في ذكرى ميلاد السيح المسيح:لنؤكد على القيم الدينية والأخلاقية المشتركة
من العناصر التي تميز شخصية الإنسان المسلم عن غيره من أتباع الديانات السماوية الأخرى هو إيمانه بكل الأنبياء والرسل وبما جاؤوا به عن الله وهو في ذلك لا يفرق بين أحد منهم، وإذا كان من تفاضل بينهم فقد أشار الله سبحانه عندما قال: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ}، فهو يعود لحجم الدور الذي حمله الله لكل نبي أو رسول أو لمدى المعاناة التي تعرض كل واحد منهم خلال أدائه لدوره الرسالي.
فالأنبياء كلهم نهلوا من منبع واحد وهم جاؤوا ليبلغوا ما أوحى به الله إليهم، وهو حملهم إلى الناس هدفاً واحداً وهو تحريرهم من أية عبودية لغير الله، فما من نبي إلا وجاء بالتوحيد وإقامة العدل في الحياة {ولقد لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ}..
نعم الرسالات تدرجت فيما جاءت به وهذا تبعا لتطور البشرية وتطور حاجاتها، فكانت كل رسالة تأتي لتضيف أحكاماً وتشريعات له لم ترد في الرسالة التي سبقتها أو لتصحح انحرافاً حُمِّل للرسالة السابقة..
وقد اكتملت الرسالة بما جاء به رسول الله(ص) الذي كان كما أشار الله هو المتمم لكل الرسالات السماوية وكان خاتم النبيين وعليه نزلت الآية: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً}[المائدة : 3]…
وعلى هذا المسلم هو معني بإحياء ذكر كل واحد من الأنبياء والأخذ بسيرتهم ومواقفهم، لا يمكن له وبأي شكل من الأشكال أن يتعرض لنبي من الأنبياء أو يسيء إليه أو يتعرض لرسالة سماوية ويسيء إليها، وتاريخ الإسلام عنده لا يبدأ فقط رسالة النبي(ص) بل هو منذ بدأت الرسالات السماوية وأرسل الله أول نبي إلى البشرية..
وقد جاءت الدعوة من الله بضرورة الإعلان عن ذلك في الآية التي تلوناها {آَمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ}.
ولذلك نجد النبي(ص) عندما تحدث عن رسالته قال"إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق" أي لإكمال البناء الذي بدأه الذين سبقوني بالإيمان.
وقد جاء عنه(ص) " إِنَّ مَثَلِي وَمَثَلَ الأَنْبِيَاءِ مِنْ قَبْلِي كَمَثَلِ رَجُلٍ بَنَى بَيْتًا فَأَحْسَنَهُ وَأَكْمَلَهُ، إِلا مَوْضِعَ لَبِنَةٍ مِنْ زَاوِيَةٍ مِنْ زَوَايَاهُ فَجَعَلَ النَّاسُ يَطُوفُونَ وَيَعْجَبُونَ لَهُ وَيَقُولُونَ: هَلا وُضِعَتْ هَذِهِ اللَّبِنَةُ ؟ قَالَ: فَأَنَا اللَّبِنَةُ، وَأَنَا خَاتَمُ النَّبِيِّينَ".
فالنبي(ص) لم يأت لينقض المرحلة الرسالية التي سبقته بل جاء مصدقاً لها وذلك قول الله سبحانه وتعالى {نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنجِيلَ * مِن قَبْلُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَأَنزَلَ الْفُرْقَانَ}[آل عمران/3].
نعم النبي(ص) أظهر الصورة الحقيقية لرسالات الأنبياء التي سبقته فأزال الشوائب عنها، وأعاد الصورة المشرقة للأنبياء بعد أن تم تشويهها، ومن ذلك تصحيحه لصورة السيد المسيح(ع)…
ومن ثم يقف حاسماً عندما رفض فكرة الوهية السيد المسيح:{مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ}[المائدة/75]. وهو استنطق في ذلك السيد المسيح بأسلوب المحاججة: {أَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَٰهَيْنِ مِن دُونِ اللَّهِ}، ليرد المسيح(ع): {قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ}[المائدة/116].
وقد رفض الإسلام فكرة الصلب وقال: {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ}..
وقد أكد رسول الله أن الدين الذي جاء به من الله هو دين لقاء لكل الديانات السماوية لكونه يحتضنها في داخله، وظهر ذلك جلياً في أسلوب تعامله مع أهل الكتاب:{قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَىٰ كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ}[آل عمران/64
وعلى هذا الأساس لم يكن تعامل الإسلام مع أهل الكتاب كتعامله مع المشركين الذين أعلن البراءة منهم والحرب عليهم، ولذلك عندما دخل المدينة أجرى معاهدة مع اليهود ومنحهم حق التعبير عن دينهم وإيمانهم. مؤكداً أنهم والمسلمين في المواطنية سواء، وإذا كان من حروب حصلت مع اليهود بعد ذلك فهي لم تكن لخلاف على الدين بل لأنهم تأمروا مع مشركي قريش على المسلمين وخانوا العهود ونقضوا المواثيق، في حين تميزت العلاقة مع المسيحيين بالمودة التي غمرت المشاعر والأحاسيس، حتى تحدث عن المسيحيين قائلاً: {َلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ قَالُوَاْ إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ}[المائدة/82
].
وقال في آية أخرى: {وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآَتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً}.
وقد تجلى هذا عملياً في أكثر من موقف في حياة رسول الله(ص)..
فحين ضغطت قريش على المسلمين في بداية عهد الدعوة الإسلامية، مما أضطر بعض المسلمين إلى أن يفكروا في الهجرة، فكان قرار رسول الله إلى أن يهاجروا إلى الحبشة.. وقد علل سبب اختياره الحبشة يومها حين جمع أصحابه سراً وفي مقدمتهم جعفر بن أبي طالب ابن عمه بقوله: "هاجروا إلى الحبشة ففيها ملك صالح لا يظلم عنده أحداً"ـ وقد كان هذا الملك نصرانياً تربى على تعاليم السيد المسيح(ع) وهذا يعني أن في قلبه رأفة ورحمة ومودة للذين آمنوا..
وفعلاً هاجر جمع من المسلمين إلى الحبشة، وقد حاولت قريش آنذاك اللعب على وتر الخلاف الديني بين الإسلام والمسيحية من خلال وفد أرسلته إلى الحبشة، حيث قال رئيس الوفد لحاكمها النجاشي: أن المسلمين يفترون على السيد المسيح(ع) ويقولون فيه قولاً عظيماً أي مسيئاً، فأرسل النجاشي بطلبهم مستفسراً، فوقف جعفر بن أبي طالب وقال أقول به ما جاء به نبيناً عن الله، وتلى عليه: {إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (45) وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصَّالِحِينَ (46) قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}.
لما سمع النجاشي كلامه أغرروقت عيناه من الدمع، وقال هذا والذي جاء به عيسى ليخرج من مشكاة واحدة..
و عندما قدم نصارى نجران إلى المدينة المنورة رغبة في الحوار مع رسول الله، وهم يلبسون أزياءهم الكنسية، ويحملون الصلبان في أعناقهم لم يعترضهم النبي(ص) رغم رفضه لفكرة الصلب، بل استقبلهم في مسجده في المدينة، وعندما حان وقت صلاتهم استأذنوا النبي(ص) أن يدقوا الناقوس في المسجد، مسجده(ص) ويصلوا بصلاتهم أذن لهم بذلك.
وحتى على الصعيد المعنوي نلحظ هذا التقارب والذي سجلَّه القرآن عندما تحدث عن مشاعر الألم التي عاشها المسلمون بعدما غلب الفرس المشركين الروم المسيحيين في الحرب، وذلك لاشتراكهم معهم في الإيمان بالمسيح(ع) وكانت البشرى حينئذ أن نزلت الآيات: {غلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَن يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ}[الروم/2-5] ما يكشف طبيعة العلاقة التي سادت بين المسيحية والإسلام، وهي علاقة عبر عنها الإسلام بالقول وبالفعل والتي بسببها عاش المسيحيون في ظل الإسلام بسلام واطمئنان، يعبدون الله بحرية في كنائسهم ومعابدهم، وإذا حصل هناك من أحداث فلها ظروفها التي لا تتصل أبداً بموقف معادٍ للإسلام من المسيحية…
إننا في ذكرى ميلاد السيد المسيح، ومن موقع الإيمان المشترك بالقيم الدينية والأخلاقية نؤكد أن الحاجة ماسة لنقف مسلمين ومسيحيين معاً في مواجهة الانحراف الإيماني والخلقي، وفي مواجهة الظلم والاستكبار لتحقيق الأهداف التي جاء بها السيد المسيح، وتلك التي جاء بها رسول الله(ص)، أن نبعث من جديد العزيمة الإيمانية التي دفعتهم لبذل كل التضحيات لترسيخ الوعي الديني والأخلاقي وتجسيد قيم الحق والعدل والحرية والكرامة الإنسانية في الحياة… أن نعيد إلى قلوبنا المحبة التي ملأت قلب السيد المسيح(ع) وقلب رسول الله(ص)
أيها الأحبة إننا نريد لذكرى ولادة السيد المسيح، كما نريد لولادة النبي(ص) أن تكون ولادة للحياة التي أرادها لنا، فالإحياء لن يتحقق بالشكليات والطقوس، أو بوضع شجرة وموالد واحتفالات… هو يتحقق بأن نستجيب لكلام السيد المسيح(ع) عندما قال {مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ}[آل عمران/52
].
أن نصغي إلى منطقه الذي هو منطق رسول الله(ص) عندما يقول: "صلوا من قطعكم، وأعطوا من منعكم وأحسنوا إلى من أساء إليكم، وسلموا على من سبكم، وأنصفوا من خاصمكم، واعفوا عمن ظلمكم، كما أنكم تحبون أن يعفى عن إساءتكم فاعتبروا بعفو الله عنكم، ألا ترون أن شمسه أشرقت على الأبرار والفجار منكم، وأن مطره ينزل على الصالحين والخاطئين منكم؟ فإن كنتم لا تحبون إلا من أحبكم ولا تحسنون إلا إلى من أحسن إليكم ولا تكافئوا إلا من أعطاكم فما فضلكم إذاً على غيركم".
فالسلام عليه كما سلم على نفسه يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حياً…
إنها وصية لنا بأولادنا، أن نربي فيهم حبّ الخير وروحية العطاء، أن لا يكونوا خيراً لأنفسهم فقط، بل خيراً لمجتمعهم وأمتهم، بحيث يهتمون بالشأن العام. هؤلاء هم زادنا عندما نقف بين يدي الله، فيعوضون نقص أعمالنا، ويسدون عنا إساءاتنا، ويرفعون من درجاتنا. ومتى فعلنا ذلك، فإننا نطمئنّ إلى مستقبلهم في الدنيا والآخرة، ونعالج واقعنا بعد أن بات المناخ السائد يدفع الأبناء إلى الاهتمام بأنفسهم وعدم إيلاء الآخرين أي اهتمام.
أيّها الأحبّة، إنَّ مجتمعاً تنمو فيه إرادة الخير وروح العطاء والاهتمام بمن حوله ويتربّى عليه، هو الأقدر على مواجهة التحديات، وما أكثرها!
القدس
والبداية من القدس، التي أدى قرار الرئيس الأميركي الاعتراف بها كعاصمة للكيان الصهيوني، ونقل سفارته إليه، إلى أن تكون في واجهة القضايا.. فبعد ما جرى في العالم العربي والإسلامي، جاء دور العالم كله، بما تجلى في وقوف أربع عشرة دولة من دول مجلس الأمن الدولي ضد القرار الأميركي، وقد كاد يصدر بالأكثرية الساحقة لولا استخدام أميركا للفيتو لمنع صدوره.. ثم جاء بعده القرار الذي صدر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة، حين وقعت 128 دولة في مقابل تسع دول، لتتحدى مجدداً القرار الأميركي، رغم ما تمثله أمريكا من موقع في هذا العالم، ورغم الوعيد والتهديد الَّذي صدر عن رئيسها وإدارتها بإيقاف المساعدات الأميركية عن أية دولة تعارض القرار الأميركي، لتبدو أميركا، ولأول مرة، بهذه العزلة الدولية، بحيث يتم التصدي لقراراتها، وهو ما يشير إلى منحى عالمي جديد، إن هو استمر فسيبعد أميركا عن أن تكون هي صاحبة القرار الأول في العالم.
ونحن نرى فيما حصل نصراً معنوياً لقضية القدس، وبالتالي لقضية فلسطين، تمثّل بهذا الالتفاف العالمي حول القضية، ورفض الممارسات التي يقوم بها الكيان الصهيوني ضد الشعب الفلسطيني، كما نرى فيه نصراً للعالم العربي والإسلامي، حين تجرأ على القرار الأميركي وتصدى له.
لكنَّ هذا القرار، رغم أهميته، يبقى نصراً معنوياً لن يكون له أية مفاعيل على أرض الواقع، إذا لم يبنَ عليه لتطويره، لأنَّ أميركا ستتابع تنفيذ ما قررته، وقد يزيدها ما جرى عناداً، والكيان الصهيوني لن يؤثر فيه هذا القرار ما دام يملك الرعاية من أقوى ترسانة عسكرية، وما دام العالم العربي والإسلامي يعيش الترهل في داخله وبين دوله وشعوبه.. فعلى دول العالم العربي والإسلامي أن لا تنام على حرير الإنجاز الذي حصل، وتعتبر أنها أدت قسطها إلى العلى، وتقنع شعوبها أنها قامت بواجباتها في ذلك.. بل لا بدَّ من أن تتابع جهدها وعملها مستفيدة من هذا الزخم الدوليّ، ومن التغير في المزاج العالميّ لصالح قضية فلسطين والقدس، باستعمال وسائل الضّغط التي تمتلكها، سواء الدبلوماسية أو الاقتصادية أو السياسية أو أية وسائل أخرى.
إننا نراهن، وسنبقى، على صمود الشعب الفلسطيني، واستمرار حضوره في الميدان، لكون دوره هو الأكثر فاعلية وتأثيراً، ولأنَّ صوته الأقوى. وقد أبدى هذا الشَّعب، ولا يزال، عزيمة وإرادة واستعداداً للتضحية، رغم كلّ ما يعانيه من واقع اقتصادي واجتماعي صعب، لكنّ هذا الشَّعب لن يستطيع أن يتابع مسيرته ما لم يحصل على دعم شعبيّ وماديّ واقتصاديّ وإعلاميّ وسياسيّ، حتى لا يرى نفسه وحيداً أمام الكيان الصهيوني أو أمام المخططات التي ترسم له.
وفي الوقت نفسه، سنبقى ندعو الدّول والشعوب في العالم العربي والإسلامي، وكلّ الأحرار في العالم، إلى مواجهة ما جرى وما قد يجري، فالقرار الَّذي صدر لم يصدر عبثاً، والَّذي أصدره يعرف جيّداً ما سينتج منه من ردود فعل، وقد جاء ضمن خطوة ترسم لإخضاع المنطقة، هي التي يتحدث عنها البعض بصفقة القرن، لينهي معها القضية الفلسطينية، ولا يقدم للشعب الفلسطيني إلا الفتات.
لبنان
ونصل إلى لبنان، الّذي لا يزال يحظى بغطاء دولي، وخصوصاً من دول الاتحاد الأوروبي التي تريد له الاستقرار، ولكن هذا لا يعني أن ينام اللبنانيون على حرير هذا الاستقرار، بل لا بدَّ من استمرار العمل في الداخل لتمتين الساحة الداخلية وتثبيتها، بتعزيز الوحدة الوطنية، وإعادة وصل ما انقطع بين القوى السياسية، وتعزيز لغة الحوار فيما بينها، وتلافي الأزمات التي تبرز بين فترة وأخرى على السطح، والتي نتجت منها القرارات غير المدروسة الموجودة في هذا البلد أو تلك التي تجاوزت الصلاحيات الدستورية.
وفي الوقت نفسه، فإنَّ البلد أحوج ما يكون إلى مقاربة اقتصادية واجتماعية جادّة، حتى لا تتفاقم الأمور على المستوى الاقتصاديّ والاجتماعيّ والمعيشيّ، بعد أن أصبح واضحاً أن على لبنان أن يقلع أشواكه بأظافره، بعد تفاقم الأزمات في محيطه، وحاجة هذا المحيط إلى الدّعم الّذي يريده أن يكون مرهوناً بسياساته، ولبنان يقع خارجها في هذه المرحلة.
إنَّ على اللبنانيين أن يكونوا جادين في تثبيت أرضهم في هذه المرحلة، في ظل التجاذب الإقليمي والدولي الذي لن يكون لبنان بمنأى عنه، إن لم يعمل اللبنانيون على أن لا يكونوا وقوداً له، بحيث لا يكون لبنان مجدداً ساحة لتصفية الحسابات، ولا يسمح للآخرين بأن يجدوا فرصة لهم في ذلك.
ونبقى في لبنان، لنشير إلى نقطتين إيجابيتين، النقطة الأولى هي السرعة في اكتشاف الجرائم التي تحصل، حيث نهنئ القوى الأمنية على ذلك، وهي بالطبع ستساهم في تقليل نسبة هذه الجرائم، ولكن يبقى الأساس هو دراسة سبل توقّي حصولها، والتقليل منها ما أمكن، وهذا يحتاج إلى عمل دؤوب على كلّ المستويات.
والنقطة الأخرى هي أهمية الحفاظ على حرية الإعلام، التي تعتبر واحدة من ثروات لبنان، فلا يساء تحت أي عنوان سياسي أو قضائي أو أمني إلى هذه الحرية التي نتطلع دائماً إلى أن تكون حرية مسؤولة.
اليمن
ونصل إلى اليمن، الَّذي وصلت الحرب عليه إلى ما يقارب ألف يوم، من دون أن تلوح في الأفق بوادر حلّ، فعلى الرغم من سقوط آلاف القتلى والجرحى، ومعظمهم من المدنيين، وتفاقم الأمراض المميتة، فإن الحرب مرشحة للتفاقم، في ظلّ غطاء دوليّ فاضح لاستمرارها، من دون أن يصغي أحد إلى الأصوات التي تدعو إلى وقف آلة القتل ورفع الحصار.
لقد قلنا سابقاً، وسنكررها لاحقاً، بأنَّ هذه الحرب هي حرب عبثية لا أفق لها، وستكون نتائجها تدمير اليمن واستنزاف الجميع.. هذا درس الماضي، وهو درس الحاضر والمستقبل أيضاً لمن يعيه.. والحلّ هو بحوار جاد وموضوعي يلحظ مصلحة اليمن واستقرار محيطه.