في ذكرى يوم الغدير: هل نقتدي بنهجٍ عليّ (ع)؟!

السيد علي فضل الله

الخطبة الأولى

قال الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِيناً}. صدق الله العظيم.

اكتمال الرّسالة

نلتقي في الثّامن عشر من ذي الحجّة بمناسبة مفصليّة في التاريخ الإسلامي، وهي عيد الغدير، الذي نستعيده في هذه الظّروف الصعبة، لنتسلهم منه بعض العبر.

ففي هذا اليوم، وأثناء عودة رسول الله والمسلمين من أداء فريضة الحجّ، وفي مكان يسمَّى غدير خمّ، نزل جبريل على رسول الله (ص) قائلاً له: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ}.

مباشرةً، لبّى رسول الله ما أمره الله به سبحانه وتعالى، ولم يمنعه من ذلك حرارة الجوّ ولا رمضاء الصّحراء، وعلى مرأى الجميع، أخذ رسول الله بيد عليّ (ع) ورفعها، ثم قال لهم: “ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟”، وعندما قالوا بلى يا رسول الله، قال: “من كنت مولاه فعليّ مولاه، اللّهمّ والِ من والاه، وعادِ من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله، وأدر الحقّ معه حيثما دار”.

بعدها نزلت الآية على رسول الله لتقول: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً}، لتبيّن أنّ الدين ما كان يكتمل، وما كانت لتتمّ نعمته على الناس، لو أنّ الولاية والخلافة لم تسند إلى عليّ (ع)، فعليّ هو الوحيد الذي يملك الكفاءة والأهليّة لحفظ الإسلام من الانحراف، في تلك المرحلة التي كان فيها الإسلام غضّاً طريّاً، وكانت التحدّيات من الداخل والخارج لا تزال ماثلة.

وهذا ما ظهر بعد وفاة رسول الله (ص)، حين حصل الخلاف حول الخلافة ورسول الله لما يوارى الثّرى، وكاد هذا الخلاف أن يتحوّل إلى فتنة تطيح بكلّ الإنجازات والتّضحيات.

يومها، ظهر الإمام عليّ (ع) بمظهر الحريص على بقاء الإسلام وعلى وحدة المسلمين، عندما تحرّك لوأد الفتنة على قاعدة: “لأسالمنّ ما سلمت أمور المسلمين، ولم يكن بها جور إلا عليّ خاصّة”.

الحاكم الأمين

وعندما تولى الخلافة، قدّم (ع) أنموذجاً للحاكم الإسلاميّ الأمين على أموال المسلمين ومقدّراتهم.

ولذلك، رفض منطق الذين جاؤوا إليه مشفقين على حكمه من معارضيه، من رؤساء القبائل والوجهاء، وقالوا له لو أخرجت هذه الأموال وأغدقتها على هؤلاء الرّؤساء والأشراف، “حتى إذَا اسْتَتَبَّ لَكَ مَا تُرْيدُه، عُدْتَ إلى مَا عَوَّدَكَ اللهُ مِن العَدْلِ في الرَّعِيَّةِ وَالقِسْمَة بِالسَّوِيَّةِ”.

فقال: “أَتَأْمُرُونِّي أَنْ أَطْلُبَ النَّصْرَ بِالْجَوْرِ فِيمَنْ وُلِّيتُ عَلَيْهِ! وَاللهِ لاَ أَطُورُ بِهِ مَا سَمَرَ سَمِيرٌ، وَمَا أَمَّ نَجْمٌ فِي السَّمَاءِ نَجْماً! لَوْ كَانَ الْمَالُ لِي لَسَوَّيْتُ بَيْنَهُمْ، فَكَيْفَ وَإِنَّمَا الْمَالُ مَالُ اللهِ لَهُمْ؟!”.

وقد فعل ذلك مع أخيه الكبير عقيل كما يروى، عندما جاء إليه يطلب ما يزيد من العطاء عن غيره، لأنّه كان يرى أمر المال بيد أخيه، فأراد عليّ (ع) أن يظهر له خطورة هذا الفعل، فأحمى له حديدة وأدناها منه، وعندما أحسّ بحرارتها، قال له: أتريد أن تحرقني بالنّار؟ فأجابه (ع): “أَتَئِنُّ مِنْ حَدِيدَةٍ أَحْمَاهَا إِنْسَانُهَا لِلَعِبِهِ، وَتَجُرُّنِي إِلَى نَارٍ سَجَرَهَا جَبَّارُهَا لِغَضَبِهِ، أَتَئِنُّ مِنَ الْأَذَى وَلَا أَئِنُّ مِنْ لَظَى؟!”.

وعندما علم أنّ أحد ولاته تصرّف بالمال العام بغير وجه حقّ، أرسل إليه محذِّراً: “أما تؤمن بالمعاد؟ أو ما تخاف نقاش الحساب؟ أيّها المعدود ـ كان ـ عندنا من ذوي الألباب، كيف تسيغ شراباً وطعاماً، وأنت تعلم أنّك تأكل حراماً وتشرب حراماً؟… فاتّق الله، واردد إلى هؤلاء القوم أموالهم، فإنّك إن لم تفعل ثمّ أمكنني الله منك، لأعذرنّ إلى الله فيك، ولأضربنّك بسيفي الذي ما ضربت به أحداً إلا دخل النّار”.

لقد كان عليّ (ع) يعرف من أين تؤكل الكتف، وكان يمكنه أن يبلغ ما بلغه معاوية من شراء قلوب النّاس وذممهم بالمال العام، ولكنَّه رفض كلّ ذلك، ولذلك عانى من النّاكثين والمارقين والقاسطين الذين أثاروا الحروب عليه، لأنه رفض أن يجاملهم على حساب مبادئه وعلى حساب أموال النّاس ومصالحهم.

الحاجة إلى نهج عليّ (ع)

أيّها الأحبَّة: إنّنا أحوج ما نكون، في ظلّ الواقع الّذي نعانيه من هدرٍ للمال العام والاستهتار به، ممن يتصدّرون مواقع المسؤوليّة في الدولة، وهم في أعلى الهرم، وحتى في اوسطه وأدناه، إلى نهج عليّ (ع)، والذي كان يرى الإساءة إلى المال العام خيانة وجريمة لا تغتفر.

أيّها الأحبّة، إنّ من يسرق المال العام ويسيء إدارته، لا يمكن أن تبرأ ذمّته إذا أراد التّوبة، إلا من خلال ملّاك ذاك المال، وهم جميع المواطنين، والحساب لا يكون إلا معهم جميعاً. لذلك، نحن مدعوّون إلى أن نتّقي الله في أموال الناس ومقدّراتهم، سواء كانت نقداً، أو قدرات وإمكانات وضعت بين أيدينا، أو ممتلكات أو مرافق، وأن نعي أنّ الله سيكون خصم من يسيء إلى أموال عباده وإلى أرزقاهم وإلى ارواحهم، وسيكون حسابه عسيراً، ولن تنفعه عند ذلك تغطية وحصانة يتحصّن بها، سواء  سياسيّة أو طائفيّة أو مذهبيّة، وهي لن تغني عنه من الله شيئاً.

عيد الغدير مسؤوليّة

أيّها الأحبَّة: عيد الغدير يوم مسؤوليَّة، لأنَّ من ينتمي إلى عليّ، لا بدّ أن يرتقي إلى أخلاق عليّ وعبادته وجهاده وتضحياته: “ألا وإنّ إمامكم قد اكتفى من دنياه بطمريه، ومن طعمه بقرصيه، ألا وإنّكم لا تقدرون على ذلك، ولكن أعينوني بورع واجتهاد، وعفّة وسداد”.

بسم الله الرَّحمن الرَّحيم

الخطبة الثانية

عباد الله، أوصيكم وأوصي نفسي بوصيّة عليّ (ع)، بما أوصى به شيعته عندما قال: “عليكم بالجدّ والاجتهاد، والتأهّب والاستعداد، والتزوّد في منزل الزاد، ولا تغرنّكم الحياة الدّنيا كما غرّت من كان قبلكم من الأمم الماضية، والقرون الخالية، الَّذِينَ احْتَلَبُوا دِرَّتَهَا، وَأَصَابُوا غِرَّتَهَا، وَأَفْنَوْا عِدَّتَهَا، وَأَخْلَقُوا جِدَّتَهَا، وَأَصْبَحَتْ مَسَاكِنُهُمْ أَجْدَاثاً، وَأَمْوَالُهُمْ مِيرَاثاً، لَا يَعْرِفُونَ مَنْ أَتَاهُمْ، وَلَا يَحْفِلُونَ مَنْ بَكَاهُمْ، وَلَا يُجِيبُونَ مَنْ دَعَاهُمْ. فَاحْذَرُوا الدُّنْيَا، فَإِنَّهَا غَدَّارَةٌ، غَرَّارَةٌ خَدُوعٌ، مُعْطِيَةٌ مَنُوعٌ، مُلْبِسَةٌ نَزُوعٌ، لَا يَدُومُ رَخَاؤُهَا، وَلَا يَنْقَضِي عَنَاؤُهَا، وَلَا يَرْكُدُ بَلَاؤُهَا”.

أيّها الأحبّة، هذه وصيّة عليّ لنا، أن نرى الدّنيا للعمل والجدّ والاجتهاد، والتزوّد ليوم يقف الناس أمام ربّ العالمين، لتجزى كلّ نفس بما كسبت، فلا نراها كما رآها من خدعوا فيها، واغترّوا بمفاتنها وشهواتها وغرائزها، فكانت لهم هي الغاية والهدف، وهي لن تبقى لهم ولن يبقوا لها، ومتى وعينا ذلك، فإننا سنكون أكثر وعياً ومسؤوليّة وقدرةً على مواجهة التحدّيات.

تحت وطأة الكارثة

والبداية من الكارثة التي حلّت باللّبنانيّين، بفعل الانفجار الهائل الذي حدث في المرفأ، وحصد عشرات الضّحايا والمفقودين وآلاف الجرحى، وخلَّف وراءه دماراً هائلاً في هذا المرفق الحيويّ، وفي المباني السكنيّة، وفي المؤسّسات العامّة والخاصّة، والمحالّ التجاريّة، والمستشفيات ودور العبادة، وترك تداعياته على الصّعيد الاقتصاديّ والاجتماعيّ والسياسيّ والنفسيّ في هذا البلد.

إننا أمام هذا المشهد المروع والمؤلم الّذي تعتصر لأجله قلوبنا حزناً وألماً، نتقدّم بأحرّ التعازي إلى أهالي الضّحايا، والدّعاء بالرّحمة لمن فقدوا حياتهم، وبالشّفاء العاجل للجرحى، وندعو اللّبنانيّين الذين توحّدوا بالمعاناة بكلّ طوائفهم ومذاهبهم ومواقفهم السياسيّة، إلى التّضامن والتّكاتف والتعاون في هذه المرحلة.

ولا بدّ هنا أن نقدِّر عالياً المبادرات التي انطلقت من كلّ المناطق، لمدّ يد العون والمساعدة إلى من فقدوا بيوتهم وأرزاقهم وممتلكاتهم، ورغم الظروف الصعبة التي يعانونها، والتي أظهرت عمق العلاقة بين اللّبنانيّين وأصالتهم، وندعو أن تتابع هذه المساعي، مع الشّكر لكل الدول التي قدَّمت وتقدِّم المساعدات إلى اللّبنانيّين، وإن لم تبلغ حتى الآن مستوى حجم الكارثة التي تقدَّر بالمليارات.

للإسراع في التَّحقيق

وفي هذا المجال، ندعو الحكومة لتكون على مستوى المسؤوليّة، في العمل السّريع لمعالجة آثار الكارثة، والكشف عن مصير المفقودين، والتّعويض على من فقدوا بيوتهم وممتلكاتهم وسبل عيشهم.

وفي الوقت نفسه، الإسراع في التّحقيق، ليعرف المواطنون حقيقة ما جرى، وبكلّ شفافية، ومعاقبة من تسبّبوا به، مهما كبرت انتماءاتهم الطائفيّة ومواقعهم السياسيّة، حتى لا يبقى الغموض يلفّ هذه القضيّة، والكلّ يعرف مدى تداعيات ذلك على الدّاخل والخارج، أو أن تضيع هذه القضيّة بالتّمييع واللّعب على الوقت، أو بتقاذف المسؤوليّات، أو أن تدفن في الدّهاليز الطائفيّة والمذهبيّة حمايةً للمسؤولين الحقيقيّين.

إنّ الحكومة أمام امتحان لن تكون تداعياته سهلة، إن هي تغاضت أو قصّرت أو فشلت في محاسبة المجرمين، وإلا ستوفّر مزيداً من الفرص والذّرائع لكلّ المتربّصين بهذا البلد، لاعتبار أنّ هذه الدولة فاشلة بكلّ المقاييس، وعاجزة عن توفير الأمن والاستقرار للّبنانيّين، ما يبرّر الدّعوة إلى وصاية دوليّة تسقط كلّ مقوّمات السيادة والاستقلال لهذا الوطن.

وهنا، لا بدّ أن نقدّر للقضاء الخطوات التي اتّخذها، والتي تحتاج إلى أن تستكمل، وأن لا تقف عند حدود معيّنة، مشدّدين على ضرورة إعطاء القضاء كلّ الاستقلاليّة في هذه القضيّة، كما في كلّ القضايا، وهو الذي أثير ويثار حول بعضه الكثير من التّشكيك في نزاهة أحكامه وخضوعه للقوى السياسيّة، حتى تتوفّر شروط القصاص العادل لكلّ الرّؤوس الكبيرة والصّغيرة المسؤولة، لعلّنا نبلسم، ولو بقدر، بعض هذه الجراح والآلام والخسائر الّتي ولّدتها هذه الكارثة، ونفتح باباً للإصلاح المنشود في كلّ مؤسّسات الدولة ومكافحة الفساد.

العبرة بالتّغيير

وهنا، كان من المعيب على كلّ القيادات المسؤولة في هذا البلد، أن يأتي رئيس دولة ليؤنّبهم على تقاعسهم، وعلى عدم قيامهم بمسؤوليّاتهم تجاه الناس الذين ائتمنوهم على مواقعهم.

إنّ هذه الفاجعة لم تدفع اللّبنانيّين إلى اليأس، بالرغم من كلّ الكوارث التي يعانونها على المستوى المعيشي والاقتصادي، وإن أضافت إليهم معاناة جديدة عمّقت معاناتهم السابقة، والتي نريدها أن تعمّق من مسؤوليّتهم للعمل الجادّ للخروج من كلّ هذا الواقع البائس الّذي إن استمرّ، فسيزيد من معاناتهم ومآسيهم.

إنّ الوفاء للشّهداء والجرحى ولكلّ من أصابتهم هذه الفاجعة، هو بتغيير هذا الواقع، وبالعمل الحثيث والجادّ لاستعادة منطق الدولة في كلّ مؤسّساتها، حتى لا تتكرّر هذه المأساة بطرق أخرى، مع التّأكيد أنّ التّغيير لن يكون بأيدي الآخرين، بل بأيدي النّاس أنفسهم، ممن يحوّلون آلامهم وجراحهم إلى حافز للانطلاق نحو مستقبل أفضل.

ازدياد مخاطر كورونا

وأخيراً، لا بدّ أن نعيد التّذكير بضرورة أخذ أقصى درجات الحيطة والوقاية أمام ارتفاع أعداد الإصابات بفيروس كورونا، ولا سيّما أمام المخاطر الجديدة التي ترتّبت على هذه الكارثة، بعد خروج العديد من المستشفيات عن الخدمة الفعليّة، إضافةً إلى ما أصاب مستودعات الأدوية من تلف.