮ ‬التَّعامل معهم، وهو القائل: "أتأمروني‮ ‬أن أطلب النّصر بالجور فيمن ولِّيت عليه؟‮ والله ما أطور به ما سمر سمير، وما أمّ نجمٌ في السّماء نجماً، ‬لو كان المال لي‮ ‬لساويت بينهم، فكيف وإنّما المال مال الله".‬‬‬‬‬‬‬‬

وهكذا، كان النّاس إبّان حكم عليّ‮، ‬يشعرون بالكرامة بين‮ ‬يديه، وهو الّذي قال: "‬القويّ‮ ‬العزيز عندي‮ ‬ضعيف حتّى آخذ منه الحقّ،‮ ‬والضّعيف الذّليل عندي‮ ‬قويّ ‬عزيز حتّى آخذ له بحقّه‮".‬‬‬‬‬‬‬‬

وهكذا بقي‮ عليّ (‬ع‮) ‬يؤكِّد العدل إلى نهاية حياته، حيث قال وهو على فراش الموت لبني‮ ‬عبد المطّلب‮: "يا بني‮ ‬عبد المطّلب، لا ألفينَّكم تخوضون دماء المسلمين خوضاً‮، ‬تقولون قُتِل أمير المؤمنين، ألا لا‮ ‬تقتلنّ‮ بي ‬إلا قاتلي، ‮انظروا إذا أنا متّ من ضربته هذه، ‬فاضربوه ضربةً بضربة، ولا تمثّلوا بالرَّجل، فانّي‮ ‬سمعت رسول الله (ص‮) ‬يقول: إيّاكم والمثلة ولو بالكلب العقور".‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬

مناسبة لتأكيد الولاء

أيّها الأحبَّة، ‬لهذا كلِّه نوالي‮ ‬عليّاً‮، ‬لأنَّ عليّاً لم‮ ‬يكن إلا الحقّ،‮ ‬لم يكن ‬إلا الإسلام الّذي جاء به رسول الله (ص)، إلا العدل،‮ ‬إلا حماية المستضعفين…‬‬‬‬‬‬‬‬‬

إنَّ إحياء‮ ‬يوم الغدير لا نفهمه عودةً إلى التَّاريخ واحتفالاً بالذّكرى فحسب، ‬بالنسبة إلينا هو يوم تأكيد إيماننا بخطّ أهل البيت (ع).

ونحن في التزامنا بهذا الخطّ، ورغم وضوح الصّورة لدينا بصحة ما نؤمن به، إلّا أنّ هذا لا يدعونا إلى أن نعلن العداء لمن يختلف معنا، أو أن نتفجّر غيظاً وحقداً تجاهه، بل يدفعنا إلى فتح باب الحوار معه فيما جرى في الغدير أو غيره، وإلى اللّقاء معه فيما نلتقي عليه.

سيبقى منطقنا هو منطق عليّ (ع) الذي كان يرى الخلافة له، لكن ذلك لم يجعله يقاطع من أخذوا منه الخلافة، أو أن لا يتواصل معهم، كان دائماً حريصاً على التّواصل وعلى وقاية المجتمع من الفتن. ‬‬‬‬‬

هكذا نحبّ عليّاً (ع)

أيّها الأحبَّة، إنَّ ولاءنا لعلي (ع) في يوم الولاية، لن يكون في الاكتفاء بحبّ عليّ (ع)، أو دعوى الانتماء إليه، بل في أن نجري مراجعة، لنتأكَّد أنّنا على صورته في‮ ‬العلم والعبادة والأخلاق والتَّضحية والسَّعي‮ لوحدة المسلمين، ‬والجهاد في‮ ‬سبيل الله، وأن تكون عناصر شخصيّته القياديّة هي‮ ‬الّتي‮ ‬نراها في‮ ‬كلّ قيادةٍ نختارها،‬‬‬‬‬‬‬‬‬ فلن يقبل منّا عليّ (ع) أن نتولاه، ثم لا نكون على سيرته وهداه ونهجه، وهو من قال: "ألا وإنّ ‏إمامكم قد اكتفى من دنياه بطمريه، ومن طعمها بقرصيه، ألا وإنّكم لا ‏تقدرون على ذلك، ولكن أعينوني بورع واجتهادٍ، وعفّة وسدادٍ".

ولذلك، سيكون دعاؤنا دائماً في يوم الغدير وفي كلّ يوم: الحمد لله الّذي‮ ‬أكرمنا بهذا اليوم، وجعلنا من الموفين بعهده، والملتزمين بميثاقه الّذي‮ ‬أوثقنا به في‮ ‬ولاية عليّ (ع) والأئمّة من أهل بيته.

بسم الله الرَّحمن الرَّحيم

الخطبة الثانية

عباد الله، أوصيكم وأوصي نفسي بما أوصى به أمير المؤمنين (ع) واليه مالك الأشتر عندما ولاه مصر، فقال له: "والصق بأهل الورع والصّدق، ثم رضِّهم على ألا يطروك (لا يمدحوك)، ولا يبجحوك بباطل لم تفعله (يفرحوك بنسبة فعل عظيم لم تكن فعلته)، فإنّ كثرة الإطراء تحدث الزّهو (العجب بالنفس)، وتدنّي من العزّة (التكبّر).. ولا يكوننَّ المحسن والمسيء عندك بمنزلة سواء، فإنّ في ذلك تزهيداً لأهل الإحسان في الإحسان، وتدريباً لأهل الإساءة على الإساءة، وألزم كلاً منهم ما ألزم نفسه" (المسيء ألزم نفسه بالعقاب، والمحسن ألزم نفسه باستحقاق الكرامة)".

بهذه الصّورة، أراد الإمام عليّ (ع) لمواليه أن يكونوا، أن لا يقترب إليهم إلا الصّادقون الورعون، وأن يعوّدوهم على عدم الإطراء والثّناء والمدح، وأن يكرموا أهل الإحسان، ويعاقبوا أهل الإساءة، ففي ذلك تعزيز لأهل الإحسان للاستمرار في إحسانهم، ودعوة لأهل الإساءة للعودة عن غيّهم وضلالهم، وليتحمّل كلٌّ بذلك مسؤوليّته.

إنّنا أحوج ما نكون إلى أن تحكم هذه القيم من يتولّون المسؤوليّة لدينا، لنكون بذلك أكثر قوّةً وقدرةً على مواجهة التحدّيات.

لبنان: استكمال المعالجة

والبداية من لبنان، الَّذي عادت العجلة السياسية فيه إلى الدّوران، بعد عودة مجلس الوزراء للانعقاد إثر انقطاع دام أكثر من شهر، في أعقاب لقاء المصالحة أو المصارحة الَّذي عُقد في القصر الجمهوري، والذي جمع الأطراف المتنازعين في الجبل برعاية من الرؤساء الثلاثة.

إننا في الوقت الذي نرى أهمية ما جرى من مصارحة، ونقدّر كلّ الجهود التي بذلت من أجل إنجازها، نرى ضرورة استكمال ما جرى، لإجراء معالجة جادّة لكلّ الأسباب التي أدت إلى حصول الأزمة، فلا تبقى المعالجة بالمسكّنات أو أن تكون آنيّة بفعل ضغوط الخارج، بل أن تكون نتاج وعي الجميع بضرورة إيجاد علاج جذريّ وسريع لكلّ المشكلات التي تحصل في البلد.

لقد كشف ما حدث في الجبل عن هشاشة الواقع السياسي، ومدى الاحتقان الذي يحكم علاقة القوى السياسية وانعدام الثقة فيما بينها، في الوقت الذي يفترض بهذه القوى التي تجتمع في مجلس الوزراء أو في مجلس النواب، أن تتعاون فيما بينها لإخراج البلد من أزماته.

لقد تعب اللّبنانيّون من كل هذا الواقع السياسي، ومن الاستهتار بمصالحهم، في الوقت الذي تستمرّ معاناتهم في أبسط مقوّمات الحياة؛ من الماء، والكهرباء والهواء، وتفاقم أزمة النفايات، وتداعيات الوضع الاقتصادي والمالي والفساد والهدر على حياتهم ومقدّراتهم، وضغوط الخارج عليهم.

إنَّ الحلول لن تأتي من الخارج، هي تأتي عندما يشعر المسؤولون بأنّهم أمام شعب لا ينسى، شعب يراقب ويحاسب في وقت الحساب، وعندها فقط سيحسبون الحساب لمواقفهم، وسيخرجون من حساباتهم الخاصّة إلى حسابات إنسان هذا البلد.

وفي أجواء هذه المعاناة، لا بدَّ من التوقف عند تداعيات أزمة النفايات التي بدأت تطلّ برأسها بقوَّة، والتي، مع الأسف، باتت تأخذ طابعاً مذهبيّاً ومناطقيّاً، وتستدعي معالجة جادّة تلحظ مصلحة البلد.

ولا ننسى أزمة استمرار القنابل العنقوديّة في الأراضي الزراعيّة التي أودت بأكثر من ضحيّة، وآخرها الطفل علي معتوق من بلدة تول، والتي باتت تدعو إلى تحرّك سريع وجادّ وفعّال لمعالجتها.

استهداف الأقصى

أمّا في فلسطين، فلاتزال الدعوات الصهيونية، وآخرها دعوة وزير الأمن لتغيير الوضع القائم في المسجد الأقصى، مستمرّة، وتواكَب باستمرار الاستفزازات والاعتداءات الاستيطانية على الأماكن المقدّسة، وبخاصّة المسجد الأقصى، في سعي من العدوّ لفرض التقسيم الزماني والمكاني على المسجد، بما يمهّد للتحكّم بشؤونه والسيطرة عليه، وذلك بدعم ورعاية أميركيّين.

وهنا نحيّي المرابطين في المسجد الأقصى، ومعهم الحشود الفلسطينيّة من مسلمين ومسيحيّين في القدس، الذين تصدّوا بقوّة في يوم عيد الأضحى لهجمات المستوطنين على المسجد الأقصى بعد أن حاولوا تدنيسه، بذريعة إحياء ذكرى خراب الهيكل المزعوم، كما ندعو جميع الفلسطينيّين إلى الوحدة تحت راية حماية الأقصى، الذي يبدو أنه سيكون، وأكثر من أيّ وقت مضى، في دائرة الاستهداف الصهيوني، بعد التنامي الكبير لوزن اليمين الصهيوني وجماعات الاستيطان وغلاة اليهود المتعصّبين.

الخوف على وحدة اليمن!

أمّا في اليمن، فإنّنا نعبِّر عن خشيتنا من تداعيات المعارك الأخيرة التي جرت في عدن، والَّتي حملت في الكثير من عناوينها العودة إلى مشاريع سابقة استهدفت وحدة هذا البلد، ونحن ندعو إلى تحرّك عربي عاجل لوقف كلّ ألوان الحروب الدائرة في اليمن، واتخاذ موقف موحَّد وحاسم ضدّ أيّ توجّه انفصالي، لأنّ فيه من المضاعفات والمخاطر ما لا يؤدّي فقط إلى تفتيت هذا البلد إلى مكوّنات عدّة، بل إنه ينعكس على دول الجوار، والتي، وإن حسب بعضها أنها تخدم نفوذاً هنا أو هناك، إلا أنّها بمفاعيلها قد تؤدّي إلى ما لا يحمد عقباه على مستوى وحدة دول الخليج الّتي تتربّص بها القوى الخارجية، ويسعى بعضها إلى إعادتها إلى عصر القبائل المتنازعة، بعيداً من الرابطة الوطنية والعربية والإسلامية التي تظلّل الجميع.

ذكرى الانتصار

وأخيراً، نستذكر في هذه الأيام، الذكرى الثالثة عشرة للانتصار الَّذي حصل في العام 2006 على العدوّ الصهيونيّ، والذي تجلّت فيه بطولة المقاومة، ومعها الجيش اللبناني، وصمود أبناء الجنوب والبقاع والضاحية، واحتضان الشعب اللبناني، والمواقف السياسية الحريصة على هذا البلد وقوته.

لقد أكَّد هذا الانتصار أنَّ إسرائيل ليست قدراً في منطقتنا، وأنّ عربدتها والعبث بأمن بلادنا واحتلال أرضنا، ليس بالقضاء الَّذي لا يردّ، وأنَّ الأخذ بأسباب القوّة هو الذي يحقّق المنعة للأوطان والأمن لشعوبها.

إننا نرى أن هذا الإنجاز، وهو الأوّل من نوعه في تاريخ الصراع مع العدوّ، بمعانيه العسكرية الكبيرة، وبالإدارة السياسية المميّزة له، سوف يبقى مصدر إلهام لكلّ الشعوب التوّاقة إلى التحرر من الاحتلال، ومحطة سياسية من محطات الصراع مع هذا العدوّ حتى استعادة الأرض وكل الحقوق، ولكنه في الوقت نفسه، يدعو إلى مزيد من التراصّ والوحدة لمواجهة هذا العدوّ الذي سيسعى جاهداً للثأر من هزيمته

Leave A Reply