المعاشرة بالمعروف أو الطلاق بإحسان

ألقى سماحة العلامة السيّد علي فضل الله، خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عددٍ من الشخصيّات العلمائيّة والسياسيّة والاجتماعيّة، وحشدٍ من المؤمنين، ومما جاء في خطبتيه:
 
الخطبة الأولى
 

قال الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلَا تَتَّخِذُوا آَيَاتِ اللَّهِ هُزُواً وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} صدق الله العظيم…

 

في إطار الحديث عن الزواج نجد أن الإسلام قد ركز على الرابطة التي ينبغي أن تحكم العلاقة بين الزوجين، رسم معالمها وتحدث عن الجوهر والمسؤولية أكثر مما تحدث ربما عن الشكل: بمعنى العائلة والأسرة بمعناها الاجتماعي الحديث..
 
 وقد جسد القرآن سمات العلاقة بعناوين محددة وشاملة: العنوان الأول {وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً}.. (لاحظوا كم هو مكثف ويختزن المعاني: بعبارتين: مودة ورحمة). عنوان عريض آخر: تبادل المعروف {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ..} ونجد كذلك عنوان الستر والحماية {هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ} وهناك عناوين كثيرة تعتبر العلاقة الزوجية والعائلية ساحة لقياس سمو الأخلاق، وقد تجلى ذلك في قول رسول الله(ص): "خيركم خيركم لأهله، وفي حديث آخر لعياله".. كما ونجد تركيزه على عناوين الصبر والاحترام والاستيعاب من الطرفين، حيث ورد في الحديث عن رسول الله(ص): "مَن صَبَرَ عَلى سُوءِ خُلُقِ امرَأتِهِ واحتَسَبَهُ؛ أعطاهُ اللّه‏ُ تعالى بكُلِّ مرة يَصبِرُ علَيها مِنَ الثَّوابِ، ما أعطى أيُّوبَ عَلى بَلائهِ".
 
وفي المقابل: "مَن صَبَرَت عَلى سوءِ خُلُقِ زَوجِها؛ أعطاها مِثلَ ثَوابِ آسِيَةَ بِنتِ مُزاحِمٍ".. امرأة فرعون التي قال الله عنها: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ آَمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}.
 
.. ولا يصدقن أحد أن الأمر كما هو شائع مختص بالزوجة تجاه زوجها فقط هي عليها طاعته، الاهتمام به رعايته خدمته فيما الأمر لا يتعلق به.. 
 
باختصار: لقد أرادها الله علاقة تبادلية تباذلية تراحمية تُخرج العلاقة الزوجية من إطارها الحسي الغريزي النفعي المادي إلى الأفق الإنساني الرحب لتكون الأسرة نواة خير ونفع للمجتمع وللحياة. 
 
وحتى يضمن القواعد المتينة للبيت الزوجي، فقد دعا الإسلام إلى التزام معايير تقتضي حسن اختيار كل من الزوجين للآخر فلا يكون متسرعاً أو يتحكم به، كما يحدث غالباً، المال أو الجمال أو الموقع أو النسب.. ودعا إلى النظر إلى البيئة والتنشئة والخلق والدين "إذا جاءكم من ترضون خلقه ودينه فزوجوه".. وفي حديث: "إذا جاءكم من ترضون دينه وأمانته".. "وعليكم بذات الدين". وفوق هذا كله دعا إلى التكافؤ والتناسب (وخير مثال تجسد فيه التكافؤ في أبهى صوره هو زواج علي بفاطمة).. وقد ورد في ذلك الحديث عن رسول الله(ص): "لو لم يُخْلَقُ علي ما كان لفاطمة كفؤ"..
 
ولكن لأن الإنسان غير معصوم وخطاء وجهول وآثم وعجول ومتقلب ومتغير، فقد لا تتحقق هذه المواصفات في كل ارتباط زوجي.. أو قد يفقد الإنسان هذه المواصفات ويتبدل وتتعدد الأسباب كثيراً ويحدث الخلل ويتهدد استمرار الحياة الزوجية… من هنا كان الإسلام واقعياً عندما فتح باب الطلاق لفك عرى هذه العلاقة والانفصال.. وبالتالي السماح لكل من الزوجين أن يتابع حياته بعيداً عن الآخر.
 
 وهنا يُطرح السؤال: هل واقعية الإسلام ورضوخه للأمر الواقع، وتشريعه للطلاق، والذي قد لا يكون مبرراً في بعض الحالات، تعني أنه لا يأبه بتداعياته الخطيرة التي وتحديداً على الأولاد أولى ضحايا التشرذم والتفكك العائلي مع ما تطالعنا به الدراسات النفسية والتربوية حول مخاطر ذلك على مستقبلهم أو على المجتمع عندما لا ينالون حقهم من الرعاية والتربية والتوجيه..
 
الموضوع متشعب وواسع وللإحاطة به نحتاج العديد من الخطب لذلك، ولكن دعوني أوجز بعدة النقاط في معرض التوضيح للنظرة الإسلامية وليس من باب الدفاع فقد عمل القرآن على منظومة قامت على عدة خطوات قبل الوصول إلى إجراء الطلاق:
 
1- أولاً: هز صورة الطلاق كتشريع محلل ووضعه في رتبة السلوكيات التي حتى إن حللت فالله يبغضها.. مما يخلق بطبيعة الحال لدى المؤمن والراغب في حب الله له والحريص على أسمى العلاقة به، حاجزاً نفسياً يجعله يتورع عن الطلاق أو يتأنى به وإن طلق فهو يتعامل مع الطلاق كحل الضرورة وليس كبقية المباحات والمكتسبات.. في الحديث: "ما أحلّ الله شيئاً أبغض إليه من الطلاق"، "إنَّ اللهَ يُحِبُّ البيتَ الَّذي فيهِ العُرسُ، ويُبغِضُ البيتَ الذي فيهِ الطَّلاقُ".
 
2- ثانياً العمل على الجانب التربوي السلوكي لتبديل المفهوم في ذهن من يرغب بالطلاق، عندما دعاه للنظر إلى الايجابيات والحسنات في الآخر وعدم الاستغراق في السلبيات وتبديل الزاوية التي ينظر من خلالها إليه وإعطاء الوقت فرصة الكشف عن هذه الايجابيات..وهذا نستدل به بما أشار الله سبحانه وتعالى عندما قال: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً}..
 
3- ثالثاً فرملة مكابح الطلاق واندفاعاته، عبر إنشاء محكمة الصلح العائلية، وهي تتألف من حكمين واحد من أهل الزوج وحكم آخر من أهل الزوجة، طبعاً ممن يُشهد لهما بالحكمة والصبر والمقبولية {حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِهَا}، وتتميز هذه المحكمة بالتأثير والفاعلية أكثر من أي وسائل أخرى تعتمد على القوانين الجافة والجامدة لسببين: أنها تعيش مع أصحاب المشكلة على الأرض وممن هم أعلم بالطرفين وثانياً لها المَوْنة بحكم الاحترام.. والأهم أن لها قدرة على المتابعة وشاهدة على تطبيق الاتفاقات.ولكن للأسف بات هناك استخفاف بهذه المحكمة بالرغم من أنها تختصر الكثير من المراحل ومن تدخل القانون والإعلام والناس وصرف المال والوقت…
 
ونحن هنا ندعو إلى إنشاء مثل هذه المحاكم لتكون هي المحضن لحل المشكلات الأسرية والزوجية، حتى نتوقى ما أمكن عواقبها، ولعدم التعامل مع القضايا الأسرية بالبعد القانوني أو الشرعي فقط من دون الأخذ بعين الاعتبار الأبعاد الأخرى التربوية والاجتماعية والمعطيات الواقعية التي لا بد أن تلحظ في مثل هذه الحالات.
 
ولكن كما تعلمون وبالرغم من كل هذه الدعوات إلا أن الطلاق قد يحصل ولا مهرب منه فكيف تعامل الإسلام مع عملية الطلاق نفسها وبأية روحية أراد للزوجين أن يواجها هذا الأمر منعاً لتداعياته السلبية.. سنوجزها في نقاط سريعة:
 
أولها قاعدة ذهبية تشبه قاعدة المودة والرحمة في الزواج وهي قاعدة المعروف والإحسان، فالقرآن الكريم أظهر بشكل واضح أن الطلاق لا يمكن أن يكون بالإساءة والأذية والرغبة بالانتقام والظلم ورد الصاعين صاعين كما يحصل غالباً: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ}… وقوله تعالى: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ}.
 
وأكثر من هذا… التفتوا كيف أن الله برحمته ورعايته يعامل الزوجين بما يشبه العلاج نفسي لهما، فينعش ذاكرتهما بالصور الايجابية بينهما من الماضي: فلا ينسى كل منكم فضل الآخر عليه.. ولذلك قال: {وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ}. ونحن للأسف كل واحد ينكر فضل الآخر عليه وهو وحده صاحب الفضل وكثيرة هي الأفضال لو تذكرناها.
 
ولقد ذكر الزوج بالخصوص، ليحفظ حق المرأة، باعتبار أنه قد يسعى بكل جهده لتتنازل الزوجة عن مهرها متناسياً فضل الزوجة عليه ولا حتى ظروفها، ومتجاوزاً لحدود العدل:{وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآَتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً}…
 
أما إذا حصل الطلاق،وكان من أولاد، فقد أكد الإسلام أن لا بد من أن يؤخذ بعين الاعتبار الحاجات العاطفية لكل من الزوجين، فلا يساء إلى عاطفة الأب أو الأم {لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ}.. أما حاجة الأولاد من الرعاية والاهتمام، فقد نظمها الإسلام عندما جعل للأب الولاية على أولاده بمعنى إدارة شؤونهم وتأمين متطلباتهم وحياتهم..ونظم سن الحضانة والذين تختلف الآراء حوله بين من يرى السنتين للأم وبعدها للأب، وبين من يرى السبع سنوات للأب والأم.. وهناك رأي موجود عند الفقهاء الماضين وتسنده أحاديث عن الإمام الصادق: "المرأة أحق بالولد ما لم تتزوج"..
 
ونحن في هذا المجال ما نحب أن نشير إليه أمران متصلان:
 
الأوّل أن باب الاجتهاد في هذا الموضع مفتوح ويجب أن يُبلوَر نحو حلول فضلى تأخذ بمقاصد الشريعة السمحاء بعيداً عن التشريعات الفقهية المعلّبة الجامدة والذكورية في مرات عديدة للأسف، ولذلك لا ينبغي اعتبار الرأي بالسنتين محسوماً ويحاسب الدين على أساسه..
 
والأمر الثاني والأساسي أن مصلحة الولد أولاً وأخراً يجب أن تكون هي الأساس في ترتيب مسألة الحضانة وبعيداً عن أي اعتبارات أخرى والولاية التي أعطيت للأب ليست حقاً مكتسباً وتشريفياً إنما هي مسؤولية، وعليه أن يتصرف فيها بما فيه المصلحة للولد لا بعيداً عنه كما يحصل نتيجة التوتر الذي قد يحصل من الطلاق.. فإن كانت المصلحة تقتضي أن يكون الأب هو الحاضن فليكن، أما إذا كانت المصلحة أن يبقى عند الأم فليكن عند الأم و إن كان للمداورة والمشاركة سبيل فينبغي ذلك..
 
نعم، ولضمان حسن إدارته لولايته لا بد من التأكيد على ضرورة وجود آليات إدارية تضمن التطبيق السليم والواعي والتربوي والنفسي، التطبيق القائم على العدل والرحمة وعدم الانحياز.. وإلى جانب ذلك وحتى لا تحدث مشكلات في المستقبل في موضوع الحضانة أو غيره، نجدد الدعوة إلى تنظيم عقد الزواج كدفتر شروط واضحة لكلا الزوجين مع التوعية حوله لتلافي أي إشكالات قد تحدث في المستقبل وباب الشروط مفتوح للزوجين على كل شيء حتى حق الطلاق والحضانة وغيرها.. 
 
أيها الأحبة؛ إن موضوعاً كموضوع الزواج وبناء الأسرة لا بد أن يحظى باهتمام كبير من الفقهاء أولا ورجال العلم والتربية وبتعاون كل الذين يملكون رؤية واضحة وأفكاراً تجديدية ليكون العمل جاداً في معالجة خلل التطبيق جراء الفساد ومظاهر استغلال الرجل لحقوقه وسلطته.. وهنا أهمية الدعوة إلى تأسيس المحكمة الأسرية وتوفير مجال رفع الشكاوى والسعي لحلها بكل أبعاد الحل الذي لا يقف عند الشأن القانوني أو الشرعي بل يتعداه إلى النفسي والتربوي والاجتماعي، لعلنا بذلك نصلح واقعنا الأسري ونمنع أية سلبيات عنه وبذلك نكون مهتمين لأمور مجتمعنا ولتحصينه. 
 
فليس منا من أصبح ولم يهتم بأمور المسلمين 
اللهم أصلح سوء حالنا بحسن حالك اللهم أعنا على نظم أمرنا
انك سميع مجيب
 
الخطبة الثانية
 
عباد الله، أوصيكم وأوصي نفسي بما أوصانا به الإمام الكاظم(ع)؛ هذا الإمام الذي مرّت علينا ذكرى ولادته في السابع من هذا الشهر، حين قال: "أوصيكم بالخشية من الله في السر والعلانية، والعدل في الرضا والغضب، والاكتساب في الفقر والغنى، وأن تصلوا من قطعكم، وتعفوا عمن ظلمكم، وتعطوا من حرمكم، وليكن نظركم عبراً، وصمتكم فكراً، وقولكم ذكراً، وطبيعتكم السخاء، فإنه لا يدخل الجنة بخيل، ولا يدخل النار سخي".. وقال أيضاً: "قُل خيراً، وأبلغ خيراً، ولا تكن إمّعة، لا تقل أنا مع الناس، وأنا كواحد من الناس. يا أيها الناس، إنما هما نجدان نجد خير ونجد شرّ، فلا يكن نجد الشرّ أحبّ إليكم من نجد الخير".
 
 

أيّها الأحبَّة، عندما نأخذ بهذه الوصايا ونلتزم بها، نعبّر عن حبّنا وولائنا الحقيقي لأهل البيت(ع)، فهم لا يريدون منا الاكتفاء بالدّموع وبمشاعر الحزن، بل يريدون مواقف وحلولاً في ميادين الخير والعمل وساحات الوعي، وبذلك نواجه التحدّيات.

 

لبنان

والبداية من لبنان، حيث لا يزال اللبنانيون ينتظرون ولادة الحكومة العتيدة، التي يأملون أن لا تطول مدّة تشكيلها، أسوةً بالتجارب السابقة. ومع الأسف، أصبح الانتظار الطويل هو ما يحكم اللبنانيين في التعامل مع تشكيل الحكومات، حتى لو كانت مثل هذه الحكومة الّتي لن تدوم لأكثر من 7 أشهر، وتأتي في ظرف استثنائي بالغ التعقيد داخلياً وخارجياً، لقلّة الوزارات السيادية وكثرة المستوزرين. ولكن المشكلة هنا، تكمن في عدم استعداد أحد لأن يتنازل لحساب الآخر، لتسيير الأمور وإزالة التعقيدات.

 

وفي ظلّ كلّ هذا الجدل الدائر حالياً، فإننا نضمّ صوتنا إلى صوت كل الداعين إلى الإسراع في تأليف حكومة، لكننا لا نريدها أية حكومة، بل نريدها حكومة وحدة وطنية، تأخذ بعين الاعتبار التوازن الطائفي والمذهبي والسياسي، لضمان استقرار البلد الذي لا يقوم ولا يُحكَم إلا بالتوازن، وأن يتمّ الاختيار على أساس الكفاءة ونظافة الكفّ والمصداقية، وقدرة الوزير على النهوض بالموقع الَّذي سيستلمه.

 

إنّ من حقّ كلّ طائفة أو مذهب أو موقع سياسيّ، أن يختار من يمثّله، لكنّه عليه أن يختار من يخدم الجميع، وأن يفكّر في حسابات الوطن، لا أن يبقى متلبّساً بثوبه الطائفي والمذهبي، وهذا لا يعني أن يتنكّر لطائفته أو مذهبه أو موقعه السياسيّ، لكن أن يختار الشَّخص الَّذي يخدم الجميع ويتحمل مسؤوليته عنهم جميعاً.

 

إنّ التّمسّك بهذا المنطق هو ما ينتظره اللبنانيون من العهد الجديد، فهم يريدون أن يروا منه نمطاً جديداً في اختيار من يتصدّون لمواقع المسؤوليَّة، والتعاون في إدارة شؤون البلد، فبذلك نبني وطناً ودولةً.

 

إنّنا لا نريد أن نحمِّل العهد الجديد أكثر مما يتحمّل، فنحن نعرف حجم التركة الثقيلة والتعقيدات في الساحة الداخلية، وندرك أن التغيير في التركيبة ليس سهلاً، لكن هذا لا يعني الانكفاء أو التبرير للاستمرار في الأخطاء السابقة.

 

إنّ مشهد الحكومة القادمة نريده أن يكون تعبيراً عما يطمح إليه اللبنانيون، لا أن يكون صورة متكررة في الأسلوب والإدارة.. إنَّ التغيير في هذا البلد لن يتم إلا من خلال أولئك الذين يستعدون للتضحية من أجل بلوغه.

 

ونبقى في هذا البلد، لنثمّن أجواء التلاقي التي بتنا نشهدها، وندعو مجدداً إلى طيّ كل الصفحات السوداء من تاريخ هذا البلد حول القضايا التي شكلت موضع خلاف بين أبنائه، وسبّبت لهم جراحاً.. ونريد لهذه الصّفحات السّوداء ألا تكون أساساً لهذا العهد.

 

إنَّ اللبنانيين أحوج ما يكونون في هذه المرحلة إلى أن يتوحدوا على استقلالهم وعلى مقاومتهم.. والعالم اليوم يغبط أبناء هذا البلد على قدرتهم على التآلف، في الوقت الذي يضجّ المحيط حولهم بالخلافات والصّراعات والدمار.

 

إنَّ ما وصل إليه اللبنانيون هو نعمة، ومن مسؤولية الجميع أن يحافظوا عليها، وأن يتنازلوا لحساب الوطن، لا أن يعتمدوا على توافق دولي وإقليمي على تبريد الساحة اللبنانية، حتى يبقى حفظ البلد نتاج إرادة اللبنانيين وخيارهم، وبناءً على قناعة راسخة، بأن البلاد لا تُحفظ إلا بإرادة أبنائها ووحدتهم.

 

الانتخابات الأميركية

وإلى الانتخابات الأميركية، التي شكّلت الحدث الأول في العالم، نظراً إلى موقع أميركا في هذا العالم، ودورها الكبير في الكثير من مشاكله وقضاياه، تأزيماً أو معالجةً.. إنّنا في هذا المجال، نعيد التأكيد على ما كنّا أشرنا إليه سابقاً عند حديثنا عن الانتخابات الأميركيّة، وهو أنّ ما يحكم الناخب الأميركي هو الوضع الداخلي أو القضايا الخارجية المؤثرة فيه، وأن من ينجح هو الَّذي يستطيع إقناع الشعب بأنه يحمل الرفاه الاقتصادي له، ويعالج مشكلاته الخاصة.

 

نعم، ما يقلقنا هو الخطاب الذي سمعناه، والذي يحمل الكثير من الكراهية تجاه المسلمين أو المهاجرين، وتجاه اللون الآخر، ويسيء إلى مصالح فئات كثيرة من هذا الشعب، وهو ما لا نرى مصلحة لأحد في تكريسه. وتكمن خطورته في أنه يأتي متجاوباً مع خطاب نراه يتردّد في أوروبا.

 

أما السياسة الخارجية التي قد يراهن الكثيرون على حدوث تغييرات فيها، فإننا لسنا من الذين يراهنون على ذلك، لأنّ أميركا ستبقى أميركا التي نعرفها، وستظلّ تتحرك من وحي مصالحها ورغباتها فقط، بأن تكون هي الأقوى في هذا العالم، وهي لن تخرج عن سياستها في الهيمنة والسيطرة على ثروات الدول والشعوب ومقدراتها لتحقيق رفاهيتها أو لإبقاء سيطرتها على هذا العالم، فيما سيبقى الكيان الصهيوني هو الولد المدلّل لها.

 

إنّ رهاننا سيبقى على تنمية عناصر القوة لدينا في كلّ الميادين، فقد أثبتت كل التجارب أن ما يغيِّر سياسات الكبار هو إرادات الدول والشعوب، وهذا ما ينبغي دائماً الرهان عليه عندما تسعى دولنا وشعوبنا إلى بناء قوتها. عندها، سيضطر العالم إلى التعامل معنا باحترام. لذلك، نقول لكل الخائفين والمتوجّسين: ما عليكم إلا أن تعالجوا نقاط ضعفكم، وتبنوا مواقع قوتكم. عندها، سيحترمكم العالم الذي لا يحترم المتسكّعين على أبواب الدول الكبرى لحمايتهم.

 

المكتب الإعلامي لسماحة العلامة السيد علي فضل الله

التاريخ :11صفر 1438هـ الموافق :11 تشرين الثاني 2016م
 
 

Leave A Reply